خير الناس أنفعهم للناس
عبد الله بن علي الطريف
خير الناس أنفعهم للناس 1444/4/17هـ
أيها الأحبة: سرحت طرفي متأملاً للمعاني الضخمة التي يدل عليها قَولُ الرَسُولِ ﷺ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» وفي رواية «فَلْيَنْفَعْهُ» رَوَاه مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فتمَلَّكَ نفسي العجبُ من هذا الحديث الذي لا يملك الإنسان إذا قرأه أن يمر به دون أن يقف عنده ويتدبر بعض معانيه؛ فقد اشتمل هذا الحديث على معاني رائعة تأخذ بالألباب..
أحبتي: اعلموا أن السعادة والنجاح والفلاح التي يجدها مَنْ نفعَ الناس بأي نفع مهما قَلَّ أو صغُر لا يجدها غيره..
ذلك أن السعي في نفع الآخرين وفعلِ الخير لهم من أعظم الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان؛ فقد قرنه الله سبحانه بأعظمِ عباده وهي الصلاة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77] قال الشيخ السعدي رَحِمَهُ اللهُ: يأمر تعالى، عباده المؤمنين بالصلاة، وخص منها الركوعَ والسجود، لفضلهما وركنيتِهما، وعبادتَه التي هي قُرةُ العيون، وسلوةُ القلب المحزون، وأن ربوبيتَه وإحسانَه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة، ويأمرهم بفعل الخير عموما. وعلق تعالى الفلاحَ على هذه الأمور فقال: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاصِ في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن وفق لذلك، فله القدحُ المعلى، من السعادة والنجاح والفلاح..
وقال تعالى عن أصفيائه عليهم السلام: (..وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ..) [الأنبياء:73]. أي: يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شامل لجميع الخيرات، من حقوق الله، وحقوق العباد.
أيها الأحبة: ولقد سَمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بمن ينفعُ عبادَ اللهِ إلى درجةٍ عظيمة وبوأه مكانةً علِيِّة حيث أخبر ﷺ: لما سُئل: أي الناس أحب إلى الله.؟ فقال: «أحبّ النّاس إلى اللّه تعالى أنفعهم للنّاس» حديث صحيح رواه الطبراني.
بل جعل رَسُولُ اللهِ ﷺ من يتصفُ بنفع الأمة خيرَ الناس فقَالَ: «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» رواه الطبراني في الأوسط عَنْ جَابِرٍ وقال الألباني حسن. ولم يقتصر الإسلام على أن جعل من يقوم بنفع الناس من خيرهم وأحبهم لله ويالَ فضل هذا المقام.! بل جعل رسولنا ﷺ تقديم الخير والنفع للمسلمين من الصدقات..
والصدقات منها ما ظاهره السهولة والبساطة للطفه؛ ولكنَّ أثره يتغلغل في أعماق النفس، وقرار الوجدان فيهزها هزاً.. تأمل أيها الأخ المبارك قوله: ﷺ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ». رواه الترمذي وصححه الألباني.. وقوله ﷺ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ». رواه مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. لتعلم أن تبسمك في وجه أخيك، الذي يبدو لك أنَّه هيناً.. ولهونه لا تراه من الصدقات..
وفي الحقيقة هو أشق شيء على النفس التي لم تتعود الخير ولم تتجه إليه.! فهناك أناس لا يتبسمون أبداً، ولا تنفرج أساريرهم، ولا ينطلق محياهم، وهم يلقون غيرهم من الناس.! بوجوه عابسة.. ونفوس منقبضة.. فينابيع الخير فيها مغلقة عليها أقفالها.!
واعلم أن الابتسامة المشرقة على الوجه الطلق تعمل فيمن يلقاك عمل السحر.! جربها.! نعم جربها.. جرب أن تلقى الناس بوجه طلق، تعلو ثغرك ابتسامةٌ مشرقة.. ثق أنك سترى العجب..
واعلم أن تلك الابتسامة وحدها.. نعم وحدها فقط.. تفتح مغاليق النفوس.. وتنفذ إلى أعماق النفوس.. وتصل إلى القلوب.! فتحرك الطاقة المكنونة في كيان من قابلته، فتربط بينك وبينه رباط الجاذبية.!
لنتخيل أننا جميعاً في هذا المسجد عزمنا على أن نلقى الناس بوجه طلق وابتسامة مشرقة بعد خروجنا ولو لساعة، فننظر ماذا سيقع من الخير.؟! وماذا سيندفع من الشر.؟!
أيها الإخوة: ومن الأمثلة على نفع الناس ما رواه ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟، فَقَالَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ، أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، يَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ يَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -الـمَسْجِدِ الْنبوي بالمَدِينَةِ- شَهْرًا» رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني ويقول ﷺ: «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رواه البخاري ومسلم.
والأجر في نفع المسلمين عظيم فقد جاء في صحيح مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».. زاد ابن أبي الدنيا بسند حسن لغيره: «ومَنْ مَشى مَعَ مَظْلومٍ حتى يُثْبِتَ له حقَّه؛ ثَبَّتَ الله قدمَيْهِ على الصِّراطِ يومَ تزولُ الأقْدامُ». وفي حديث آخر: «وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، لَو شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجَاءً» رواه الطبراني وابن أبي الدنيا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وحسنه الألباني
وكان سلف الأمة يهتمون كثيرا بهذا الباب العظيم من أبواب الخير، فهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام فلما مات فقدوا ذلك، فعلم هؤلاء الفقراء أنه هو الذي كان يتصدق عليهم..
وقال ابن القيم رحمه الله في وصف شيخ الإسلام ابن تيميه: "كان شيخ الإسلام يسعى سعيا شديداً لقضاء حوائج الناس"..
وحدث أحدُ كُاتبِ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بأن الشيخ كان يترك صيام النافلة في بعض الأيام ويقول: "لأنه يضعفني عن القيام بحوائج الناس".. لأن الشيخ يأتيه المستفتون وأصحاب الحاجات والشفاعات وغيرهم. ولعل الشيخ رحمه الله رأى أن الصيام نفعه شخصي له، أما الأعمال الأخرى المتعدية فيكون نفعها للناس.. وفقنا الله لكل خير وجعلنا مباركين أينما كنا..
الخطبة الثانية:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]
أيها الإخوة: ما أجمل مجتمع المسلمين وهو ينفع بعضه بعضا ويسعى كل فرد فيه إلى نفع إخوانه.. تعلو وجوه الناس فيه الابتسامة.. وتنطلق فيه أساريرهم لبعضهم.. فإن كان أحدهم في مجال البيع والشراء وجدته ناصحاً لأخيه لا يغشه ولا يُغالي بالثمن.. وإن كان في مجال التعليم وجدته حريصاً على طلابه أو جماعته يعلمهم ويرشدهم ويستفرغ وسعه في ذلك.. وإن كان في وظيفته وجدته منجزاً لأعمالهم متهللاً في تعامله وناصحاً لهم سعيداً مبتسماً لكل مراجع يأتيه لحاجته.. وإن كان ذا صنعة وجدته جادا فيها متقناً لها حريصاً على تجويد عمله يراقب الله في ذلك.. وإن كان وإن كان.. المهم أن يكون دافعه وهمه نفع الناس وقضاء حوائجهم وإن تقاضى على عمله أجرة..
وبعد أيها الأحبة: مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة جعلها الله لمن يقدم النفع لعباده مهما قل.! من الابتسامة حتى أكبر نفع تتخيله العقول وتصل إليه الفهوم..
أما من لم تَسْمُ نفسُه وتنفعْ.. فلا أقل من أن يكف أذاها عن عباد الله.. فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فقُلت: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فقَالَ: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ»، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلًا؟، قَالَ: «يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ» قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا لَا شَيْءَ لَهُ؟، قَالَ: «يَقُولُ مَعْرُوفًا بِلِسَانِهِ»، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ عَيِيًّا لَا يُبْلِغُ عَنْهُ لِسَانُهُ؟، قَالَ: «فَيُعِينُ مَغْلُوبًا» قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا قُدْرَةَ لَهُ؟، قَالَ: «فَلْيَصْنَعْ لِأَخْرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ أَخْرَقَ؟، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: «مَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ فِي صَاحِبِكَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ، فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ تَيْسِيرٍ؟، فقَالَ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا، يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ». رواه ابن حبان وقال الألباني صحيح لغيره.. وفي رواية مسلم قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ.؟ قَالَ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» وليحذر من جعل الله قضاء حوائج الناس عنده أن يمل أو يكل؛ فقد حذر من ذلك رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بقوله: «إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعِمًا يُقِرُّهَا عِنْدَهُمْ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ فَإِذَا مَلَّوُهُمْ نَقَلَهَا مِنْ عِنْدَهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ». رواه الطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما وقال الألباني حسن لغيره.
اللهم اجعلنا من أنفع عبادك للناس وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين...