خلق الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم-9-9-1436هـ-محمد النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف
محمد بن سامر
1436/09/09 - 2015/06/26 05:09AM
[align=justify][align=justify][align=justify] إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، عن أمِنا عائشةَ-رضي اللهُ عنها-أنها سُئلتْ عنْ خلقِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-فقالتْ: "كانَ خلقُه القرآنَ"، و قال رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-: "ثلاثٌ مُنجِياتٌ: خَشيةُ اللهِ-تعالَى-في السِّرِّ والعلانِيَةِ، والعدلُ في الرِّضا والغضَبِ، والقصْدُ في الفقْرِ والغِنَى".
وقد كان-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-متواضعًا يَسِرًا منِ دونِ تكلفٍ ولا تصنعٍ، يلقى غيرَه بالبشرِ والتواضعِ، أبعدَ الناسِ وأقربَهم وأصحابَه ومن والاه وأهلَ بيتِه ومَنْ وفدَ إليه.
واسمعوا إلى عدي بن حاتم-رضي اللهُ عنه-يروي قصتَه وقدْ قدمَ إلى رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-بعدَ أنْ فَتحتْ جيوشُ المسلمينَ بلادَه، وفرَّ إلى الرومِ هاربًا، يقول: وقد كنتُ أظنُ أنني ألقى ملكًا في المدينةِ.
قال: دخلت على رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-فقالَ: "مَنِ الرجلُ؟"، فقلت: عديُ بنُ حاتمٍ.
فقامَ وانطلقَ إلى بيتِه، فو اللهِ إنه لعامدٌ إلى بيتِه، إذْ لقيتُه امرأةٌ ضعيفةٌ كبيرةٌ فاستوقفتْه، فوقفَ طويلا تكلمُه في حاجةٍ لها، فقلتُ: ما هذا بِمَلِكٍ!، ثم مضى بي رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-حتى دخلَ بي بيتَه، فتناولَ وسادةً من أدمٍ، محشوةً ليفًا، فألقاها إليَّ فقال: "اجلسْ على هذه"، قلتُ: بل أنتَ فاجلسْ عليها قالَ: "بلْ أنتْ"، فجلستُ عليها وقلتُ في نفسي: واللهِ ما هذا بأمرِ مَلِكٍ، ثم قال: إيهِ يا عديُ بنَ حاتمَ ألم تكن ركوسيًا؟ (الركوسيةُ: دينٌ خليط من النصرانيةِ وغيرها)، قلتُ: بلى، قالَ: "أولمْ تكنْ تسيرُ في قومِك بالمرباعِ؟، (المرباعُ: أنْ يأخذُ رئيسُ القبيلةِ رُبُعَ الغنائمِ)، قلتُ: بلى، قال: "هذا لا يحلُ لكَ في دينِك"، قلتُ: أجلْ واللهِ، وعرفتُ أنه نبيٌ مرسلٌ، ثم قالَ: "لعلك يا عديُ إنما يمنعُك من دخولٍ في هذا الدينِ ما ترى من حاجتِهم(يعني فقرَ المسلمينَ)، فواللهِ لَيُوشِكَنَّ المالُ أنْ يفيضَ فيهم حتى لا يوجدُ منْ يأخذُه، ولَعَلَكَ إنما يمنعُك من دخولٍ فيه ما ترى مِنْ كثرةِ عدوِهم وقلةِ عددِهم، فو اللهِ لَيُوشِكَنَّ أنْ تسمعَ بالمرأةِ تخرجُ مِنَ الحِيرةِ(مدينةٌ بالعراقِ)، على بعيرِها تزورُ هذا البيتَ لا تخافُ، ولَعَلَكَ إنما يمنعُك من دخولٍ فيه أنك ترى أنَّ الْمُلْكَ والسلطانَ في غيرِهم(يعني ضعفَ المسلمينَ)، وايمْ اللهِ لَيُوشِكَنَّ أنْ تسمعَ بالقصورِ البيضِ من أرضِ بابلَ(محافظةٌ بالعراقِ)قدْ فُتحتْ عليهم"، قالَ عديٌ: فأسلمت.
ولقدْ عاشّ عديٌ حتى رأى القادسيةَ والقصورَ البابليةَ مفتحةً للمسلمين.
وكان-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-حكيمًا رقيقًا في معاملتِه لأصحابِه الكرامِ بخاصةٍ والناسِ بعامةٍ.
واسمعوا إلى كاتبي السيرةِ يروونَ موقفَه الحكيمَ مِنَ الأنصارِ بعدَ غزوةِ حُنَينٍ، لمَّا أصابَ رسولُ اللهِ الغنائمَ يَومَ حُنَينٍ، وقسمَ للمُتألَّفينَ مِن قُرَيشٍ وسائرِ العربِ ما قَسمَ، ولَم يكُن في الأنصارِ شيءٌ مِنها، قليلٌ ولا كثيرٌ، وجدَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهِم، فمشَى سعدُ بنُ عُبادةَ-رضي الله عنه-إلى رسولِ اللهِ فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنَّ هذا الحَيَّ مِن الأنصارِ وَجدوا علَيكَ في أنفسِهِم؟ قالَ: "فيمَ؟" قالَ: فيما كانَ مِن قَسمِكَ هذهِ الغنائمِ في قَومِكَ وفي سائرِ العربِ، ولَم يكُن فيهِم مِن ذلكَ شيءٌ، قالَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-: "فأينَ أنتَ مِن ذلكَ يا سعدُ؟" قالَ: ما أنا إلا امرؤٌ مِن قَومي، فقالَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-: "اجمَعْ لي قَومَكَ في هذهِ الحظيرةِ فإذا اجتمَعوا فأعلِمني، فخرجَ سعدُ فصرخَ فيهِم فجمعَهم في تلكَ الحظيرةِ حتَّى إذا اجتمعوا كلُّهم، أتاهُ فقالَ: يا رسولَ اللهِ اجتمعَ لكَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ، حَيثُ أمرتَني أن أجمعَهُم، فخرجَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-، فقامَ فيهِم خطيبًا فحمِدَ اللهَ وأثنَى علَيهِ بما هوَ أهلُهُ، ثمَّ قالَ: "يا معشرَ الأنصارِ ألَم آتِكُم ضُلالا فهداكُم اللهُ، وعالةً(فقراء)فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألَّفَ اللهُ بينَ قلوبِكُم؟ قالوا: بلَى! قالَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-: "ألا تجيبونَ يا معشرَ الأنصارِ؟" قالوا: وما نقولُ يا رسولَ اللهِ وبماذا نُجيبُكَ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ، قالَ: "واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ، وعائلا فآسَيناكَ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولا فنصَرناكَ، فقالوا: المَّنُ للهِ ورسولِهِ، فقال: أوَجَدتُم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا(شيءٍ قليلٍ)تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا، ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ!، أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فَوَ الَّذي نَفسي بِيدِهِ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ، اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ"، فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم(بلُّوها بالدمعِ). وقالوا: رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قَسمًا، ثمَّ انصرفَ وتفرَقوا.
لقد استطاعَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ- بحكمتِه ورقتِه، وخُلقِه العظيمِ، أنْ يملأَ أفئدتَهم رضىً، وأرواحَهم ثراءً، وأنفسَهم عافيةً، حتى رضُوا به قَسْمٍا وحظًا.
لقد كان-عليه وآله الصلاة والسلام-كثيرَ التواضعِ كاملَ الأدبِ؛ يبدأ الناسَ بالسلامِ، ويتجهُ بجسمِه كلِه إلى محدثِه صغيرًا كانَ أو كبيرًا، ويكونُ آخرَ مَنْ يسحبُ يدَه إذا صافحَ، وإذا تَصدَّقَ وضعَ الصدقةَ بيدِه في يدِ المسكينِ، وإذا جلسَ جلسَ حيث ينتهي به المجلسُ، ولم يكن يتكبرُ و يَتَرَفَّعُ من قضاءِ حاجتِه، أو حاجةِ صاحبٍ أو جارٍ، فكانَ يذهبُ إلى السوقِ و يحملُ بضاعتَه ويقول: "أنا أولى بحملِها"، وكان يجيبُ دعوةَ الحُرِّ والعبدِ والأمةِ والمسكينِ، ويقبلُ عذرَ المعتذرِ، وكان يخيطُ ثوبَه، ويَخصِفُ نعلَه، ويخدِم نفسَه، ويعقلَ بعيرَه، ويأكلُ معَ الخادمِ، ويقضي حاجةَ الضعيفِ والبائسِ.
هذا التواضعُ و التياسرُ، و هذه الرقةُ والحكمةُ صورةٌ صادقةٌ له، بعيدةٌ عن التكلفِ و التصنعِ، و لم يُنقص هذا من هيبتِه ولا محبتِه، فكلُُّ مَنْ رآه هابَه ومَنْ عاشرَه أحبَه.
إخواني الكرام: إذا أردْنا أنْ يكونَ لنا حظٌ مِنْ هذِهِ الأخلاقِ فلنقبلْ على اللهِ بِمِلْءِ قلوبِنا مخلصين داعينَ بهذا الدعاءِ النبويِّ الشريفِ: "اللهم اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرفْ عنا سيِئها، لا يصرفُ عنا سيئهَا إلا أنت، اللهم كما أحسنتَ خلقَنا فأحسنْ خُلقَنا".
[/align][/align][align=justify][align=justify]
إخواني الأعزاء: نحنُ في شهرِ الصيامِ والتوبةِ والمغفرةِ، شهرِ السموِ النفسيِ والرقيِ الأخلاقيِ، ومع ذلك فبعضُ الناسُ-هدانا اللهُ وإياهمْ-تسوءُ أخلاقُهم في رمضانَ، بِحُجَةِ الصومِ، ولكنَّ الصومَ إذا اقترن بالإقبالِ على اللهِ أدى إلى كلِّ مَكْرُمَةٍ وكلِّ خيرٍ، فقدْ كانَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-أجودَ الناسِ، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ، فهو كالمطرِ إذا استقبلتْهُ الريحُ.
ألا فَلْيكنْ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-أسوةً حسنةً لنا في أقوالِنا وأفعالِنا وأحوالِنا، لِنقْتَفِ أثرَه ونتبعْ سنتَه ونتخلقْ بأخلاقِه، [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
إنَّ أحبابَه هم الذين ساروا على هديِه، واستمسكوا بسننِه، واقتفوا أثرَه، وتخلقوا بأخلاقِه، فَلْنبدأْ بنفوسِنا نصلحُها ونهذبُها ونزكيها.
ثم نُثَنِّ بأهلِنا، أتى أحدُ الصحابةِ-رضيَ اللهُ عنهمْ- النبيَّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ مَن أبَرُّ؟ قالَ: أمَّكَ، وأباكَ، وأختَكَ، وأخاكَ، ومولاكَ الَّذي يلي ذاكَ، حقٌّ واجبٌ، ورحمٌ موصولةٌ"، هؤلاءِ عليك أنْ تُبالغَ في التوددِ إليهم، مِنْ غيرِ أنْ تطيعَهم في معصيةٍ، لأنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ، [وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا].
واعلمْ أنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-قد قال: "الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فأضع ذلِكَ البابَ أوِ احفظْهُ".
أما زوجتُك الصالحةُ فهي أمُ أولادِك، وعونُك على دينِك ودنياك، قال-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-"خيرُكم خيرُكم لأهلِه"، واحذرْ مِنْ أنْ يقودَك إكرامُك لزوجتِك إلى معصيةٍ، فتكونَ شُؤْمًا عليك ومصيبةً في دينِك، تسوقُك إلى نار جهنم وأنت لا تشعرْ.
أما أولادُك فهم رعيتُك في مملكتِك، وأهلُك الأقربون، كنْ قُدوةً لهم في سلوكِك، ومعلمًا لهم في حديثِك، فإنْ كانوا صغارًا فتصابى لهم حتى يحبوك، وإنْ كانوا كبارًا فتجاوزْ عن أخطائِهم حتى يوقروك، واصبر عليهم، لأنَّ الشبابَ شُعبةٌ مِنَ الجنونِ.
أخي الحبيب: اجعلْ كسبَك حلالا، بتأديةِ واجبِك، وإتقانِ صنعتِك، والقناعةِ في رِبحِك، وقد قال-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلا بِطاعَتِهِ".
واعلم-يا أخي العزيز- أنَّ رزقَ اللهِ لا يجرُّه حرصُ حريصٍ، ولا تّرُدُّهُ كراهةُ كارهٍ، "واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ"، [مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]، لذلك ارفعْ رأسَك، وخَفْ ربَك، وأطعْ مَنْ بيدِه كلُّ أمرِك، وإليه منقلبُك ومصيرُك، واعلمْ أنه مَنْ أسخطَ اللهَ وأرضى الناسَ سخطَ اللهُ عليه وأسخطَ عليه الناسَ، ومن أرضى الله وأسخطَ الناسَ رضى اللهُ عنه وأرضى عنه الناسَ.
أخي المبارك: اجعلْ بيتَك روضةً من رياضِ الجنةِ؛ بقراءةِ القرآنِ والإكثارِ مِنْ ذكرِ اللهِ والصلاةِ، والتحدثِ إلى الأهلِ والولدِ فيما يُرضي اللهَ، فرمضانُ هو فرصتُك لتولدَ من جديدٍ إنسانًا مؤمنًا مستنيرًا، طيبَ النفسِ كريمَ السجايا.
[/align][/align][/align]
فيا أيها الإخوة، عن أمِنا عائشةَ-رضي اللهُ عنها-أنها سُئلتْ عنْ خلقِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-فقالتْ: "كانَ خلقُه القرآنَ"، و قال رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-: "ثلاثٌ مُنجِياتٌ: خَشيةُ اللهِ-تعالَى-في السِّرِّ والعلانِيَةِ، والعدلُ في الرِّضا والغضَبِ، والقصْدُ في الفقْرِ والغِنَى".
وقد كان-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-متواضعًا يَسِرًا منِ دونِ تكلفٍ ولا تصنعٍ، يلقى غيرَه بالبشرِ والتواضعِ، أبعدَ الناسِ وأقربَهم وأصحابَه ومن والاه وأهلَ بيتِه ومَنْ وفدَ إليه.
واسمعوا إلى عدي بن حاتم-رضي اللهُ عنه-يروي قصتَه وقدْ قدمَ إلى رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-بعدَ أنْ فَتحتْ جيوشُ المسلمينَ بلادَه، وفرَّ إلى الرومِ هاربًا، يقول: وقد كنتُ أظنُ أنني ألقى ملكًا في المدينةِ.
قال: دخلت على رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-فقالَ: "مَنِ الرجلُ؟"، فقلت: عديُ بنُ حاتمٍ.
فقامَ وانطلقَ إلى بيتِه، فو اللهِ إنه لعامدٌ إلى بيتِه، إذْ لقيتُه امرأةٌ ضعيفةٌ كبيرةٌ فاستوقفتْه، فوقفَ طويلا تكلمُه في حاجةٍ لها، فقلتُ: ما هذا بِمَلِكٍ!، ثم مضى بي رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-حتى دخلَ بي بيتَه، فتناولَ وسادةً من أدمٍ، محشوةً ليفًا، فألقاها إليَّ فقال: "اجلسْ على هذه"، قلتُ: بل أنتَ فاجلسْ عليها قالَ: "بلْ أنتْ"، فجلستُ عليها وقلتُ في نفسي: واللهِ ما هذا بأمرِ مَلِكٍ، ثم قال: إيهِ يا عديُ بنَ حاتمَ ألم تكن ركوسيًا؟ (الركوسيةُ: دينٌ خليط من النصرانيةِ وغيرها)، قلتُ: بلى، قالَ: "أولمْ تكنْ تسيرُ في قومِك بالمرباعِ؟، (المرباعُ: أنْ يأخذُ رئيسُ القبيلةِ رُبُعَ الغنائمِ)، قلتُ: بلى، قال: "هذا لا يحلُ لكَ في دينِك"، قلتُ: أجلْ واللهِ، وعرفتُ أنه نبيٌ مرسلٌ، ثم قالَ: "لعلك يا عديُ إنما يمنعُك من دخولٍ في هذا الدينِ ما ترى من حاجتِهم(يعني فقرَ المسلمينَ)، فواللهِ لَيُوشِكَنَّ المالُ أنْ يفيضَ فيهم حتى لا يوجدُ منْ يأخذُه، ولَعَلَكَ إنما يمنعُك من دخولٍ فيه ما ترى مِنْ كثرةِ عدوِهم وقلةِ عددِهم، فو اللهِ لَيُوشِكَنَّ أنْ تسمعَ بالمرأةِ تخرجُ مِنَ الحِيرةِ(مدينةٌ بالعراقِ)، على بعيرِها تزورُ هذا البيتَ لا تخافُ، ولَعَلَكَ إنما يمنعُك من دخولٍ فيه أنك ترى أنَّ الْمُلْكَ والسلطانَ في غيرِهم(يعني ضعفَ المسلمينَ)، وايمْ اللهِ لَيُوشِكَنَّ أنْ تسمعَ بالقصورِ البيضِ من أرضِ بابلَ(محافظةٌ بالعراقِ)قدْ فُتحتْ عليهم"، قالَ عديٌ: فأسلمت.
ولقدْ عاشّ عديٌ حتى رأى القادسيةَ والقصورَ البابليةَ مفتحةً للمسلمين.
وكان-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-حكيمًا رقيقًا في معاملتِه لأصحابِه الكرامِ بخاصةٍ والناسِ بعامةٍ.
واسمعوا إلى كاتبي السيرةِ يروونَ موقفَه الحكيمَ مِنَ الأنصارِ بعدَ غزوةِ حُنَينٍ، لمَّا أصابَ رسولُ اللهِ الغنائمَ يَومَ حُنَينٍ، وقسمَ للمُتألَّفينَ مِن قُرَيشٍ وسائرِ العربِ ما قَسمَ، ولَم يكُن في الأنصارِ شيءٌ مِنها، قليلٌ ولا كثيرٌ، وجدَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهِم، فمشَى سعدُ بنُ عُبادةَ-رضي الله عنه-إلى رسولِ اللهِ فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنَّ هذا الحَيَّ مِن الأنصارِ وَجدوا علَيكَ في أنفسِهِم؟ قالَ: "فيمَ؟" قالَ: فيما كانَ مِن قَسمِكَ هذهِ الغنائمِ في قَومِكَ وفي سائرِ العربِ، ولَم يكُن فيهِم مِن ذلكَ شيءٌ، قالَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-: "فأينَ أنتَ مِن ذلكَ يا سعدُ؟" قالَ: ما أنا إلا امرؤٌ مِن قَومي، فقالَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-: "اجمَعْ لي قَومَكَ في هذهِ الحظيرةِ فإذا اجتمَعوا فأعلِمني، فخرجَ سعدُ فصرخَ فيهِم فجمعَهم في تلكَ الحظيرةِ حتَّى إذا اجتمعوا كلُّهم، أتاهُ فقالَ: يا رسولَ اللهِ اجتمعَ لكَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ، حَيثُ أمرتَني أن أجمعَهُم، فخرجَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-، فقامَ فيهِم خطيبًا فحمِدَ اللهَ وأثنَى علَيهِ بما هوَ أهلُهُ، ثمَّ قالَ: "يا معشرَ الأنصارِ ألَم آتِكُم ضُلالا فهداكُم اللهُ، وعالةً(فقراء)فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألَّفَ اللهُ بينَ قلوبِكُم؟ قالوا: بلَى! قالَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ-: "ألا تجيبونَ يا معشرَ الأنصارِ؟" قالوا: وما نقولُ يا رسولَ اللهِ وبماذا نُجيبُكَ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ، قالَ: "واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ، وعائلا فآسَيناكَ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولا فنصَرناكَ، فقالوا: المَّنُ للهِ ورسولِهِ، فقال: أوَجَدتُم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا(شيءٍ قليلٍ)تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا، ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ!، أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فَوَ الَّذي نَفسي بِيدِهِ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ، اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ"، فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم(بلُّوها بالدمعِ). وقالوا: رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قَسمًا، ثمَّ انصرفَ وتفرَقوا.
لقد استطاعَ رسولُ اللهِ-صلَّى اللهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ- بحكمتِه ورقتِه، وخُلقِه العظيمِ، أنْ يملأَ أفئدتَهم رضىً، وأرواحَهم ثراءً، وأنفسَهم عافيةً، حتى رضُوا به قَسْمٍا وحظًا.
لقد كان-عليه وآله الصلاة والسلام-كثيرَ التواضعِ كاملَ الأدبِ؛ يبدأ الناسَ بالسلامِ، ويتجهُ بجسمِه كلِه إلى محدثِه صغيرًا كانَ أو كبيرًا، ويكونُ آخرَ مَنْ يسحبُ يدَه إذا صافحَ، وإذا تَصدَّقَ وضعَ الصدقةَ بيدِه في يدِ المسكينِ، وإذا جلسَ جلسَ حيث ينتهي به المجلسُ، ولم يكن يتكبرُ و يَتَرَفَّعُ من قضاءِ حاجتِه، أو حاجةِ صاحبٍ أو جارٍ، فكانَ يذهبُ إلى السوقِ و يحملُ بضاعتَه ويقول: "أنا أولى بحملِها"، وكان يجيبُ دعوةَ الحُرِّ والعبدِ والأمةِ والمسكينِ، ويقبلُ عذرَ المعتذرِ، وكان يخيطُ ثوبَه، ويَخصِفُ نعلَه، ويخدِم نفسَه، ويعقلَ بعيرَه، ويأكلُ معَ الخادمِ، ويقضي حاجةَ الضعيفِ والبائسِ.
هذا التواضعُ و التياسرُ، و هذه الرقةُ والحكمةُ صورةٌ صادقةٌ له، بعيدةٌ عن التكلفِ و التصنعِ، و لم يُنقص هذا من هيبتِه ولا محبتِه، فكلُُّ مَنْ رآه هابَه ومَنْ عاشرَه أحبَه.
إخواني الكرام: إذا أردْنا أنْ يكونَ لنا حظٌ مِنْ هذِهِ الأخلاقِ فلنقبلْ على اللهِ بِمِلْءِ قلوبِنا مخلصين داعينَ بهذا الدعاءِ النبويِّ الشريفِ: "اللهم اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرفْ عنا سيِئها، لا يصرفُ عنا سيئهَا إلا أنت، اللهم كما أحسنتَ خلقَنا فأحسنْ خُلقَنا".
[/align][/align][align=justify][align=justify]
الخطبة الثانية
ألا فَلْيكنْ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-أسوةً حسنةً لنا في أقوالِنا وأفعالِنا وأحوالِنا، لِنقْتَفِ أثرَه ونتبعْ سنتَه ونتخلقْ بأخلاقِه، [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
إنَّ أحبابَه هم الذين ساروا على هديِه، واستمسكوا بسننِه، واقتفوا أثرَه، وتخلقوا بأخلاقِه، فَلْنبدأْ بنفوسِنا نصلحُها ونهذبُها ونزكيها.
ابدأْ بنفسِك فانهَها عن غيِها***فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ
واعلمْ أنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-قد قال: "الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فأضع ذلِكَ البابَ أوِ احفظْهُ".
أما زوجتُك الصالحةُ فهي أمُ أولادِك، وعونُك على دينِك ودنياك، قال-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-"خيرُكم خيرُكم لأهلِه"، واحذرْ مِنْ أنْ يقودَك إكرامُك لزوجتِك إلى معصيةٍ، فتكونَ شُؤْمًا عليك ومصيبةً في دينِك، تسوقُك إلى نار جهنم وأنت لا تشعرْ.
أما أولادُك فهم رعيتُك في مملكتِك، وأهلُك الأقربون، كنْ قُدوةً لهم في سلوكِك، ومعلمًا لهم في حديثِك، فإنْ كانوا صغارًا فتصابى لهم حتى يحبوك، وإنْ كانوا كبارًا فتجاوزْ عن أخطائِهم حتى يوقروك، واصبر عليهم، لأنَّ الشبابَ شُعبةٌ مِنَ الجنونِ.
أخي الحبيب: اجعلْ كسبَك حلالا، بتأديةِ واجبِك، وإتقانِ صنعتِك، والقناعةِ في رِبحِك، وقد قال-عليه وآله الصلاةُ والسلامُ-: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلا بِطاعَتِهِ".
واعلم-يا أخي العزيز- أنَّ رزقَ اللهِ لا يجرُّه حرصُ حريصٍ، ولا تّرُدُّهُ كراهةُ كارهٍ، "واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ"، [مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]، لذلك ارفعْ رأسَك، وخَفْ ربَك، وأطعْ مَنْ بيدِه كلُّ أمرِك، وإليه منقلبُك ومصيرُك، واعلمْ أنه مَنْ أسخطَ اللهَ وأرضى الناسَ سخطَ اللهُ عليه وأسخطَ عليه الناسَ، ومن أرضى الله وأسخطَ الناسَ رضى اللهُ عنه وأرضى عنه الناسَ.
أخي المبارك: اجعلْ بيتَك روضةً من رياضِ الجنةِ؛ بقراءةِ القرآنِ والإكثارِ مِنْ ذكرِ اللهِ والصلاةِ، والتحدثِ إلى الأهلِ والولدِ فيما يُرضي اللهَ، فرمضانُ هو فرصتُك لتولدَ من جديدٍ إنسانًا مؤمنًا مستنيرًا، طيبَ النفسِ كريمَ السجايا.
[/align][/align][/align]
المرفقات
خلق الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم-9-9-1436هـ-محمد النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc
خلق الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم-9-9-1436هـ-محمد النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc
خلق الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم-9-9-1436هـ-محمد النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx
خلق الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم-9-9-1436هـ-محمد النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx