خلق الرحمة والإحسان

عبدالرحمن اللهيبي
1443/04/21 - 2021/11/26 04:12AM
 
من المنقول بتصرف
 

الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الجَوَادِ، الكَرِيمِ الوَهَّابِ؛ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ يَرْزُقُ العِبَادَ بفَضْلِهِ، وَيَفِيضُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ، وَيَفْتَحُ لَهُمْ أبواب خَزَائِنَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالإِنْفَاقِ مِمَّا أَعْطَاهُمْ؛ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم ، وَيُضَاعِفَ حسناتهم، وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَطَاءً، وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا، وَأَنْدَاهُمْ يَدًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّم وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بمن مضى قبلكم، عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، وهم السابقون وأنتم اللاحقون

سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تُشدُّ بكم الرحال، أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ .

أيها المسلمون، الناس كل الناس في حاجة إلى قلب رحيم، ورعايةٍ حانية، وبشاشة حسنة، وكلمة طيبة هم بحاجة إلى رحمة تغشاهم, وإحسان يسعهم، وحِلْمٍ لا يضيق بجهلهم، نعم وربي إنهم في حاجة إلى قلب كبير يتجاوز عن هفواتهم ويغفر أخطاءهم , يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم .

يا مسلمون لاَ شَيْءَ أَلَذَّ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الإِيمَانِ مِنْ إِسْدَاءِ الخَيْرِ لِلنَّاسِ والإحسان إليهم ، وإعانة المُحْتَاجِينَ، وَإِطْعَامِ الجَائِعِينَ، وَالتَّنْفِيسِ عَنْ المَكْرُوبِينَ

فما أجملها من لذة وسعادة وانشراح صدر حين تُشْبِعُ جَائِعًا، أَوْ تَكْسُو عَارِيًا، أَوْ تُعَالِجُ مَرِيضًا، أَوْ تَقْضِي دَيْنًا، أو تنظر معسرا ، أَوْ تَكْفُلُ أَرْمَلَةً وَيَتِيمًا. وإنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ والسعادة الَّتِي يَجِدُهَا فَاعِلُ الخَيْرِ لهو جَزَاءٌ مُعَجَّلٌ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ مَعَ مَا يدخره الله لَهُ مِنْ عَظِيمِ الجَزَاءِ فِي الآخِرَةِ.

فالمحسنون للخلق هم أكثر الناس أنسا وسعادة ، وهم أكثر الناس طمأنينة وانشراحا، وهم أكثر الناس ثوابا وأجرا ، وهم أرفع الناس عند الله مكانة وقدرا ، وهم أقرب الناس يوم القيامة إلى النبي ﷺ مكانا ومجلسا

فالمحسنون إلى الناس تغفر ذنوبهم وترفع درجاتهم وتُيسر أمورهم ويبارك لهم في أولادهم وأموالهم ويوسع لهم في أرزاقهم ويمد لهم في آجالهم وتجاب دعواتُهم

وتفرج هموهم وتكشف كروبهم، ويشف الله أمراضهم ويقضي الله حاجاتهم ويدفع الله عنهم مصارع السوء  

إن خلقَ الرحمة والإحسان ـ يا مسلمون ـ من أعظم ما يمنحه الله لعبده ، وهنيئا لمن أكرمه الله بهذا الخلق العظيم فالرحمة تجعل المرءَ يرقّ لآلام الخلق، فيسعى لإزالتها، كما يسعى في مواساتهم، وجبر خواطرهم، كما يأسى لأخطائهم، فيسعى لإصلاحهم ويتمنّى هدايتهم، ويتلمّس أعذارهم ويصفح عن زلاتهم ويتغافل عن أخطائهم.

الرحمة والإحسان يا مسلمون من دلائل الإيمان، فالمسلم يلقى الجار والقريب والصديق والحبيب والضعيف والفقير والأرملة واليتيم يلقاهم وفي قلبه عطفٌ مدخور، وبرّ مكنون، يوسع لهم، ويخفف عنهم، ويواسيهم ولا يجرح مشاعرهم ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي  أنه قال: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا)) فمتى وجد العبد في قلبه رحمة للناس فليعلم أنها من الإيمان.

ولهذا فإن المؤمن كلما قويَّ إيمانه كلما تميّز بقلب رحيم وحس مرهف، يرقّ للضعيف، ويألم للحزين، ويعطف على المساكين، ويحسن إلى الخدم والعمال ,ويكره البغي والظلم ويسعى ما استطاع في دفعه ورفعه، فهو مصدر خير وبر وسلام لمن حوله.

أيها المسلمون، وإذا كان الأمر كذلك فإن أولى الناسِ وأحقَهم بالإحسان والرحمة هما الوالدان، فالله يقول: وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ .

ثم من بعد ذلك الزوجات والبنات ، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته بالنساء خيرا ..

فأشبعوا نساءكم وبناتكم حبا وعطفا وحنانا ، ورحمة وعفوا وإحسانا، فأكرموهم فلا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم ، واصبروا عليهم وأحسنوا تربيتهم وخذوا بحجزهم عن مواطن الهلكات ، وأغنوهم واكفوهم ولا تضطروهم لمشقة العمل والاختلاط بالرجال

ثم من أعظم الحقوق بعد ذلك حق ذوي الأرحام، فليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه وذوي رحمه، أو يقطع علائقه بهم ولا يتفقد فقراءهم وأيتامهم وأراملهم ، فلا يسدي لهم عوناً، ولا يواسيهم في ألم، ولا يشاركهم في أفراحهم وأحزانهم، ولا يقف معهم في حوائجهم ولا يفزع لهم في ملماتهم  

فبالله عليكم يا مسلمون أي رحمة وإحسان في قلب ذلك الرجل الذي يتقلب في ألوان النعمة والثراء وأخيه أو أخته في حاجة ومساسة لا يعلمها إلا الله أو يبيت شبعانا وجاره جائع ، وقد قال ﷺ فيما رواه أبو داود : ((لا تُنزع الرحمة إلا من شقي))

ومن مواطن الرحمة والإحسان حسن معاملة الخدم والعمال والأجراء ، والترفق بهم فيما يُكلّفون به من أعمال، والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من الظلم والبغي عليهم أو عدم الوفاء بأجرهم أو التعدي عليه وشتمهم وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ((ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره الله له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))

وجاء رجل إلى النبي ﷺ يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ فقال : ((كل يوم سبعين مرة)) أخرجه أبو داود.

عباد الله وممّن تتطلب حالتهم الرحمة والإحسان ذوو الإعاقات، فهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة، تعوق مسيرتهم، وتضيق بها صدورهم، فيجب الترفقُ بهم وإعانتُهم والأخذُ بأيديهم، والحذر من الإساءة إليهم، ومن ذلك سد الطريق عليهم وعدم الإفساح لهم أو الوقوف في المواقف المخصصة لهم..

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...

 

 

 

وبعد أيها المؤمنون، فبالرحمة والإحسان تجتمع القلوب، وبالرفق والإكرام تتآلف النفوس، والقلب يقسو ويتبلّد مع الإغراق في النعم ورغد العيش وحياة اللهو والترف ، فلا يشعر بحاجة محتاج، ولا يحسّ بألم متألم، ولا بجوع جائع ولا ينظر بعطف لأرملة أو مسكين ، وقد جاء رجل إلى النبي  يشكو قسوة قلبه فقال له: ((أتحبّ أن يلينَ قلبك؟! قال نعم قال: فارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلنْ قلبك))

قال ابن القيم رحمه الله: "من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه"

قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍۢ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

ألا فاتقوا الله عباد الله وارحموا الفقير والمسكين واعطفوا على الأرملة واليتيم وابذلوا وتصدقوا ولا توكوا فيوكي الله عليكم   فَقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ

عباد الله وإن لكم إخوانا في العقيدة والإيمان في شتى أنحاء الأرض يقاسون أنواع البلايا والرزايا من القتل والتشريد والحصار والبرد والفقر والجوع وإن مقتضى الرحمة بهم يستلزم الدعاء لهم وإعانتهم بقدر الاستطاعة والإمكان

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال في محكم تنزيله: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً .

المشاهدات 1180 | التعليقات 0