خفايا السرائر

ابراهيم الهلالي
1439/07/05 - 2018/03/22 20:59PM

                              خطبة خفايا السرائر

الحمد لله بارئ البريَّات، العالم بالظواهر والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحمده على ما أسداه من الفضائل والكرامات.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهو المُسْتَحِق لجميع العبادات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم الرسالات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المسارعين للخيرات، وسلم تسليماً كثيراً مزيدا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: (وَاتَّقُوا يَوْمَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

معاشر المؤمنين والمؤمنات: إنَّ المتأمِّلَ في نفسه ومَنْ حوله من الناس -بكافة طبقاتهم- لَيَرى اهتماماً بالغاً وانصرافاً تاماً -إلَّا مَن رحِم الله- إلى العناية بالمظاهر المرئية، والأشكال السطحية، وغفلة تكاد تكون عامة عن العناية بالأعمال القلبية، والذخائر الخفية.

فكم يُتعب كثيرٌ من الناس نفسه، ويُرهق بدنه، ويذهب ماله دون أجر أو ثواب، بل لربما لحقه من ذلك الوزر والعقاب والعياذ بالله تعالى، أليس يعمل بعض الناس وينفق طلباً لمصالح دنيوية، وأغراض شخصية.وآخرون يُظْهِرون الحب والتصنع، ويبطنون البغض والقطيعة، وغيرهم يتزينون للناس بالطاعة، وإذا خلوا بارزوا الله بالمعصية! فالمظاهر زاهية، والبواطن واهية، وهم في ذلك ما بين مستقلٍّ ومستكثرٍ، والله المستعان! مظاهرُ تخلب الأبصار، ولكن ماذا لو انكشف الخمار، وأزحنا الستار، عما تكنه القلوب وتخفيه، ويُجلله الظلام ويغطيه، مما لا يطلع عليه إلا الله، ولا يعلمه أحد سواه؟!.

يقول تعالى: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:29]، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19]، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) [الحديد:4].

إنها الغفلة التي تجعل العبد يُبدي ما لا يُخفيه، ويُخفي ما لا يبديه: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى) [العلق:14]؟ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) [النساء:108].

إن العناية بالسريرة، وهي ما يستتر عن الناس ولا يطلع عليه إلا الله مِن أعمال القلب أو الجوارح، لهو أمر في غاية الأهمية، ويزداد أهميةً كلما رأينا إغفال الناس له، مع قلة التذكير به، قال حذيفةُ بن قتادة: إن أطعتَ الله في السِّرِّ أصْلَحَ قلْبَكَ، شئتَ أو أبَيْتَ!.

إن العناية بإصلاح أعمال القلوب من أهم المهمات، وأوجب الواجبات، وأجل القربات والطاعات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألأ وهي القلب".

قال الشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فاعلم أن صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد، وفساده مستلزم لفساده، فإذا رأى ظاهر الجسد فاسدا غير صالح علم أن القلب ليس بصالح بل فاسد، ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن، كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن، إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده.(

وقال أبو حاتم: قطبُ الطاعات للمرءِ في الدنيا: هو إصلاح السرائر، وترك إفساد الضمائر. وسُئِل أحمد بن الخضر: أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: رعاية السر عن الالتفات إلى شيءٍ غيرِ الله -عز وجل-. فينبغي للمرء المسلم أن يعتني بهذا الباب العظيم بالقلب، وإصلاحه، وتزكيته، وتهذيبه، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: أعمال القلوب أفضل من أعمال الجوارح. أهـ. ينبغي للعبد أن يتعرف على ما يحب الله ويرضاه، وأن يخلِّص قلبه مما يضادّه.

واعلموا عباد الله: أعمال القلوب تتضمن: إخلاصَ الدين لله تعالى، والنصح له ولعباده، وسلامة القلب لهم من الغش والحسد والحقد وتوابع ذلك من أنواع الأذى.

وكذلك وجل القلوب من ذكر الله تعالى، وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه، وزيادة الإيمان بذلك، وتحقيق التوكل على الله، وخوف الله تعالى سراً وعلانيةً.وسماحة النفوس بالطاعة المالية والبدنية، والاستشعار بعمَل الحسَنات والفرح بها، والمساءة بعمل السيئات والحزن عليها، وإيثار المؤمنين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أنفسهم وأموالهم، وكثرة الحياء.وحسن الخلق، ومحبة ما يحب لنفسه لإخوانه المؤمنين، ومواساة المؤمنين ومناصرتهم والحزن بما يحزنهم، ومعاداة الكافرين، وبغضهم، وعدم الركون إليهم، وغيرها من أعمال القلوب.

هذه الأعمال -عباد الله- هي محل نظر الرب -عز وجل-، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" رواه مسلم، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَءُوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)" رواه مسلم.

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:إِنَّ إِصْلَاحَ الظَّاهِرِ، بِالِاسْتِمْسَاكِ بِالسُّنَنِ وَالْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ، وَإِغْفَالُ الْبَاطِنِ وَإِهْمَالُهُ -هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدَيُّنٌ مَنْقُوصٌ.

 التَّدَيُّنُ الصَّادِقُ يَتَمَثَّلُ فِي الْمَظْهَرِ وَالْمَخْبَرِ، التَّدَيُّنُ الْحَقُّ يَبْدَأُ حِينَ يَبْدَأُ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَاطِنِ وَاسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا اسْتَقَامَ اسْتَقَامَتِ الْجَوَارِحُ، فَلَا لَغْوَ يُرْسِلُهُ اللِّسَانُ، وَلَا خِيَانَةَ يُطْلِقُهَا الطَّرْفُ، وَلَا إِثْمَ تَتَحَسَّسُهُ الْأُذُنُ.

  فَمَا حَالُنَا -عِبَادَ اللَّهِ- مَعَ مَلِكِ الْأَعْضَاءِ وَسَيِّدِ الْجَوَارِحِ، لِنَفْتَحْ صَفْحَةَ مُصَارَحَةٍ، وَلْيُسَائِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ عَنْ خَبَايَا قَلْبِهِ، وَمَا يُكِنُّهُ ضَمِيرُهُ، هَلْ تَفَقَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بَاطِنَهُ، فَرَأَى بِمِنْظَارِ بَصِيرَتِهِ أَدْوَاءً جَاثِمَةً فِي قِيعَانِ قَلْبِهِ؟

 مَنْ مِنَّا وَقَفَ مَعَ نَفْسِهِ مَذْعُورًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ دَاءَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ يَدِبُّ فِي قَلْبِهِ؟!

 مَنْ مِنَّا مَنْ صَارَحَ نَفْسَهُ فِي لَحْظَةِ مُحَاسَبَةٍ وَخَلْوَةٍ عَنْ عَقَارِبِ الْحَسَدِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ بَيْنَ جَوَانِحِهِ؟!

 هَلْ تَفَقَّدْنَا الْقُلُوبَ مِنْ شَهْوَةِ الرِّيَاءِ وَحُبِّ الظُّهُورِ؟ وَهَلْ تَفَقَّدْنَا الصُّدُورَ مِنْ خَطَرَاتِ الِاسْتِعْلَاءِ وَوَسَاوِسِ الْغُرُورِ؟!كيف حال قلوبنا بالأنس بالناس، ووحشتها مع رب الناس!!!

لَا تَلْتَفِتْ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- يَمِينًا وَشِمَالًا، وَتَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ أَدْوَاءٌ قَدْ بُلِيَ بِهَا غَيْرُكَ، وَعُوفِيتَ مِنْهَا، فَالْجَمِيعُ يُعَانِي قَدْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ، وَتَمُرُّ بِهِ أَشْيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْقَامِ، قَلَّ ذَلِكَ أَمْ كَثُرَ، وَإِنَّمَا السَّعِيدُ مَنِ اسْتَدْفَعَهَا، وَالشَّقِيُّ مَنْ أَهْمَلَهَا، وَتَرَكَهَا تَجْثُمُ وَتَغُورُ جُذُورُهَا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: “مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ، وَلَكِنَّ الْكَرِيمَ يُخْفِيهِ، وَاللَّئِيمَ يُبْدِيهِ“.

 مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:إِنَّ خَطَايَا الْقُلُوبِ آثَامٌ مُوجِعَةٌ، يَنْبَغِي أَنْ نَحْتَرِسَ مِنْهَا أَشَدَّ مِنَ احْتِرَازِنَا مِنْ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ؛ فَهِيَ أَشَدُّ فَتْكًا وَأَعْظَمُ أَثَرًا، خَطَايَا الْقُلُوبِ لَا يَسْتَشْعِرُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهَا تُذْهِبُ فَضْلَ الصِّيَامِ، وَثَوَابَ الْقِيَامِ، وَتَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَاسْتَمِعْ مَعِي -أَخِي الْمُبَارَكَ- إِلَى هَذِهِ النُّذُرِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَاسْتَجْمِعْهَا بِقَلْبٍ يَقِظٍ، وَعَقْلٍ وَاعٍ؛ لَعَلَّهَا تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ آثَامِ الصُّدُورِ.

 يَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ”؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: “ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ” “رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ”.وَيَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ” “رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ”.

 إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:وَيَعْظُمُ خَطَرُ مَعَاصِي الْقُلُوبِ أَنَّهَا قَدْ تَأْتِي فِي غَيْرِ صُورَتِهَا الْوَاضِحَةِ، فَلَا يَسْتَشْعِرُ حِينَهَا الْعَاصِي أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فِي فَسَادٍ بَاطِنِيٍّ، فَالْفَرَحُ بِأَخْطَاءِ الْآخَرِينَ وَالسَّيْرُ بِهَا فِي الْآفَاقِ لِلتَّشَفِّي مِنْهُمْ مَرَضٌ قَلْبِيٌّ، يَنِمُّ عَنْ حَسَدٍ أَوْ بُغْضٍ جَاثِمٍ فِي الْقَلْبِ. تَنَقُّصُ الْآخَرِينَ، وَتَقْزِيمُ آرَائِهِمْ، وَتَقْلِيمُ [[وَتَحْقِيرُ]] جُهُودِهِمْ، عَيْبٌ يُورِثُ الْعُجْبَ وَالتَّعَالِيَ، لِيَقُولَ صَاحِبُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ. لَيْسَ الْكِبْرُ أَنْ يَأْتِيَ فِي صُورَةِ الْمِشْيَةِ الْمُتَبَخْتِرَةِ، وَالْأَنْفِ الْمُشْمَخِرِّ فحسب، بل قَدْ يَأْتِي الْكِبْرُ فِي صُورَةِ الِاحْتِقَارِ، احْتِقَارِ الْغَيْرِ لِنَسَبِهِ أَوْ فَاقَتِهِ، أَوْ لَوْنِهِ أَوْ مِنْطَقَتِهِ، وَتِلْكَ خَطَرَاتٌ لَا يُوَفَّقُ لِاسْتِدْفَاعِهَا إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَمَّرَ قَلْبَهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَأَدَامَ مُحَاسَبَةَ نَفْسِهِ، وَقَوَّمَهَا بِمِيزَانِ الْقُرْآنِ، فَصَاحِبُ الْقَلْبِ الْمَرِيضِ لَا يَرَى الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لَيْسَتْ بِنَوَاظِرِ الْعُيُونِ، وَإِنَّمَا بِبَصَائِرِ الْقُلُوبِ، وَمِنْ مَأْثُورِ حِكَمِ الشِّعْرِ:

لَعَمْرُكَ مَا الْأَبْصَارُ تَنْفَعُ أَهْلَهَا *** إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُبْصِرِينَ بَصَائِرُ

 وَأَصْدَقُ مِنْهُ قَوْلُ الْمَوْلَى -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 179].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

****************************

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:

معاشر المؤمنين: هناك قوم شقوا بالخلوات، فكانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، مغترين بستر الله وحلمه، حدّث عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا" نسأل الله العفو والعافية.

احذروا -يا عباد الله- واعلموا أن ذنوب الخلوات المستمَرُّ عليها سبب الانتكاس وسوء الختام، يقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ".

 إنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ، ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت.

 وفي هذا العصر الذي سهلت فيه الخلوة بالمعصية وكثرت عبر أجهزة تقنية لا تتعدى حجم الكف تصنع وتنقل شراً مستطيراً لا عاصم منه إلا الله. فلنخش الله -تعالى- في السر والعلن، ولا نجعل الله -تعالى- أهون الناظرين إلينا، ولنكثر من الطاعات والعبادات في السر والخفاء، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12].

 وقد وعد الله عباده الأخفياء بالجنة: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيب)[ق: 31-33].

واعلموا أن الله -تعالى- يبتلي عبده فتَدْنُوا مِنه المعصية، ويَسْهُلُ عليه اقترافها حال بُعْدِ أنظار الناس عنه؛ ابتلاءً له من الله تعالى؛ هل عبدُه يَخْشَى اللهَ -تعالى- بالغيب أو لا يخشاه إلا بحضور الناس فقط؛ فانتبه لذلك دائماً حينما تكون خالياً: (لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(

عباد الله: ليكن حالنا مثل هذا الشاعر الذي استحضر ذنوبه مع عظمة مولاه وإحسانه إليه فقال:

أنا العبد الذي كسب الذنوبا *** وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينًا *** على زلاته قلقًا كئيبًا
أنا العبد المسيء عصيت سرًّا *** فما لي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري *** فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحر *** أصيح لربما ألقى مجيبًا
أنا العبد السقيم من الخطايا *** وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا العبد المخلف عن أناس *** حووا من كل معروف نصيبًا
أنا العبد الشريد ظلمت نفسي *** وقد وافيت بابكمُ منيبًا
أنا العبد الفقير مددت كفي *** إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدار كم عاهدت عهدًا *** وكنت على الوفاء به كذوبًا
أنا المقطوع فارحمني وصلني *** وهيئ منك لي فرجًا قريبًا
أنا المضطر أرجو منك عفوًا *** ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
فيا أسفًا على عمر تقضّى *** ولم أكسب به إلا الذنوبا
وأحذر أن يعاجلني مماتٌ *** يحيِّر هولُ مطلعه اللبيبا
ويا حزناه من حشري ونشري *** بيوم يجعل الولدان شيبًا
تفطرت السماء به ومارت *** وأصبحت الجبال به كثيبًا
إذا ما قمت حيرانًا ظميئًا *** حسير الطرف عريانًا سليبًا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي *** إذا ما أبدت الصحف العيوبا
وذلةُ موقفي وحسابُ عدلٍ *** أكون به على نفسي حسيبًا
ويا حذراه من نار تلظى *** إذا زفرت وأقلقت القلوبا
تكاد إذا بدت تنشق غيظًا *** على من كان ظلامًا مريبًا
فيا من مد في كسب الخطايا *** خطاه أما بدا لك أن تتوبا
ألا فارجع وتب واجهد فإنا *** وجدنا كل مجتهد مصيبًا
وأقبل صادقًا في العزم واقصد *** جنابًا للمنيب له رحيبًا
وكن للصالحين أخًا وخلاً *** وكن في هذه الدنيا غريبًا
وكن عن كل فاحشة جبانًا *** وكن في الخير مقدامًا مجيبًا
وقابل زينة الدنيا ببغض *** تكن عبدًا إلى المولى حبيبًا
فمن يَخْبُر زخارفها يجدها *** مخالفة لطالبها خَلوبًا
وغض عن المحارم منك طرفًا *** طموحًا يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسد غاب *** إذا ما أهملت وثبت وثوبًا
ومن يغضض فضول الطرف عنها *** يجد في قلبه روحًا وطيبًا
ولا تطلق لسانك في كلام *** يجر عليك أحقادًا وحوبًا
ولا يبرح لسانك كل وقت *** بذكر الله ريانًا رطيبًا
وصل إذا الدجى أرخى سدولاً *** ولا تضجر به وتكن هيوبًا
تجد أنسًا إذا أودعت قبرًا *** وفارقت المعاشر والنسيبا
وصم ما تستطيع تجده ريًا *** إذا ما قمت ظمآنًا سغيبًا
وكن متصدقًا سرًّا وجهرًا *** ولا تبخل وكن سمحًا وهوبًا
تجد ما قدَّمَتْه يداك ظلاً *** إذا ما اشتد بالناس الكروبا
وكن حسن السجايا ذا حياء *** طليق الوجه لا شكسًا غروبًا

ختاماً -أيها المسلمون-: يقول بعضُ السلف: "إذا كانت سريرةُ الرجل أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإذا كانت سريرة الرجل وعلانيته سواء فذلك النصف، وإذا كانت علانيته أفضل من سريرته، فذلك الجور" [شعب الإيمان (9/ 228)]. اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا ممن رُزق الخوف من مقامك يوم نلقاك.

 اللهم املأ قلوبنا خشيةً تحول بها بيننا وبين معاصيك، ويقيناً يعلقنا برضوانك وجنتك، ويزهّدنا بمعصيتك يا رب العالمين.

                                 ثم صلوا وسلموا....الخ

 

المشاهدات 4556 | التعليقات 0