خطوات الشيطان
الخطيب المفوه
خطوات الشيطان
خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
الشيطان أَيُّهَا الأحبة في الله ، هو قُوَّةُ الإغواء الأولى على الأرض ، وهو ينبوع الفساد عليها ، وهو مؤججُ نيران الفتن فيها ، وما قام خرابٌ ولا رُكِزَتْ رايةُ دَمَارٍ إلا والشَّيطان من ورائها . فالكفر بالله والشيطانُ وجهان لعملة واحدة ، وهذا أمر معلومٌ ومركوز في النفوس ؛ بل إنه أقسم على هذا الهدف ، وجعله مقوماً من مقومات وجوده وخلوده ، ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ، فلا أحدَ أَشدَّ صراحةً من الشيطان في الإبانة عن عداوته ، ولا أحدَ حُذِّرَ صَريحاً من عداوته مثلُ الشَّيطَانِ ) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَخِذُوهُ عَدُوّاً ( ، بل إن الأنبياءَ والرسلَ كانت مهمتهم بعد إقرار التوحيد التحذيرَ من الشيطان ومكره ، ولم يُوَدِّعُوا أممهم إلا وقد أقاموا البينة على كذب دَعْوى الشَّيْطَانِ وَخِسَّةِ مَذْهَبِهِ ..
لقد انجلت الصورة القبيحة للشيطان ، وظهر نشازها للعالمين ، حتى أطبق العالمُ كلُّه شريفُه ووضيعُه صالحُه وطالحُه مؤمنُه كافِرُه ، على أَنَّ الشَّيطَانَ هو الوجه الأقبحُ والأسوأُ على البسيطة ، وأنه الرمزُ على الرذيلة ، لا يماري في ذلك أحدٌ ولا يجادل ، كلُّ النفوس في ذلك سواء . فاللهم إنا نسألك أن تعصمنا من الشيطان وتوهيمه ، ونعوذ بك من شر الشيطان وشركه ..
أيها الأحبة في الله ، رغم وضوح الرؤية بالنسبة للشيطان ، وقُبحِ صورته في النفوس ، إلا أن بريقه ومكره وسبلَه المعوجة ، لا زالت تستقطب الناس ، وتأخذ بنفوسهم إليه ، ومنهم في ذلك المستقلُّ ومنهم المستكثر ، وهذا بسبب لطفِ مسلك الشيطان في الإغواء والإضلال ، حيث يراعي النفوس في ذلك ؛ فيعطي كُلَّ نفس ما تستحق ، وهو طُعْمٌ للإيقاع بها ، فعندما يأتي لأهل الطاعة والإخبات ، لا يأمرهم بترك العمل ، بل يأمرهم بالازدياد حتى يُوقِعَ في نفوسهم المَلَلَ ثُمَّ التَّركَ ، وعندما يأتي أهل المعصية ، يرغبهم في الإكثار منها حتى يَنْقُلَهم إلى ما بعدها في سلسلة طويلة ، لا تنتهي إلا في غياهب الكفر نعوذ بالله من ذلك ..
إننا أيها الجمع الكريم ، لو تأملنا في مسلك الشيطان معنا ، لرأيناه يأخذ بمبدأ المرحلية والتدرج ، حتى يوردنا مبتغاه .. ومبتغاه كما أسلفت النكرانُ والكفران ، وهي منزلة إن وصل إليها الشيطان منك فقد استراح ؛ لأنه ضَمِنَ من يشاركه التعاسة والخسارة ، وبئس والله منزلةً تِلك ، ولكن كثيرون هم سكَّانها ، فهم أكثر أهل الأرض ، ولا تحسبنَّ أيها الموفق ، أنك إن فُتَّ الشيطان في هذه المحطة سيسلمك لنفسك وما أردت ، كلا والله ؛ فذلك أمر دونه خَرْطُ القَتَادِ ؛ فما دام النفس يتردد منك في هذا الجسد ؛ فأنت هدفٌ للشيطان ومَحِلُ معركةٍ ضروسٍ معه ، فهو يحاول أن ينقلك إلى ما هو دونه ؛ ولن يكون بعد الكفر إلا البدعة ؛ حيث يجعلُ العمل منك على غير هَدْي الإسلام ؛ إذ ليس له مستند من كتاب ولا سنة ، وما كان كذلك فلا قبول له ، ولو راعى فيه الإخلاص « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ؛ إذ من شروط العمل المعتبرةِ شرعاً : الإخلاص والمتابعة ، وما أكثر من انضووا تحت راية البدعة في زمنا هذا ! فأضحوا يبارزون بها السنة ، ويرون فيها هدياً مستقيماً ؛ ) زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيْلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ( ، والبدعة أيها الأحبة بريد للكفر ، وقل أن يتوب صاحب بدعة ؛ لأن نور الله في التمييز بين الخبيث والطيب قد غاب عن نفسه ؛ فتركهم في ظلمات لا يبصرون ، نسأل الله العافية ..
ربما فات الشيطان بعضُ الناس من المؤمنين في هذه المحطة وهذه المنزلة ؛ لذا تراه يسابقهم إلى المرحلة التي بعدها ، فتراه يترصدُهم هناك ؛ للإيقاع بهم ، وهي ولا ريب دون التي فاتوه فيها ، لكنها ليست بالهيِّنَة ، وهذه المنزلة أيها الجمع الكريم، هي منزلة الكبائر من الذنوب والمعاصي ، وهذه الخطوة من خطوات الشيطان تستقطب الكثير من البشر ؛ لشدة أخذها بالنفوس ؛ ولأنها تحقق قدراً كبيراً من اللذة لمتعاطيها ، والكبيرة في العرف الشرعي أيها الجمع الكريم : كلُّ ذنب متوعد عليه بالعقاب في الدنيا والعذاب بالآخرة ، كالزنا والسرقة ، وأكبر الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، والصغيرة لمن داوم عليها ، ولم يقطعها بالتوبة كبيرة ، وقد قيل : لا صغيرةَ مع الإصرار ، ولا كبيرةَ مع التوبة ، وقد قال ابن عباس م : الكبائر سبع ، وهي إلى السبعين أقرب ، وقد ألف الإمام الذهبي رحمه الله كتاباً سماه الكبائر ، حيث ذكر الكبائر ، وفصل في ذكرها .
ولا زال الشيطان لعنه الله يستزل الناس ، ويستحثهم للنزول إلى محطاته ، وهي محطات تأخذ بالعبد ولا ريب ، إلى غضب الله ، وليس بعد محطة الكبائر إلا الصغائر، وهذه المحطة قَلَّ أن ينجو منها أحدٌ ، بل إن النجاة منها ليس بمقدور البشر ، خاصةً ونحن نسمع قول النبي r : « ما من عبد إلا وله ذنب يعاودنه الفينة بعد الفينة » ، حتى عباد الله الصالحون منضوون في محطة الشيطان هذه ، لكنهم يتفلَّتون منها بالتوبة النصوح والاستغفارِ ومداومةِ العمل الصالح ، وكُلُّ هذه مكفراتٌ وماحيات للصغائر ، كما أن ما يصيب الإنسان من هم أو نصب أو وصب ، حتى الشوكةُ يشاكها تجتث شؤم المعصية ، فلله الحمد على ذلك ، وهذه الصغائر أيها الأحبة في الله ، هي اللمم المستثنى في قول الله : ) وَالَّذِيْنَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ ( ، نعم أيها الجمع الكريم، إن ربنا واسع المغفرة وباسط اليدين بالرحمة ، فنسأله سبحانه أن يعفر لنا الذنوب ، وأن يكفر عنا السيئات ، وأن يتوفانا مع الأبرار ..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسله ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله ، لا زلنا نحثُ الخطى نتتبع خطوات الشيطان وسبل الغواية منه ؛ للتحذير منها لئلا يرتعَ راتع فيها ، أو تَزِلَّ فيها قدم ، والشيطانُ لمن تدبر مسعاه طويلُ النفس ، لا يملُّ ولا يكل ، حتى تبلغَ الروح منك الحلقوم ، وتجده هناك أيضاً نسأل الله السلامة ..
والإنسان المسلم مادام في عمل صالح ، فهو في وقاية من صغائر الذنوب ـ كما قلت في الخطبة الأولى ـ ؛ لذا تلحظ أن الشيطان يحاول جهده في إيقاع العبد فيما دونها وهي المكروهات والإغراقُ في المباحات ، وربما يئس فأشغله بالأعمال المفضولة دون الفاضلة ، لاَ هَمَّ لِلشَّيْطَانِ في كل أمر يفعله إلاَّ الحَطُّ مِن قيمة الإنسان عند ربه بحكم العداء المتأصل فِي نفس الشيطان لآدمَ وَبَنيهِ ؛ فحقد الشيطان أَصِيلٌ فمنذ آلاف السنين وهو يضطرب بين جنبيه ، لا يهدأ ولا أظنه سيهدأ ، ولا ينبغي له أن يهدأ ..
وهنا مرحلة ومحطة أخيرة يصطاد بها الشيطان معارضيه من الصالحين من بني آدم ، ولا يسلم منها أحدٌ ، ولو سَلِمَ منها أحد لسلم منها الأنبياء والمرسلون ، وهذه المرحلة هي مرحلة الإيذاء الجسدي ، وأَشَدُّ الناس بلاء في ذلك الأنبياء والصالحون ثم الأمثلُ فالأمثل يبتلى الإنسان بقدر إيمانه ويقينه ؛ وهنا أيها الجمع الكريم ، فلسفة أظنها صالحةً لهذه المرحلة ، وهي أن العبد عندما يصمد ، ولا يقدمُ أيَّ تنازلات للشيطان ، هذا في عرف الشيطان وفي شرائعه لابدَّ أن يعاقب ؛ لذا تراه يعاقب أعداءه المؤمنين ؛ فمنهم من يقتله ومنهم من يعذبه ، والعذاب يتفاوت يحسب إيمان الإنسان ومعتقده ، وكل ذلك له عند الله أجر عظيم ..
وهنا أيها الأحباب لفتة أختم بها خطبتي ، وهي : أن العداوة الإبليسية للآدمي هي بسبب جنسه ومادته ) أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِيْنٍ ( ، وكذلك بسبب ما قُذِفَ في هذا الجسد من إيمان ؛ لذا فلو خلا الجسد من الإيمان ؛ فإن عداوة الشيطان لن تتخلف ، ولا يزال الإنسان في رهق من الشيطان ، وقد كان الناس في الجاهلية رغم كفرهم في عنت من الشياطين ، ) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ( ، فلا ترجُ الخير أيها الآدمي ، من هذا العدو المتربص بك ، وكن على حذر منه ومن خطواته المضلة ، واسألِ الله العصمة منه ..
المرفقات
خطوات الشيطان.doc
خطوات الشيطان.doc
المشاهدات 3893 | التعليقات 2
أخي الخطيب المفوه ...
رسالة قصيرة أرجو أن تصل للشيخ الكريم سعد الدريهم ...
خطبه جميلة
عباراته بليغة
موضوعاته جيدة
ولكن ...
ليته يزيد في الاستدلال بالنورين الكتاب والسنة ... فبعض خطب الشيخ لا يوجد فيها إلا القليل وأذكر إحدى خطب الشيخ ليس فيها إلا حديث واحد في الخطبة الثانية فقط ... فهل هذا معقول ؟؟؟؟
بعض الأحباب يحرصون على ذكر الإحصائيات والأرقام وأقوال الناس سواء الشرقيين أو الغربيين ويظنون أن هذا يؤثر ويجعل السامع أكثر استجابة ويغفلون عن كلام الله وكلام رسوله ...
قد نسلم بهذا في محاضرة أو ندوة أو كلمة ... أما خطبة الجمعة فالظاهر أن الحال يختلف ... خطبة الجمعة عبادة ... ومبناها على ما قاله الله ورسوله ... ثم يأتي بعد ذلك الكلام البليغ والأرقام والإحصائيات وما إليها ...
هذه خاطرة أحببت إيصالها للشيخ الكريم ،، وأظنها لا تخفى عليه ،،، ولكن (( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ))
والله أعلم ...
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاكم الله خيرا
تعديل التعليق