خير الزاد.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله ولي من اتقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فالتقوى حياةُ القلوب، وبها تكون النجاة عند علامِ الغيوب، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
أيها المسلمون:
لم نُخلق سُدىً، ولم نُترَكْ هَمَلاً ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.
إنَّ غايةَ خلْقِنا ووجودِنَا هي عبادةُ اللهِ سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
ولا سبيلَ للنجاةِ منْ عذابِ اللهِ إلا بتحقيقِ العبادةِ، وحصولِ التقوى، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
والتقوى عملٌ قلبيٌ، وردَ الأمرُ به في القرآنِ خمسةً وثمانينَ مرةً، بصيغٍ مختلفةٍ، وفي مواضعَ متعددةٍ، بعضُها موجهٌ للمؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾، وبعضها لعمومِ الناسِ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ يُذكِّر اللهُ بها عندَ الدعوةِ لتوحيدِه ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، وينبهُ المؤمنين على ارتباطها الوثيق بالعبادات؛ ليحرصوا عليها ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، ويشبِّهُ حياتَنا بالسفرِ الذي يحتاجُ صاحبُه فيه للتزود، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، ويشير إلى أنها رغبة أهل العقول ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
وللصيامِ مقاصدُ منها تربيةُ النفسِ على هجرِ بعضِ محبوباتِها، وتعويدُها على الصبرِ، وتذكُّرِ نِعَمِ اللهِ عليها، لكنَّ أعظمَ مقاصدِه تحقيقُ التقوى باجتنابِ المعاصي، لأنَّ المعاصي قسمانِ قسمٌ ينجحُ في تركِه بالتفكرِ، كالخمرِ والميسرِ والسرقةِ، فتركُها يحصل بالوعدِ والوعيدِ، وقسمٌ ينشأُ من دواعٍ طبيعيةٍ كالأمورِ الناشئةِ عنِ الغضبِ والشهوةِ، التي قد يصعبُ تركُها بمجردِ التفكرِ، فجُعلَ الصيامُ وسيلةً لاتقائها؛ لما فيهِ منْ تعديلِ الطباعِ الداعيةِ لتلكَ المعاصي، ولذا قالَ اللهُ سبحانَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فحريٌ بالصائمِ تفقُّدُ حالِه وقدْ قاربَ الشهرُ على الانقضاءِ؛ ليتحققَ من حصولِ غرضِ الصيامِ، ولا يكونَ حظُّه منهُ مجردَ الجوعِ والعطشِ.
أيها المسلمون:
لا يمكنُ للمرءِ أنْ يكونَ منَ المتقينَ إلا إذا عرفَ ماذا يتَّقي، والتقوى مأخوذةٌ من الوقايةِ، ومعناها العامُّ في القرآنِ: امتثالُ أوامرِ اللهِ، واجتنابُ نواهِيهِ، والمؤمنُ عندَ سماعِهِ الأمرَ بالتقوى، يبادرُ إلى اتقاءِ الفتنِ، والابتعادِ عنْ مواطِنِها، امتثالاً لقولِه تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، ويسعى ليجعلَ بينه وبين السيئاتِ وقايةً، لأن توقِّيها سببُ الفوزِ واستحقاقِ الرحمةِ ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ويزهدُ في الدُّنْيَا بقدرِ ما في قَلبِهِ منْ إيمانٍ باليومِ الآخرِ، ويجتنبُ كلَّما قدْ يضرُّه في ذلكَ اليومِ: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾.
وإن قَسَا قلبه ولم تحركه كلُّ هذه الأمور، تذكرَ النارَ وأهوالَها، وما أُعدَّ منَ العذابِ لأهلِها، فحرِصَ على توقِّيها إنْ كانَ من أهلِ العقولِ: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
فإذا علمتَ ذلكَ أيها الصائم، فابحثْ في قلبِكَ عن توحيدِ ربِّك، وراقبْ إقبالَكَ على طاعتِه، وبُعْدَكَ عن معصيتِه، وفتِّشْ عن مستوى الإخلاصِ فيهِ، واعلمْ أن رحمةَ اللهِ واسعةٌ، ومن رحمَتِه أنه لم يكلِّفْنا فوق طاقتنا، بل أمَرَنَا بتقواهُ قدرَ الاستطاعةِ، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، وانظرْ حالَكَ عندَ وقوعِكَ في زَلَّةٍ، أوْ تَمَكُّنِ الشَّيطانِ منكَ في لحظةِ غَفْلَةٍ، فالمبادرةُ إلى التوبةِ فورَ وقوعِ الذنبِ علامةٌ على تقوى القلبِ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾، قال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
جعلنا الله من العالِمين العاملين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد عباد الله:
فإن مما يشرعُ للصائمين في ختامِ شهرِهم الإكثارَ من الاستغفارِ؛ لأنَّ عملَ العبدِ لابدَّ فيه من نقصٍ، فكيفَ بهِ وقد جمعَ مع النقصِ بعضَ السيئاتِ.
كما يشرعُ الإكثارُ من التكبيرِ المطلقِ، غيرِ المقيدِ بالصلواتِ، قال الله سبحانه: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ويبدأُ وقت التكبيرِ من غروبِ شمسِ آخرِ يومٍ منْ رمضانَ، وينتهي بنهايةِ خطبةِ العيدِ.
ومن علامات التقوى، المبادرةُ إلى إخراجِ زكاةِ الفطرِ، فهي فريضةٌ على الصائمِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ».
وزكاة الفطر واجبةٌ على كلِّ من ملَكَ قوتًا يزيدُ على حاجتِه وحاجةِ أهلِهِ، فتلزمُه عنْ نفسِهِ وعمَّنْ تجبُ عليهِ نفقتُهُم حتى غروبِ شمسِ آخرِ يومٍ منْ رمضانَ، وإذا كان طعام الخادمة والسائقِ يلزم ربَّ المنزل بالعقدِ الذي بينهما، فعليه إخراج زكاة الفطر عنهما، وإلا وجبت عليهما ويجوز لرب المنزل إخراجها عنهما.
ويجوزُ إخراجُ الزكاة من قوتِ بلدِهِ، كالأرز وغيره، والأولى حسابُها بالصاع لمن تمكن، ومن لم يتمكن منه فقد أفتت اللجنة الدائمة في هذه البلاد المباركة أن الصاع يساوي ثلاثة كيلو جرامات تقريبًا، ولا تسلَّم زكاة الفطرِ إلا إلى الفقير أو المسكينِ، ووقت وجوبها غروبُ شمسِ آخر يومٍ من رمضانَ، ويجوز إخراجُها قبلَ العيدِ بيومينِ أو ثلاثةٍ، أيْ منَ اليومِ الثامنِ والعشرينِ، والمستحبُّ إخراجُها يومَ العيدِ قبلَ صلاةِ العيدِ، ويحرُمُ تأخيرُها حتى انتهاءِ الصلاةِ، فإن فعلَ بلا عذرٍ أَثِمَ، ولزِمَهُ قضاؤها.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واتقوا الله -رحمكم الله-، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة؛ فإن الشقيَّ من حُرِمَ رَحْمَةَ الله -عياذًا بالله-، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.