خلل في الصف ينبغي سده - أ.زياد الريسي – مدير الإدارة العلمية
الفريق العلمي
الحمد لله والصلاة والسلام أفضل أنبيائه وعلى صحابته وأتباعه؛ ثم أما بعد:
يا فضلاء: كلنا ذوو خطأ وجميع من خلق الله يخطئون وكتب عليهم ذلك، ومن الخطأ ما هو معذور صاحبه وهو ما كان على سبيل الزلة والهفوة أو الإكراه والاضطرار؛ كما قال الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 286].
لكن ينبغي أن يعلم أن هذا التسامح الرباني واللطف الإلهي في عدم المؤاخذة لمثل هذه لا يعطي شرعنة للمعاصي أو الدعوة إليها أو التهوين من شأنها أو يمنح الأمان من مغبتها وعقوبتها؛ قال سبحانه: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ)[الحجر: 49-50]؛ بل هو عطف إلهي على عباده مراعيا فيهم صفات الضعف التي جبلوا عليها من جهل وعجل وضعف ونسيان وغيره؛ قال سبحانه: (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[الإسراء: 66].
ومتى وقع العبد في الذنب على سبيل ما ذكر آنفاً فذلك معفي عنه بدليل ما جاء في حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تجاوزَ عَن أمَّتي الخطأَ والنِّسيانِ وما استُكرِهوا علَيهِ"(الألباني صحيح ابن ماجه: 1675)؛ وفي الآية الكريمة يقول الله: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنعام: 54].
أما أن يستمر العبد في خطئه أو يجاهر به حتى يصير معروفا به ومشتهر عنه أو يروج له بين غيره فذلك الذنب وتلك المعصية التي يحتاج صاحبها إلى توبة إلى الله واستغفار منه قبل حلول العقوبة ونزول المؤاخذة؛ (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)[التوبة: 74].
ومن هنا ينبغي الحذر مكر الله -تعالى- عليه من حلول عذابه العاجل والآجل؛ قال عز وجل: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُون)[الأعراف: 97 - 99]، وقوله: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 81].
ومع أن هذا الخطاب يشمل كافة الخلق وهذا التعميم يلف جميعهم إلا أن من هم محسوبون على العلم والدعوة إلى الله -تعالى- لهم حالات خاصة على من دونهم؛ ولمثل هذا الصنف خاطب الله نساء نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)[الأحزاب: 32]؛ وقبلهن حذر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)[الإسراء: 74-75].
وهكذا الدعاة إلى الله يجدر بهم الترفع عن التلبس بالمعاصي صغيرها وكبيرها، كما أن عليهم أن يأخذوا لأنفسهم بالعزائم وفي باب الخلاف الأخذ بالاحتياط والتمسك بالأولى والراجح؛ كونهم قدوات للناس تقتدي بهم وشموعا تضيء لهم؛ ذلك أن القصور في حقهم مغلظ والذنب مضاعف؛ قال سبحانه: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[الأحزاب: 30].
لذا ينبغي أن يعلم الدعاة إلى الله -تعالى- وطلبة العلم أنهم صفوة المجتمعات كما أن الأنبياء والرسل صفوة البشر، ومتى غابت هذه الرؤية عن أنظارهم واختفى هذا المبدأ من مخيلتهم وعاملوا أنفسهم معاملة من هو دونهم ممن لم يتبوأ منازلهم فقد أساؤوا لما يحملون من الهدى والنور أولا ثم جنوا على أنفسهم ومكانتهم التي اصطفاهم الله لها، وكما قيل:
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
وقيل:
يا معشر العلماء يا ملح البلد *** ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟
كما ينبغي أن يُعلم أن شأن القدوة عظيم، ولعظمة أمرها علَّم الله -تعالى- عباد الرحمن أن يدعوه أن يكونوا قدوات لغيرهم؛ كما في قوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74].
لكن مما يحزن عليه ويؤسف له أن يكون في الصف الدعوي والإصلاحي ما يمكن وصفهم بعاهات إسلامية ونتوءات مرضية ظهرت فيها شوائب خُلُقية وبدت عليها اختلالات سلوكية؛ فكانت فتنة للناس عامة صالحهم وطالحهم ناسية أو متناسية إلى جانب أنها تضر نفسها وتهدم سمعتها وتعرقل أداءها وتخسر قبولها كذلك فأنها تؤثر سلبا على سمعة الدعاة وطلبة العلم بين عموم الناس وازدرائهم وصدود الناس عنهم واستهجانهم بسبب تصرفاتهم غير اللائقة والممجوجة؛ وقد ورد النكير على مثل هؤلاء بأشد النكير فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2-3].
ألا يكفي سلبا على أولئك المحسوبين على الدعاة أن تصرفاتهم أصبحت لدى المدعوين معيار قبول للأوامر والنواهي؟؛ فصار سلوكهم هو المعيار كونهم قدوات للآخرين؛ فالحسن ما فعلوه والقبيح ما تركوه، ولخطورة هذا الأمر حذر الله -تعالى- عباده ووجههم إلى سؤاله أن يجنبهم أن يكونوا دعاة فتنة للناس بسوء فعلهم قال الله (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[يونس: 84-85]، وقوله: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الممتحنة: 5].
ولو يعلم أولئك المبتلون من الدعاة إلى الله -تعالى- وأهل الصلاح وطلبة العلم أنهم في الوقت الذي يدعون الناس إلى جنة الله بعلمهم ومواعظهم أنهم في الوقت ذاته يصدون عنها بسوء فعالهم وقبح تصرفهم بل ويدعونهم بها إلى النار، وأن تلك السلوكيات الخاطئة التي يمارسونها هي فتنة لغيرهم من عموم الناس وجمهورهم فقد جعلوا منها مطية لمخالفاتهم ومسوغا لأخطائهم.
ومظاهر الاقتداء المغلوط مشاهد ومسموع؛ ألم تسمع من يقول ذاك المطوع الفلاني يفعل هذا والداعية الفلاني قال هذا؟ وألم تسمع من يقول لو كان حراما لما فعله الشيخ الفلاني ولو كان واجبا لفعله الداعية الفلاني؟ والله المستعان.
وهنا في هذه الأسطر سنعرج على بعض من تلك الآفات ونقف على بعض تلك الأمراض؛ هدى الله الجميع لسلامة القلب وصلاح العمل:
- التوسع في المباح وتتبع الرخص والبحث عن آراء العلماء التي تتناسب مع الهوى وتتفق مع الميول لا لأنها الأرجح أو كونها الأحوط؛ وكان الأحرى لمثل هؤلاء القدوات أن يأخذوا الدين بقوة وألا يتساهلوا فيه؛ عملا بوصيته -صلى الله عليه وسلم- لشداد بن أوس -رضي الله عنه-: "يا شدّادُ بنُ أوسٍ! إذا رأيتَ النّاسَ قد اكتنزوا الذَّهبَ والفضَّةَ؛ فاكنِز هؤلاء الكلماتِ: اللَّهمَّ! إنِّي أسألُك الثَّباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرُّشدِ، وأسألُك موجِباتِ رحمتِك، وعزائمَ مغفرتِك..."(الصحيحة ٣٢٢٨ إسناده صحيح).
- حب المديح والتشهي للترفيع والإعجاب بالثناء والانبساط بالأوصاف والألقاب التي هم دونهم قطعا؛ وهو يقبل ذلك بحق وبغير حق؛ فإن كان قبله بحق فذلك خدش في إخلاصه وإن كان بغير حق فقد تشبع بما لم يعط؛ (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[آل عمران: 188]، ولربما كان مدحهم والثناء عليهم هو معيار صداقتهم بالآخرين، فحيثما وجد الثناء شعروا بالرضى وأحسوا بالأنس، والكارثة أن من لم يرطب لسانه بمدحهم والثناء عليهم اتخذوا منه موقفا.
وعن هذا الطراز وأضرابه قال عليه الصلاة والسلام: "أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيرًا، وهو يسمع، وأهل النار من ملأ أذنيه من ثناء الناس شرًا، وهو يسمع"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الفوائد: "إذا حدثتك نفسك بالإخلاص فاعمد إلى حب المدح والثناء فاذبحه بسكين يقينك وعلمك أنه لا أحد ينفع مدحه أو يضر ذمه إلا الله -جل وعلا-".
أيها الإخوة: كم هو محبط أن يتقصد الداعية إلى الله ثناء الآخرين عليه ويتطلع لمدحهم ويفسح المجال لإطرائه إشباعا لهواه واستجابة لشهوة نفسه؛ مما يفضي به ذلك إلى منكر كبير وشر مستطير ألا وهو العجب والاغترار بالنفس -عياذا بالله-.
- التفريط الملحوظ في بعض الواجبات وكثير من المستحبات، أو ممارسة المكروهات ويتعد التفريط به إلى مزاولة المحرمات؛ كل ذلك يكون تحت مسوغات واهية إما لانشغاله أو لأنها من المختلف فيه أو لوجود شبهة وغيرها؛ وهنا نتذكر الحديث التربوي العظيم الذي رواه سالم بن عبدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، عَن أَبِيِه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ -ﷺ- قَالَ:" نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ اللَّهِ لَو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ قالَ سالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بعْدَ ذلكَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلًا"(متفقٌ عَلَيْهِ"، ومن حديث عبدِاللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ -رضَيَ اللَّه عَنْهُمَا- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ: كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ"(متفقٌ عَلَيْهِ)؛ فانظروا كيف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حرص على ابن عمر على قيام الليل رغم استحبابه.
فمتى ستتعافى تلك الشخصيات من تلك الأوبئة التي تحملها والأمراض التي تنقلها عبر أجيالها ومحيطها الأسري والاجتماعي؟ ومتى سيتطهرون من تلك الشوائب التي علقت بهم؟ ومتى سيدرك أولئك النفر أن فئاما من الناس ضلوا بسبب تلك التصرفات السيئة وجعلوا منها حجة أمام الله لأن فلانا قالها أو فعلها؟
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى وخذنا إلينا غير مفتونين ولا ضالين ولا مضلين، واجعلنا للمتقين إماما.
وصل الله وسلم على محمد وآله وأصحابه والتابعين.