خطورة التحريش بين المسلمين والحذر من بث أسباب الفرقة والتنازع بين الشعوب
عبدالرحمن اللهيبي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
أيها الناس: لقد حرص الإسلامُ كلَّ الحرص على وحدة المسلمين واجتماعهم، ونهى عن كل وسيلة تؤدي إلى تنازعهم وشتاتهم ؛ وحذر من بثِ أسباب الفرقة والتحريش بينهم، قال تعالى: ((واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا))
وقد قص الله تعالى علينا ما وقعت فيه بنو إسرائيل من التنازع والشحناء، وما حصل بينهم من العداوة والبغضاء؛ لئلا تسير هذه الأمةُ سيرتهم، ولكي تحذر مسلكهم وطريقتهم، فقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "نهى الله هذه الأمة عن الاختلاف والفرقة"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والاجتماع والائتلاف في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم الأمور التي أوجبها الله تعالى ورسوله ..
فأمة الإسلام أمة واحدة ، ربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد، يجمعهم قوله تعالى: ((هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)) فأنّا يتفرقون ويتنازعون ، والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)".
أيها المؤمنون: إن الشريعة جاءت بكل ما يحض على صفاء العلاقات بين المسلمين الودية ، بمختلف شعوبهم وأعراقهم وبلدانهم ، ودعم الأواصر الأخوية ، فجعلت الشريعةُ أخوةَ الإيمان تعلو على كلِ راية، فلا تحطمها النعرات الجاهلية، ولا العصبيات الشعوبية، ولا الحميات العرقية ، فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل الأخوةَ الإيمانيةَ رايةً يجتمع تحت لوائِها كلُ المسلمين ، فكان أولَ ما فعله حين قدم المدينة هو المؤاخاةِ بين الأنصار والمهاجرين ، لبناء الوحدة في دولة الإسلام، وأخذ -صلى الله عليه وسلم- ينمِّي هذه الأواصر ، ويعزز هذه الروابط ، حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (مسلم"
ولقد كان المسلمون من قبل أمةً واحدة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فكانوا قوة يعجز العدو على اختراقهم ، وذلك حين نبذوا كل ما يفرِّق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ حتى أدرك العدو سرَّ قوتهم فسعى بكل سبيل لتمزيقهم ، وعمل على إثارة الفتن والتحريش بينهم.. وذلك حين أدرك أنه لا سبيل لفشلهم وهزيمتهم، إلا عند تنازعهم وتفرقهم ، لذا قال الله تعالى: (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ))
وإن أعظم مَن اشتغل بالتفريق بين المسلمين، وإثارة الشقاق والفتن بينهم.. هم اليهود عليهم لعائن الله تترى، فقد مر رجل من اليهود بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلاً معه، وأمره أن يجلس بينهم، وأن يُذَكّرهم بما كان من حروبهم يوم بعاث، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه.. حتى حميت نفوسهم ، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبيَ -صلى الله عليه وسلم-، فأتاهم فجعل يسكِّنهم ويقول: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟" ثم تلا عليهم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)؛ فندموا على ما كان منهم، وتعانقوا -رضي الله عنهم جميعًا-".
ولا نزال حتى اليوم نطلع على خائنة من اليهود ، موقدي الحروبَ ومثيري الفتنَ والأحقاد ، فهناك وِحدة إلكترونية في جيش الاحتلال الصهيوني، مهمتهم التفريق بين شعوب المسلمين، عبر آلاف الحسابات الوهمية، وظيفتُها الفتنة والتحريش ، وبثُّ الخلافاتِ والأراجيف، وفي المسلمين سماعون لهم.. ومتأثرون بهم، فيشيعون قالةَ السوء بين الناس في الأمصار، ويلتقطون مقاطع ورسائل فيها سباب وشتائم من سفهاء المسلمين من مختلف الشعوب والأقطار ، بغض النظر عن كونِها صادرةٌ من حسابات حقيقية حاقدة ، أو من أسماء وهمية حاسدة ، ثم يسعون في نشرها وتعميمها.. فيُذْكُون بذلك روح العداواتِ بين أفراد الشعوب دون تمييز وتفريق ، والله أعلم من الذي يقدح شرارها ، ومن الذي يوقد أوارها ، ومن المستفيد من ورائها.. إلا أن بريقَ حريقها يستهوي الأغرار والسفهاء من كافة البلدان ومختلف الأطراف .. فترمي بشرر فتنتها كل أفراد الشعوب.. السفهاءِ منهم والأشراف ، فتنهدم بذلك أواصرُ الإخوةِ الإسلامية ، وتتمزق روابطُ النصرةِ الدينية .. وتضمحل عقيدة الولاء والبراء ، وهي أوثق عرى الإيمان .. فيفرح بذلك أعداء الإسلام ، من الصهاينة والصليبين والصفويين، على ما يرون من المسلمين من التراشق بالمسبات، والتلاعن بما يؤدي بهم للتفرق والشتات ..
فاحذروا يا عباد الله: من خطاب التحريش بين المسلمين أو التأثر به، أو الاستماع له، أو الانجرار معه، فهو إذكاء للخصومة ، بين شعوب الأمة ، وإغراء للعداوة وتفتيت للوحدة واللُحمة.. ((لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ))
التحريش كلمة لا تحمل إلا معنى الشر؛ ولا تُحمد في عقل ولا في شرع
التحريش مهنة شيطانية ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْلِيسَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم).
المحرِّشُ -يا عباد الله- كنافخ الكير بين الناس، وكالجلَّالة تقتات على الأقذار والأوساخ ، يبغون الفتنة بين المسلمين، وقد قال الله عن المنافقين: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لهم)
وإذا كان النبي ﷺ قد نهى عن التحريش بين البهائم والحيوانات، فكيف بالتحريش بين المسلمين في الأمصار والمجتمعات ، فقد جاء في الحديث: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ" (رواه أبو داود والترمذي).
فحَذَارِ حذارِ -عبادَ اللهِ- من تناقل المقاطع والرسائل التي تحرِّش بين المسلمين ، وتهدم بنيانهم، وتمزق روابطهم، وتفرق وحدتهم ..
بل الواجب السعي بكل سبيل لإصلاح ذات بينهم، وبذل الجهد في تأليف قلوبهم ، وجمع كلمتهم ، قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن على المسلم أن يحذر من الوقوع في شرك التحريش بين المسلمين، أو أن يكون أحد جنوده وسعاته .. والكيِّسُ مَنْ فَرَّ منه ونأى بنفسه عنه، حتى لا يَحْلِقَ دِينَهُ أو يثلم مروءته. وعلى المسلم أن يحذر من أن يقول زورا ، فلا يغشى إثما أو فجورا ، فالله -جل في علاه- يقول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)
عباد الله : إنه لا سلامة للأمة المسلمة من الفرقة والنزاع.. إلا بسد باب التحريش بينهم، وأن يأخذوا على يد السفيه منهم
واعلموا أنه ليس كل ما يُعلمْ يُقال، ولا كلَّ ما يُقال يُنشر ، ولا كلَّ ما يُنقل يُصدق، فعلى المسلم ألا يثق في القيل قبل التبصُّر بصحته، وألا يحكم عليه قبل إدراك واقعه وحقيقته، فإن التحريش لو لم يجد آذانا صاغية ، لَمَا فَتَكَ بالمسلمين ففرَّق جمعهم ، وشتت شملهم ، وحمَل بعضَهم على بعض في العداوة والبغضاء، والله تعالى قد ذم اليهود لكونهم سماعين للكذب متعاطين للفحشاء، فقال الله عنهم: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) فلنحذر يا مسلمون أن نكون مثلهم..
هذا وَصَلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية ، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بِقُدْسِه، وَأَيَّهَ بكم أيها المؤمنون، قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)