خير ما يوصى به في تحمل أذى الخلق
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
:الحمد لله المبدأ المعيد، الفعالُ لما يُريد ، خلق فسوى، وقدر فهدى ، أحمده وأشكره وأُثني عليه الخير كله هو رب كل شيء ومليكه، وأُصلي وأُسلم على رسوله ومصطفاه محمد ابن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه تفوزوا وتفلحوا، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)
عباد الله: جعل الله تعالى أقضيته وأقداره التي يقضيها ويقدرها على عباده متاجر يربحون بها، وطُرقاً يصلون منها إليه، كما ثبت في صحيح مسلم عن إمامهم صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ! فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر ! فكان خيراً له"، فالصبر والشكر عليهما مدار الإيمان، قال أحد السلف رحمه الله: " الإيمان نصفان : صبر وشكر" ، لقوله تعالى { إنَّ في ذلك لآيات لكل صبارٍ شكورٍ } ، وحديثنا في هذه الخطبة عن نصف الإيمان الأول وهو: الصبر ، وهو ثلاثة أقسام
الأول: صبر العبد على طاعة الله تعالى ومجاهدة النفس على الالتزام بها وأداءها وفق ما شرعه الله عز وجل ويرضيه
الثاني: صبر العبد عن قول أو فعل المنهيات وإتيانها، فإن النفس ودواعيها وتزيين الشيطان، وقرناء السوء؛ يُحسنون له المعصية ويجرؤنه عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها ومخالفت
:الثالث: صبر العبد على ما يُصيبه مما يكره بغير اختياره من المصائب وهي نوعان
.الأول : لا اختيار للعبد فيها، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه يسهُل الصبر فيها، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله تعالى وقدره، وأنه لا مدخل للناس فيها، فيصبر إما اضطراراً، وإما اختياراً
الثاني : أن يقع عليه ما يكره بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه أو ولده ، فهذا النوع يصعب الصبر عليه جداً، لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام، ولا بد للإنسان من مخالطة الناس فهذا أمر فطري، ومن وطن نفسه على الصبر على ما يُصيبه منهم أفلح ونال الخيرية، أخرج الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله كلاماً نفيساً في كتابه " قاعدة في الصبر" وبيّن عشرون وجهاً مما يُعين العبد على الصبر مما يلقاه ما يكره من الناس، لخصتها في عشرة أوجه مستفادة من كلامه رحمه الله، من تأملها وسعى جاهداً للتحلي بها كانت بعد توفيق الله تعالى خير معين للراحة والسلامة من الآثار المترتبة على أذى الناس
.أولها: أن يستحضر العبد ويوقن بأن الله عز وجل خالق أفعال العباد حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه ومشيئته سبحانه، وما هؤلاء العباد إلا أدوات ، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك؛ تستريح من الغم والحزن
الثانــي: أن يتفكر العبد فيما أحدثه من ذنب ، وأن الله تعالى إنما سلطهم عليه بسبب ذنبه، كما قال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، فإذا استحضر العبد ذلك اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطتهم عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم والسعي للانتقام، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ، ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال : هذا بذنوبي ، صارت في حقه نعمه
الثـالـث: أن يستحضر العبد حُسن الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر، كما قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله }، وإذا شهد مع ذلك فوات الأجر بالانتقام والاستيفاء سهّل عليه الصبر والعفو، فإذا صبر وعفى أورثه ذلك سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغل، وطلب الانتقام، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلاً وآجلاً على المنفعة الحاصلة له بالإنتقام أضعافاً مضاعفة، ويدخل في قوله تعالى { والله يحب المحسنين}، فيصير محبوباً لله تعالى وكفى بذلك عوضاً مباركاً طيباً
الرابع: أن يعلم العبد أنه إن عفى أعزه الله تعالى، وهذا مما أخبر به عليه الصلاة والسلام فقال : « ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا» رواه مسلم ، ويسلك بذلك منهج أشرف خلق الله رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لم ينتقم لنفسه قط، كما يستحضر بأن الجزاء من جنس العمل ، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفى عن الناس عفى الله عنه، فإذ استحضر ذلك وعفى طمعاً في عفو الله تعالى وصفحه عن ذنوبه سُهل عليه عفوه وصبره
.الخامس: أن يعلم العبد أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه ما لا يمكن استدراكه، وهذا أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهة من اعتدا عليه ، فإذا عفى وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام
السادس: أن يستحضر العبد معية الله تعالى ، ومحبته له إذا صبر واحتسب، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لا يدفع عنه أحد من خلقه، قال الله تعالى : { واصبروا إن الله مع الصابرين} ، وقال سبحانه: { والله يحب الصابرين}، فالله سبحانه ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه، ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله تعالى إلى نفسه، فكان هو الناصر لها، فأيهم خير ؟ من ناصره الله سبحانه خير الناصرين، ومن ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفهم
السابع: أن يستحضر العبد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يُنقص من إيمانه جزءً في نصرة نفسه، فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص، والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا
الثامن: أن يستحضر العبد أن صبره على أذى الناس حُكم منه على نفسه وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه وأسره وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه. فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه؛ فحينئذ يظهر سلطان القلب ويثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه
التاسع: أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره، ولوم الناس له ، فيعود بعد إيذائه له مستحياً منه، نادماً على ما فعله؛ وهذا في الغالب ، بل قد يكون بعد ذلك موالياً له ، وهذا معنى قوله سبحانه : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }، وربما كان انتقامه لنفسه سبباً لزيادة شر خصمه وتفكره في أنواع الأذى التي يوصلها إليه كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفى أمن من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، ثم إنه إذا عفى عن خصمه، استشعر خصمه أنه فوقه وخير منه، وأنه قد ربح عليه وزاد فضلاً عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو
العاشر: أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر ، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها في الغالب ، وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يُخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعز إذا انقلب ظالماً ينتـظر المقت والعقوبة، وإذا ستحضر العبد أن هذه المظلمة التي ظُلِمها هي سبب، إما لتكفير سيئة، أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته إزداد حرصه على العفو والصبر والصفح
.اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين على أذى الخلق والعافين عنهم ابتغاء فضلك وإحسانك
أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
:الحمد لله عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته، أما بعد
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا ، وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
.سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين