خير أيام الدنيا توشك على التمام وبقي أفضلها وأرجاها

عبدالرحمن اللهيبي
1445/12/08 - 2024/06/14 05:12AM
من المنقول بتصرف
 
 

الحمد لله مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائِع، أسبَغَ علينا الخير الجزيل، والسترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين

أما بعد، فيا أيها المسلمون:

اتقوا الله فبالتقوى تحصُل البركات، وتندفعُ الهلَكات ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾

أيها المسلمون: هناك في هذه الساعة بين جِبال منى وتِلالها ، وفي أوديتها وشعابها ، هناك المهابة والجلال، والبهاء والجمال، حيث تجتمعُ الآن قوافلُ الحجيج، عربيهم وعجميهم ، وأبيضهم وأسودهم ، بلباس واحد ، ونداء واحد ، يجأرون بالتلبية والتوحيد ، يسكُبُون عبَرات الشوق والإجابة ، ودموعَ التوبة والإنابة.

هم وفدُ الله دعاهم فأجابوا، وسألوه فأعطاهم ، فهنيئا للحجاج حجهم ، كيف والحجُّ يهدِمُ ما قبلَه، ومن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبه كيوم ولدَته أمُّه، والحج المبرور ليس له ثوابٌ إلا الجنة

يا راحلينَ إلى منىً بقيادي   هيجتُمو يومَ الرحيل فؤادي

يا ربِّ أنت وصلتَهُم وقطَعتني

فبفضلك يا ربّ حل قيادي

حزمَ الحجيجُ متاعهم وتأهّبوا     ‏وأنا فؤادي في قوافلهم مضى

‏سلكوا إلى الله العظيمِ بشوقهم     وأنا البعيدُ حنين شوقي من لظى

وأبشروا أيها المسلمون : فإن من أراد الحج وصدقت نيته، ومنعه من ذلك الكبر و المرض ، أو الفقرُ والعوز ، أو عدمُ وجودِ التصريح، فَتَرَك الحج التزاما بالنظام ، وطاعة لولي الأمر ، فإنه له من الأجر كما للحجاج ، فقد قال ﷺ : لقد ترَكْتُمْ بالمدينةِ أقوامًا ما سرتُمْ مسيرًا ، ولا أنفقتُمْ من نفقةٍ ، ولا قطعتُمْ من وادٍ ، إلَّا وَهُم معَكُم ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يَكونونَ معَنا وَهُم بالمدينةِ ؟

قالَ : حبسَهُمُ المرضُ [رواه مسلم]

 

أيها المسلمون: ما أعظمَها من أيامٍ وضيئة نحن فيها ، وما أجلَّها من مواسم مباركة لا زلنا نقتفيها ، وها هي توشك أن ترحل وهي أفضل أيام الدنيا على الإطلاق ، ولئن مضَى أكثرها فلقد بقِيَ منها ما هو أرجاه، ولئن تصرَّمَت أيامُها فقد بقِيَ منها ما تكونُ به النجاة..  فغدًا يوم عرفة وما أدراك ما يوم عرفة ، يومٌ عظيم تُعتَقُ فيه الرِّقابُ، ويُسمَعُ فيه الدعاءُ ويُجابُ، فما من يومٍ أكثر من أن يُعتِقَ الله -عز وجل- فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء؟!

وقال ﷺ: "ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام.."

وخيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة؛ وهذه الفضائل في العتق والمغفرة وفضل الدعاء هو عام لأهل عرفة من الحجيج وغيرهم من المسلمين في كافة الأمصار .. على الراجح من الأقوال .. قال الحافظ ابن رجب: ( يوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين. كما أن الأحاديث التي جاءت في فضل دعاء يوم عرفة أحاديث مطلقة، تشمل الحاج وغيره، ويدل لذلك اشتغال بعض الصحابة بالدعاء يوم عرفة كابن عباس، وغيره ، ولم يكونوا حجاجا ، مع إقرار الصحابة لهم ، مما يدل على أن هؤلاء الصحابة فهموا أن فضل الدعاء يوم عرفة يشمل الحاج وغير الحاج ..

فأظهِروا في يوم عرفة التوبةَ والاستغفار، والتذلُّل والانكِسار، والندامةَ والافتقار، والحاجةَ والاضطرار، لعل الله أن يشملكم مع الحجيج بعتق الرقاب ومغفرة الأوزار

أيها المسلمون: ما أعظمه من مشهد عظيم في يوم عرفة حين نرى الحجيج قد لجئوا إلى ربهم وتضرعوا إلى مولاهم، وقلوبهم منكسرة، ودموعهم منهمرة.

قد رفعوا أكف الافتقار إلى الله متضرعين، وأسبلوا العبرات متذللين، يقولون بلسان الحال والمقال: يا ربنا لقد تعاظمت منا المعاصي والذنوب، وأثقلتنا الهموم والخطوب، وتراكمت علينا البلايا والعيوب، ونحن يا مولانا في عفوك طامعون، ولخيرك وجودك مؤملون، نحن الفقراء إليك، والأسارى بين يديك، إن قطَعتنا فمن يصلنا؟ وإن أعرضت عنا فمن يقرّبنا؟

فاعتبروا يا مسلمون من حال الحجيج في يوم عرفة ، فها هي قد تنوعت مآربهم ومطالبهم، واختلفت غاياتهم ومشاربهم، وتباينت لهجاتهم وألسنتهم ، والله سميع لهم ، عليم بحالهم ، ويباهي بهم ، وهو الغني عنهم ، فلا يتبرّم بإلحاح الملحين ، ولا يبالي بكثرة السائلين.

وقد نظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانقاً -وهو مبلغ ضئيل من المال- فهل كان يردهم؟ قالوا: لا. فقال: واللهِ لَلمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق!.

فيا عبد الله، لا يسبقك الحجاج إلى الله .. فيخرجون من هذه العشر المباركة وقد غفرت ذنوبهم ، وحطت أوزارهم وأنت قد حلت بينك وبين رحمة ربك بالإصرار على الذنوب والأوزار، والإعراض عن الرب الكريم الغفار ، فلا أنت مع الحجيج ولا أنت مع الطائعين

تالله ما نصحتَ نفسك، إن أوبقت نفسك بالمعاصي والآثام، وأعرضت فيها عن الكريم المنان ..

لَهَوْنا لَعَمْرُ اللهِ! حتَّى تتابَعَتْ *** ذُنوبٌ على آثارِهِنَّ ذنوبُ

فاللهم أعنا على ذكرك وطاعتك ، ووفقنا لحسن شكرك وعبادتك ، واختم لنا في هذه الأيام الفاضلة بخير ختام

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، ها هي أَيَّامٌ مُضِيَئَةٌ مُبَارَكَةٌ قد أوشكت على التمام، وتوشك أن تطوي بِخَيرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا صَامَ فيها مَن صَامَ ، وَتَصَدَّقَ مَن تَصَدَّقَ وَعَجَّ بِالتَّكبِيرِ مَن هلل وكبر ، وَسَبَقَ مَن سَبَقَ ممَّن سَارَعَ وَتَقَدَّمَ ، وَتَأَخَّرَ مَن تَأَخَّرَ ممَّن تَبَاطَأَ وَأَحجَمَ

قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : "مَن يَعمَلْ سُوَءًا يُجزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمُونَ نَقِيرًا "

فاختموا عشركم بخير ختام ، وصوموا يوم غد فإنه صيامه يُكفِّرُ السنةَ الماضيةَ والباقية

وكبروا الله عقِبَ الصلوات المفروضات من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق..

وضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فما تقرب عبد الله في يوم الأضحى بأعظم من إهراق الدم في سبيل الله

لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ

فطيبوا بها نفسا وتخيروا أنفسها وتحروا وقتها .. ووقتها من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق ، ومن ذبح أضحيته قبل صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات ..

واعلموا أن من شعائر ديننا صلاة عيد الأضحى، وسوف نؤديها في هذا الجامع فاحرصوا على أدائها وحاذروا تفويتها ومروا أولادكم وأهليكم بها فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بالخروج لها

ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون - من جنِّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾

اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيدنا محمد بشير الرحمة والثواب .. الشافع المُشفَّع يوم الحساب

اللهم وارضَ عن جميع الآل والأصحاب، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا كريم يا وهَّاب.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم أئمَّتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ عهده، وأصلِح لهما البِطانة يا رب العالمين ، واجزهم على ما يقومون من خدمة الحرمين والحجيج خير الجزاء

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وادفع عنا شرَّ الكائدين ، ومكرَ الماكرين ، وعُدوان المُعتدين وتربُّص المُتربِّصين ، وكيدَ الحاسدين يا رب العالمين.

اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمرين، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم حقِّق لهم من الآمال أعلاها، ومن الخيرات أقصاها

اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان ، وفي غزة والشام واليمن والسودان ، اللهم فرج همهم واكشف كربهم وارفع بلاءهم واكشف ضراءهم واربط على قلوبهم

اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُحقِّق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفَهم عبرةً وآيةً.

اللهم اشف مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا يا أرحم الراحمين.

 

المشاهدات 1223 | التعليقات 0