خلق حسن العهد
عبد الله بن علي الطريف
1436/01/22 - 2014/11/15 17:04PM
خلق حسن العهد.
أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ..
ما بعد: فعن عائشةَ رضي الله عنها قَالَتْ جَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْتِ؟» قَالَتْ: أَنَا جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ قَالَ: «بَلْ أَنْتِ حَسَّانَةُ الْمُزَنِيَّةُ كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟» قَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فقُرْبَ إليه لَحْمٌ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُها، قَالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: فَقُلْتُ يا رسول الله لا تغمر يدك. فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ؟ قَالَ: «إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ»
ثم قالت عائشة رضي الله عنها: فلما ذكر خديجة قلت: قد أبدلك الله من كبيرة السن حديثة السن، فشَدَقَنِي، وقال: ما علي - أو نحو هذا - إن كان الله رزقها مني الولد، ولم يرزقكيه، فقلت: والذى بعثك بالحق لا أذكرها إلا بخير أبدا. هذه رواية مجمعة صحح مجملها الألباني وأصل الحديث في الصحيح.
أيها الإخوة: بهذا الحديث قَعَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلق رفيع من أخلاق الإسلام العالية، وضرب عليه الصلاة والسلام بفعله المثل العملي الأعلى لهذا الخلق بل جعله من الأعمال الصالحة حين جعله من الإيمان ومعلوم لدينا أهل السنة والجماعة أن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان. إنه خلق حسن العهد..
أيها الأحبة: ما المقصود بحسن العهد هاهنا: الحِفَاظُ ورِعَايَةُ الحُرْمَة. وقيل حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال والمراد هنا عهد المعرفة المتقدمة.
والمقصود أن تحفظ لمن كان بينك وبينه سبب علاقة من نسب أو زواج أو صهر أو صداقة أو جوار أو زمالة عمل أو غيرها من الأسباب التي تكون سباً لنشأة علاقة بينكما وتحافظ على هذه العلاقة بحسن العشرة، ورعاية الحرمة، وزيادة المحبة والألفة، والبذل المادي والمعنوي ولا يمكن أن يُحسن الإنسان عهده بإنسان، وهو لم يحبه أو يألفه، أو يعاشره مدة من الزمان.. ومعنى قوله من الإيمان أي من شعب الإيمان، ومن خصاله وصفاته.
وقد عقد البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الأدب باباً خاصاً له فقال: بَاب حُسْنُ الْعَهْدِ مِنْ الْإِيمَانِ. وذكر فيه حديثاً عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا. أي: أخلائها وأحبابها من قريبات ومعارف وصديقات وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وفاءً لها وحفظاً لعهدها.
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ فَغِرْتُ فَقُلْتُ وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ فَأَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. رواه مسلم (فعرف استئذان خديجة) أي صفة استئذان خديجة لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك (فارتاح لذلك) أي هش لمجيئها وسر بها لتذكره بها خديجة وأيامها وفي هذا كله دليل لحسن العهد وحفظ الود ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب..
قال النووي رحمه الله: في هذا الحديث دلالة بحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشرة حياً وميتاً. بل وإكرام معارف ذلك الصاحب.. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يكرم حتى معارف وصواحب خديجة حباً لها، ورعاية لعهدها، فيرسل إليهن من الطعام ما يكفيهن.
وقال الغزالي رحمه الله معلقاً على الحديث: فمن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به، ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه؛ فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر إذ لا يدل على قوة الشفقة والحب إلا تعديهما من المحبوب إلى كل من يتعلق به..
أيها الإخوة: ولقد فقه الصحابة الكرام فضل هذا الخلق العظيم وطبقوه في حياتهم فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ العَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي، فَرَأَى الحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَالَ: بِأَبِي، شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لاَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ. رواه البخاري موافقا له في قوله معبرا عن رضاه بذلك وسروره، وقد فعل رضي الله عنه ذلك رعاية وحسن عهد لعشرته عليه الصلاة والسلام.
وكان عبد الله بن سلام مآخياً لأبي الدرداء وبينهما أخوة ومحبة ومودة ،فلما مات عبدالله بن سلام رضي الله عنه ذهب ابنه يوسف إلى الشام ليسأل عن أبي الدرداء، ذهب تجديداً للعهد ورعاية للحرمة والألفة وتأدية للحقوق فإن أبا الدرداء كان محباً لعبد الله بن سلام. فجاءه يوسف وهو يحتضر ،قد قارب مفارقة الدنيا ،ففرح به أبو الدرداء.
وهكذا علينا معاشر الإخوة حفظ العهد فحفظه من الإيمان.. اللهم وفقنا لحفظ العهد واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه إنك جواد كريم.. أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمد عبده ورسوله المؤيد ببرهانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثير (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281] أما بعد:
أيها الإخوة: هذا هو حسن العهد، وما أجمله بين زوج وزوجته، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أروع الأمثله، وما أجمله بين وابن وأبيه، وأخ وأخيه وما أجمله بين أفراد الأسرة عموماً قربوا أو بعدوا وبين صديق وصديقه، وجار وجاره، وتلميذ وشيخه، وما أجمله بين الزملاء بالعمل، والخارجين للسفر وأي أفراد يجمعهم سبب من الأسباب.
وأولى الناس به الأم والأب. فمن كان أحد من والديه حي فليحسن العهد بهما ببرهما وبر من يحبان ومن سبق إلى والديه الأجل فليحسن العهد بهما بالدعاء لهما والصدقة عنهما والإحسان إلى من يحبان فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمْ الْأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ. رواه مسلم
أيها الأحبة: من كان بينه وبين إنسان آخر مودة ،ومحبة وإلفة ،فإن من الإيمان وحسن العهد أن لا ينساه ولو كان ميتاً.
فإن كانت زوجة فدونك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاءه لزوجه خديجة..
وإن كان غير ذلك فعموم الحث على حسن العهد يشمله وفعل الصحابة ومن تبعهم بإحسان يثبته.. قال الإمام الشافعي: احفظ وداد من عاملك لحظة، ولا تنسَ جميل من أفادك لفظة.
أيها الإخوة: في هذا الزمن الذي طغت به المادة على التعامل بين الناس لا تجد لمثل هذا الخلق الرفيع في قاموس بعض الناس مكاناً، ويتعامل مع الآخرين بالمنطق المادي فقط.! لذلك تسمع عبارات مادية فجة مثل ماذا أستفيد منه.؟ لست مسئولاً عنه.؟ وما أكثر ما يرد هؤلاء باللهجة الدارجة (ما علي منك ، دبر نفسك ، أنا لست مكلفاً بأحد ، بعض الناس ما ودك يعرفك) . ومثل هذه العبارات المادية الفجة. حتى أصبح بعض الناس يستغرب ممن يقدم له معروفاً بناء على حسن العهد بل ربما عده بعض الماديين من السذاجة.
حري بنا أن نحيي هذا الخلق الإسلامي العظيم بيننا ونشيعه في مجتمعنا ونربي عليه أولادنا، ونشعرهم أن ذلك مما يزيد في الإيمان.. اللهم اجعلنا من عبادك الأوفياء.
أحبتي: بحمد الله أتم الحجيج حجهم بأمن وأمان ولم يعكر صفوهم مكدر، نسأل الله لهم القبول وأن يردهم إلى ديارهم سالمين مقبولين، وهذا من فضل الله و توفيقه نحمده عليه ثم الشكر لكل من ساهم بذلك من المسئولين وفقهم الله وسددهم وفتح عليهم أبواب الخير والفكر لما ينفع الحجاج وييسره على عباده.. وصلوا وسلموا....
أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ..
ما بعد: فعن عائشةَ رضي الله عنها قَالَتْ جَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْتِ؟» قَالَتْ: أَنَا جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ قَالَ: «بَلْ أَنْتِ حَسَّانَةُ الْمُزَنِيَّةُ كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟» قَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فقُرْبَ إليه لَحْمٌ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُها، قَالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: فَقُلْتُ يا رسول الله لا تغمر يدك. فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ؟ قَالَ: «إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ»
ثم قالت عائشة رضي الله عنها: فلما ذكر خديجة قلت: قد أبدلك الله من كبيرة السن حديثة السن، فشَدَقَنِي، وقال: ما علي - أو نحو هذا - إن كان الله رزقها مني الولد، ولم يرزقكيه، فقلت: والذى بعثك بالحق لا أذكرها إلا بخير أبدا. هذه رواية مجمعة صحح مجملها الألباني وأصل الحديث في الصحيح.
أيها الإخوة: بهذا الحديث قَعَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلق رفيع من أخلاق الإسلام العالية، وضرب عليه الصلاة والسلام بفعله المثل العملي الأعلى لهذا الخلق بل جعله من الأعمال الصالحة حين جعله من الإيمان ومعلوم لدينا أهل السنة والجماعة أن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان. إنه خلق حسن العهد..
أيها الأحبة: ما المقصود بحسن العهد هاهنا: الحِفَاظُ ورِعَايَةُ الحُرْمَة. وقيل حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال والمراد هنا عهد المعرفة المتقدمة.
والمقصود أن تحفظ لمن كان بينك وبينه سبب علاقة من نسب أو زواج أو صهر أو صداقة أو جوار أو زمالة عمل أو غيرها من الأسباب التي تكون سباً لنشأة علاقة بينكما وتحافظ على هذه العلاقة بحسن العشرة، ورعاية الحرمة، وزيادة المحبة والألفة، والبذل المادي والمعنوي ولا يمكن أن يُحسن الإنسان عهده بإنسان، وهو لم يحبه أو يألفه، أو يعاشره مدة من الزمان.. ومعنى قوله من الإيمان أي من شعب الإيمان، ومن خصاله وصفاته.
وقد عقد البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الأدب باباً خاصاً له فقال: بَاب حُسْنُ الْعَهْدِ مِنْ الْإِيمَانِ. وذكر فيه حديثاً عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا. أي: أخلائها وأحبابها من قريبات ومعارف وصديقات وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وفاءً لها وحفظاً لعهدها.
