خير المواسم.
عاصم بن محمد الغامدي
1437/08/27 - 2016/06/03 22:43PM
[align=justify]خَيْرُ المَوَاسِمِ.
الخطبة الأولى:
الْحَمْد لله عدد الشُّهُور والأعوام، وَسُبْحَانَ الله مَا تعاقبت اللَّيَالِي والأيام، وَلَا إله إلا الله الَّذِي لَا تتَصَوَّر عَظمته الأوهام، وَالله أكبر ذُو الْجلَال والإكرام، سُبْحَانَهُ مَا أعظم شانه، وَمَا أدوم سُلْطَانه، جعل الأعمار مواسم، يربح فيها ممتثلُ المراسم، فهي موضوعة لبلوغ الأمل، ورفع الخلل، زائدة الأرباح لمن اتجر، مهلكة الأرواح لمن فَجَرْ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن لابن آدم عاجلًا وعاقبة، فلا تكن ممن يؤثر عاجلته على عاقبته، فلا يبيع الباقي بالفاني إلا خاسر، وبع دنياك بآخرتك تربَحْهما جميعًا، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}.
أيها المسلمون:
طلبُ المرء أن يكون عنده أكثر مِن غيره مذمومٌ، إلاَّ فيما يُقَرِّب إلى الله، فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات، ومُسَابَقة إليها، وفي هذا كانت مُنافسة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، فقد جاء فقراء الْمُسْلِمِينَ إلى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ -أي: الأموال- بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: "وَمَا ذَاكَ"؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: ثَلاثاً وَثَلاثِينَ مَرّة". رواه البخاري ومسلم، وزاد مسلم: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ".
فَكَان الفقراء يَحزَنُونَ على فواتِ الصَّدقة بالأموال التي يَقدِرُ عليها الأغنياء، ويَحْزَنُون على التخلُّف عن الخروجِ في الجهاد؛ لِعَدَم القُدْرَة على آلَتِه.
وكان التنافس في فعل الخيرات على أشدِّه بين سلف هذه الأمة، حتى كان بعض سادات التابعين يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يفوزوا به دوننا؟ والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خَلّفوا بعدهم رجالاً!
أيها المسلمون:
كان بعض السلف يقول: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطّافها.
هذه الأشهر الثلاث المعظمة، كالجمرات الثلاث، فرجبُ كأول جمرة تحمى بها العزائم، وشعبانُ كالثانية تذوب فيها مياه العيون، ورمضان كالثالثة تورق فيها أشجار المجاهَدَات، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب! فيا من قد ذهبت عنه هذه الأشهر وما تغير أحسن الله عزاءك!
وهذا رمضان يا عباد الله على الأبواب، أيامه تصان، وهي كالتاج على رأس الزمان، {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}.
مَضَى أَمسُكَ المَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلاً .... وَأَعقَبَهُ يَومٌ عَلَيكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنتَ بِالأَمسِ اقتَرَفَت إِسَاءَةً ... فَثَنِّ بِإِحسَانٍ وَأَنتَ حَمِيدُ
فَيَومُكَ إِنْ أَعتَبتَهُ عَادَ نَفعُهُ ... عَلَيكَ وَمَاضِي الأَمسِ لَيسَ يَعُودُ
وَلا تُرجِ فِعلَ الخَيرِ يَومًا إِلى غَدٍ ... لَعَلَّ غَدًا يَأتي وَأَنتَ فَقِيدُ.
رمضان تاج الشهور، كيف لا وفضائله أكثر من أن تحصر؟
ومن ذلك ما أخبر عنه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ"، جعلنا الله من عتقائه في هذا الشهر الكريم. [رواه أحمد (21698) وابن ماجه (1643). وصححه الشيخ الألباني في " صحيح ابن ماجه].
ولَمَّا دخل رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن هذا الشهر قد حَضَركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمها فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحْرَم خَيرها إلاَّ مَحْرُوم". [رواه ابن ماجه، وحسّنه الألباني].
وفي الحديث الصحيح عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ". [رواه البخاري ومسلم].
والعمل الصالح في هذا الشهر عظيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي [أي: تعدل] حَجَّةً مَعِي". [رواه البخاري ومسلم].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوفُ فيهِ أطيب عند الله من ريح المسك. [أخرجاه في الصحيحين].
فرحة الحس عند الإفطار: تناولُ الطعام، وفرحة الإيمان بالتوفيق لإتمام الصيام.
لله در تلك القلوب الطاهرة، أنوارها في ظلام الدجى ظاهرة، رفضت حِلية الدنيا وإن كانت فاخرة، كم تركت شهوة وهي عليها قادرة، الناس نيام وعيونها باتت ساهرة، زفرات الخوف تثير سحائب الأجفان الماطرة، يندبون على الذنوب وإن كانت نادرة.
وقد عرف سلفنا الصالح قدر هذا الشهر فكان بعضهم يوصي من حوله بقوله: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
وقال بعض التابعين: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فواهًا لأوقاته من زواهرَ ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهرِ ما أظرفها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حِلْيَتُها الإخلاصُ والصدق، وثمرتها الخلاص والعتق.
هذا شهر التيقظ، هذا أوان التحفظ، إخواني: بين أيدينا سَفَرْ، والأعمار فيها قِصَرْ، وكلنا والله على خَطَر، فلنكن على خوف من القدر، ولنعرف قدْر من قدر.
إذا خسرنا في هذا الشهر فمتى نربح، وإذا لم نسافر فيه نحو الفوائد فمتى نبرح.
عباد الله:
المؤمن يسعى ليكون يومه القادم خيرًا من ماضيه، وإن من الأبرار من يدخل في مواسم الطاعات منافسة مع نفسه، يحثها على بذل أفضل مما مضى، فيا من قرأ القرآن في رمضان الماضي مرة، اقرأه في هذا العام مرتين، ويا من تصدق في السابق بألف، اجعلها في هذا العام ألفين، ويا من انشغل عن أهله بجهاد نفسه لفعل الخير، أيقظهم ودلّهم على أحسن السير، وأشركهم معك في الأجر عسى أن تكون من الذين ألحقت بهم ذريتهم في الفردوس، ويا من يرى أنه حُرم من ذلك، شمر عن ساعديك فأنت في أول الطريق، ونافس من حولك من الصالحين، حتى لا تتخلف عنهم في يوم الدين.
وتذكر كم مؤمل إدراك شهر ما أدركه، فاجأه الموت بغتة فأهلكه، كم ناظر إلى يوم صومه بعين الأمل طمسها بالممات كفُّ الأجل، كم طامع أن يلقاه بين أترابه ألقاه الموت في عقر ترابه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله حمد الشاكرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإنما شرع الصوم ليقع التقلل، فأما من أوثق الرزمة فما له نية في البيع، إذا استوفيت العَشاء تكدَّر الليل بالنوم، وإذا استوفيتَ السحور تخبط النهار بالكسل، وإنما شرع السَحور ليتقوى المتقللُ من العَشاء ولينتبه الغافل.
ولله درُّ كثيرٍ من إخواننا، رتبوا أنفسهم للعبادة في رمضان، فرصدوا لكل يومٍ من أيامه، مبلغًا للصدقة يقدرون عليه، وحددوا جزءًا من كتاب الله للقراءة والتدبر، وجمعوا أهلهم ونبهوهم على فضل هذا الشهر، واختاروا يومًا يذهبون فيه لأداء العمرة، واتفقوا مع أزواجهم وأولادهم على إحياء الليل بالتراويح، والنهار بالقرآن والتسبيح، فصغيرهم ينشأ على تعظيم الشعائر، وكبيرهم قدوةٌ للقاعد والسائر، وإن كان هؤلاء بحمد الله هم الأكثرون، إلا أن البعض قد يخطئ في استقبال هذا الشهر، فيجاهد لكن لاختيار أصناف الطعام والشراب، ويسعى لكن في ترتيب أوقات النظر للبرامج والمسلسلات، ويجعل ليلَه نهارًا يملؤه بالغفلة، ونهاره ليلًا يملؤه بالنوم، جعلنا الله برحمته من عباده الصالحين، ووقانا السير في دروب الخاطئين.
أيها الكرام:
كونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا ممن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا كما تحب وترضى.
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه ووالدينا وأزواجَنا وذرياتِنا وإخواننا ومن له حق علينا من عتقائك من النار.
اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن وعبادتك.[/align]
الخطبة الأولى:
الْحَمْد لله عدد الشُّهُور والأعوام، وَسُبْحَانَ الله مَا تعاقبت اللَّيَالِي والأيام، وَلَا إله إلا الله الَّذِي لَا تتَصَوَّر عَظمته الأوهام، وَالله أكبر ذُو الْجلَال والإكرام، سُبْحَانَهُ مَا أعظم شانه، وَمَا أدوم سُلْطَانه، جعل الأعمار مواسم، يربح فيها ممتثلُ المراسم، فهي موضوعة لبلوغ الأمل، ورفع الخلل، زائدة الأرباح لمن اتجر، مهلكة الأرواح لمن فَجَرْ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن لابن آدم عاجلًا وعاقبة، فلا تكن ممن يؤثر عاجلته على عاقبته، فلا يبيع الباقي بالفاني إلا خاسر، وبع دنياك بآخرتك تربَحْهما جميعًا، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}.
أيها المسلمون:
طلبُ المرء أن يكون عنده أكثر مِن غيره مذمومٌ، إلاَّ فيما يُقَرِّب إلى الله، فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات، ومُسَابَقة إليها، وفي هذا كانت مُنافسة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، فقد جاء فقراء الْمُسْلِمِينَ إلى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ -أي: الأموال- بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: "وَمَا ذَاكَ"؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: ثَلاثاً وَثَلاثِينَ مَرّة". رواه البخاري ومسلم، وزاد مسلم: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ".
فَكَان الفقراء يَحزَنُونَ على فواتِ الصَّدقة بالأموال التي يَقدِرُ عليها الأغنياء، ويَحْزَنُون على التخلُّف عن الخروجِ في الجهاد؛ لِعَدَم القُدْرَة على آلَتِه.
وكان التنافس في فعل الخيرات على أشدِّه بين سلف هذه الأمة، حتى كان بعض سادات التابعين يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يفوزوا به دوننا؟ والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خَلّفوا بعدهم رجالاً!
أيها المسلمون:
كان بعض السلف يقول: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطّافها.
هذه الأشهر الثلاث المعظمة، كالجمرات الثلاث، فرجبُ كأول جمرة تحمى بها العزائم، وشعبانُ كالثانية تذوب فيها مياه العيون، ورمضان كالثالثة تورق فيها أشجار المجاهَدَات، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب! فيا من قد ذهبت عنه هذه الأشهر وما تغير أحسن الله عزاءك!
وهذا رمضان يا عباد الله على الأبواب، أيامه تصان، وهي كالتاج على رأس الزمان، {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}.
مَضَى أَمسُكَ المَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلاً .... وَأَعقَبَهُ يَومٌ عَلَيكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنتَ بِالأَمسِ اقتَرَفَت إِسَاءَةً ... فَثَنِّ بِإِحسَانٍ وَأَنتَ حَمِيدُ
فَيَومُكَ إِنْ أَعتَبتَهُ عَادَ نَفعُهُ ... عَلَيكَ وَمَاضِي الأَمسِ لَيسَ يَعُودُ
وَلا تُرجِ فِعلَ الخَيرِ يَومًا إِلى غَدٍ ... لَعَلَّ غَدًا يَأتي وَأَنتَ فَقِيدُ.
رمضان تاج الشهور، كيف لا وفضائله أكثر من أن تحصر؟
ومن ذلك ما أخبر عنه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ"، جعلنا الله من عتقائه في هذا الشهر الكريم. [رواه أحمد (21698) وابن ماجه (1643). وصححه الشيخ الألباني في " صحيح ابن ماجه].
ولَمَّا دخل رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن هذا الشهر قد حَضَركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمها فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحْرَم خَيرها إلاَّ مَحْرُوم". [رواه ابن ماجه، وحسّنه الألباني].
وفي الحديث الصحيح عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ". [رواه البخاري ومسلم].
والعمل الصالح في هذا الشهر عظيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي [أي: تعدل] حَجَّةً مَعِي". [رواه البخاري ومسلم].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوفُ فيهِ أطيب عند الله من ريح المسك. [أخرجاه في الصحيحين].
فرحة الحس عند الإفطار: تناولُ الطعام، وفرحة الإيمان بالتوفيق لإتمام الصيام.
لله در تلك القلوب الطاهرة، أنوارها في ظلام الدجى ظاهرة، رفضت حِلية الدنيا وإن كانت فاخرة، كم تركت شهوة وهي عليها قادرة، الناس نيام وعيونها باتت ساهرة، زفرات الخوف تثير سحائب الأجفان الماطرة، يندبون على الذنوب وإن كانت نادرة.
وقد عرف سلفنا الصالح قدر هذا الشهر فكان بعضهم يوصي من حوله بقوله: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
وقال بعض التابعين: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فواهًا لأوقاته من زواهرَ ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهرِ ما أظرفها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حِلْيَتُها الإخلاصُ والصدق، وثمرتها الخلاص والعتق.
هذا شهر التيقظ، هذا أوان التحفظ، إخواني: بين أيدينا سَفَرْ، والأعمار فيها قِصَرْ، وكلنا والله على خَطَر، فلنكن على خوف من القدر، ولنعرف قدْر من قدر.
إذا خسرنا في هذا الشهر فمتى نربح، وإذا لم نسافر فيه نحو الفوائد فمتى نبرح.
عباد الله:
المؤمن يسعى ليكون يومه القادم خيرًا من ماضيه، وإن من الأبرار من يدخل في مواسم الطاعات منافسة مع نفسه، يحثها على بذل أفضل مما مضى، فيا من قرأ القرآن في رمضان الماضي مرة، اقرأه في هذا العام مرتين، ويا من تصدق في السابق بألف، اجعلها في هذا العام ألفين، ويا من انشغل عن أهله بجهاد نفسه لفعل الخير، أيقظهم ودلّهم على أحسن السير، وأشركهم معك في الأجر عسى أن تكون من الذين ألحقت بهم ذريتهم في الفردوس، ويا من يرى أنه حُرم من ذلك، شمر عن ساعديك فأنت في أول الطريق، ونافس من حولك من الصالحين، حتى لا تتخلف عنهم في يوم الدين.
وتذكر كم مؤمل إدراك شهر ما أدركه، فاجأه الموت بغتة فأهلكه، كم ناظر إلى يوم صومه بعين الأمل طمسها بالممات كفُّ الأجل، كم طامع أن يلقاه بين أترابه ألقاه الموت في عقر ترابه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله حمد الشاكرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإنما شرع الصوم ليقع التقلل، فأما من أوثق الرزمة فما له نية في البيع، إذا استوفيت العَشاء تكدَّر الليل بالنوم، وإذا استوفيتَ السحور تخبط النهار بالكسل، وإنما شرع السَحور ليتقوى المتقللُ من العَشاء ولينتبه الغافل.
ولله درُّ كثيرٍ من إخواننا، رتبوا أنفسهم للعبادة في رمضان، فرصدوا لكل يومٍ من أيامه، مبلغًا للصدقة يقدرون عليه، وحددوا جزءًا من كتاب الله للقراءة والتدبر، وجمعوا أهلهم ونبهوهم على فضل هذا الشهر، واختاروا يومًا يذهبون فيه لأداء العمرة، واتفقوا مع أزواجهم وأولادهم على إحياء الليل بالتراويح، والنهار بالقرآن والتسبيح، فصغيرهم ينشأ على تعظيم الشعائر، وكبيرهم قدوةٌ للقاعد والسائر، وإن كان هؤلاء بحمد الله هم الأكثرون، إلا أن البعض قد يخطئ في استقبال هذا الشهر، فيجاهد لكن لاختيار أصناف الطعام والشراب، ويسعى لكن في ترتيب أوقات النظر للبرامج والمسلسلات، ويجعل ليلَه نهارًا يملؤه بالغفلة، ونهاره ليلًا يملؤه بالنوم، جعلنا الله برحمته من عباده الصالحين، ووقانا السير في دروب الخاطئين.
أيها الكرام:
كونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا ممن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا كما تحب وترضى.
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه ووالدينا وأزواجَنا وذرياتِنا وإخواننا ومن له حق علينا من عتقائك من النار.
اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن وعبادتك.[/align]