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ فَغِرْتُ فَقُلْتُ وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ فَأَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. رواه مسلم (فعرف استئذان خديجة) أي صفة استئذان خديجة لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك (فارتاح لذلك) أي هش لمجيئها وسر بها لتذكره بها خديجة وأيامها وفي هذا كله دليل لحسن العهد وحفظ الود ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب..
قال النووي رحمه الله: في هذا الحديث دلالة بحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشرة حياً وميتاً. بل وإكرام معارف ذلك الصاحب.. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يكرم حتى معارف وصواحب خديجة حباً لها، ورعاية لعهدها، فيرسل إليهن من الطعام ما يكفيهن.
وقال الغزالي رحمه الله معلقاً على الحديث: فمن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به، ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه؛ فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر إذ لا يدل على قوة الشفقة والحب إلا تعديهما من المحبوب إلى كل من يتعلق به..
أيها الإخوة: ولقد فقه الصحابة الكرام فضل هذا الخلق العظيم وطبقوه في حياتهم فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ العَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي، فَرَأَى الحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَالَ: بِأَبِي، شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لاَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ. رواه البخاري موافقا له في قوله معبرا عن رضاه بذلك وسروره، وقد فعل رضي الله عنه ذلك رعاية وحسن عهد لعشرته عليه الصلاة والسلام.
وكان عبد الله بن سلام مآخياً لأبي الدرداء وبينهما أخوة ومحبة ومودة ،فلما مات عبدالله بن سلام رضي الله عنه ذهب ابنه يوسف إلى الشام ليسأل عن أبي الدرداء، ذهب تجديداً للعهد ورعاية للحرمة والألفة وتأدية للحقوق فإن أبا الدرداء كان محباً لعبد الله بن سلام. فجاءه يوسف وهو يحتضر ،قد قارب مفارقة الدنيا ،ففرح به أبو الدرداء.
وهكذا علينا معاشر الإخوة حفظ العهد فحفظه من الإيمان.. اللهم وفقنا لحفظ العهد واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه إنك جواد كريم.. أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمد عبده ورسوله المؤيد ببرهانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثير (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281] أما بعد:
أيها الإخوة: هذا هو حسن العهد، وما أجمله بين زوج وزوجته، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أروع الأمثله، وما أجمله بين وابن وأبيه، وأخ وأخيه وما أجمله بين أفراد الأسرة عموماً قربوا أو بعدوا وبين صديق وصديقه، وجار وجاره، وتلميذ وشيخه، وما أجمله بين الزملاء بالعمل، والخارجين للسفر وأي أفراد يجمعهم سبب من الأسباب.
وأولى الناس به الأم والأب. فمن كان أحد من والديه حي فليحسن العهد بهما ببرهما وبر من يحبان ومن سبق إلى والديه الأجل فليحسن العهد بهما بالدعاء لهما والصدقة عنهما والإحسان إلى من يحبان فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمْ الْأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ. رواه مسلم
أيها الأحبة: من كان بينه وبين إنسان آخر مودة ،ومحبة وإلفة ،فإن من الإيمان وحسن العهد أن لا ينساه ولو كان ميتاً.
فإن كانت زوجة فدونك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاءه لزوجه خديجة..
وإن كان غير ذلك فعموم الحث على حسن العهد يشمله وفعل الصحابة ومن تبعهم بإحسان يثبته.. قال الإمام الشافعي: احفظ وداد من عاملك لحظة، ولا تنسَ جميل من أفادك لفظة.
أيها الإخوة: في هذا الزمن الذي طغت به المادة على التعامل بين الناس لا تجد لمثل هذا الخلق الرفيع في قاموس بعض الناس مكاناً، ويتعامل مع الآخرين بالمنطق المادي فقط.! لذلك تسمع عبارات مادية فجة مثل ماذا أستفيد منه.؟ لست مسئولاً عنه.؟ وما أكثر ما يرد هؤلاء باللهجة الدارجة (ما علي منك ، دبر نفسك ، أنا لست مكلفاً بأحد ، بعض الناس ما ودك يعرفك) . ومثل هذه العبارات المادية الفجة. حتى أصبح بعض الناس يستغرب ممن يقدم له معروفاً بناء على حسن العهد بل ربما عده بعض الماديين من السذاجة.
حري بنا أن نحيي هذا الخلق الإسلامي العظيم بيننا ونشيعه في مجتمعنا ونربي عليه أولادنا، ونشعرهم أن ذلك مما يزيد في الإيمان.. اللهم اجعلنا من عبادك الأوفياء.
أحبتي: بحمد الله أتم الحجيج حجهم بأمن وأمان ولم يعكر صفوهم مكدر، نسأل الله لهم القبول وأن يردهم إلى ديارهم سالمين مقبولين، وهذا من فضل الله و توفيقه نحمده عليه ثم الشكر لكل من ساهم بذلك من المسئولين وفقهم الله وسددهم وفتح عليهم أبواب الخير والفكر لما ينفع الحجاج وييسره على عباده.. وصلوا وسلموا....
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق