خطرُ الغشِ والاحتكارِ والغلاء (تعميم وزاري)

راشد بن عبد الرحمن البداح
1444/08/02 - 2023/02/22 21:50PM

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ؛ فاتقُوا: (اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[البقرة223].

 

واعلمُوا -أيُها المُؤْمِنُونَ- أنَّ اللهَ بيّنَ لنا الحلالَ، وبيّنَ لنا الحرامَ؛ فقالَ سبحانَه: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)؛ لأنَ الحرامَ خبيثٌ لا يجوزُ إتيانُه؛ ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يفقهونَ، ولا في الدينِ يتفقهونَ، بل لا يُبالونَ؛ أمن حرامٍ أم من حلالٍ يكسِبونَ؛ ففي صحيحِ البخاريِ أن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ؛ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ".

 

وثَمَّتَ –أيُها المسلمونَ– ثلاثُ محرماتٍ في كسبِ الأموالِ، لا يُبالِيْ بها كثيرٌ من المُتاجِرينَ:

الأول: الِاحْتِكَارُ بِأَنْ يَدَّخِرَ السِّلْعَةَ، يَنْتَظِرُ بِهَا غَلَاءَ الْأَسْعَارِ، وَهُوَ ظُلْمٌ مَذْمُومٌ، وَصَاحِبُهُ فِي الشَّرْعِ مَلُوْم؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ"؛ أيْ عَاصٍ آثِمٌ.

 

قَالَ الشيْخُ ابْنُ عُثَيْمِيْنَ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَنِ احْتَكَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا، وَصَارَ لَا يَبِيعُهُ إِلَّا بِمَا يَشْتَهِي؛ فَإِنْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى بَيْعِهِ بِمَا لَا يَضُرُّهُ، وَلَا يَضُرُّ النَّاسَ.

 

الثاني: الغِشُّ، ومِنْ قَبَائِحِ الغَشّاشِيْنَ أَنّهُمْ يَعُدُّونَ الغِشَّ ذَكَاءً، وَمَسْلَكًا مُسْتَبَاحًا لاكْتِسَابِ الرّزْقِ، ومَنْهُمْ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنِ المُعَامَلَاتِ المُحَرَّمَةِ صَرَاحَةً؛ لَكِنّهُمْ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا حِيْنَمَا تَأْتِيْهِمْ مِنَ الأَبْوابِ الخَلْفِيّةِ، أو تُمَرَّرُ تَحْتَ الطّاوِلَاتِ التّفَاوُضِيّةِ، وَلِسَانُ حَالِهِمْ: مَنْ لَهُ حِيْلَةٌ فَلْيَحْتَلْ!

 

أمَا يَخَافُونَ عَذَابَ الآخِرةِ؟! (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

 

فعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ جَمِيعَ عُيُوبِ الْمَبِيعِ خَفِيِّهَا وَجَلِيِّهَا، فَإِنْ أَخْفَاهَا كَانَ غَاشًّا، وَالْغِشُّ حَرَامٌ تَبَرَّأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَإنّهُ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَام،ٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا؛ فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟! قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي".

 

فَلْيَحْذَرْ أَصْحَابُ الدِّعَايَاتُ المَدْفُوعَةِ أَنْ لَا يُثْنُوا عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وخِدَاعٌ وَظُلْمٌ، ولا يُبْرِؤُهُ أَمَامَ اللهِ وهوَ يَعْلَمُ بِالعَيْبِ أَنْ يَقُوْلَ: أَبِيْعُكَ هَذَا المَنْظُوْرَ، أو أصوِّرُه لَكَ، أو يَقُوْلَ بَائِعُ السيَّارَةِ أوِ (المُحَرِّجُ): أَبِيْعُكَ كُوْمَةَ حَدِيْدٍ!

 

وَلَا يَحْلِفَ عَلَى السِّلْعةِ وَلَوْ كَانَ صَادِقًا؛ لأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ –تَعَالَى- عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِ، إِذِ الدُّنْيَا أَخَسُّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ تَرْوِيجَهَا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ.

 

قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ".

 

وضِدُّ الغِشِّ النُّصْحُ؛ فِإنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَايَعَ جَرِيْرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ البّجَلِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ النُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

 

ومِنْ عَجَائِبِ قِصَصِ جَرِيْرٍ فِي تَطْبِيقِهِ للوَصِيّةِ النَّبَوِيَّةِ: "النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" أَن غُلَامه اشْتَرَى لَهُ فرسًا بثلاثِ مِئَةٍ، فَرَجَعَ إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: إِنَّ فَرَسَكَ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاث ِمِئَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُهُ، حَتَّى أَعْطَاهُ ثَمَانَ مِئَةٍ.

 

فَلْيَعْلَمِ المُتَاجِرُ أَنَّ تَرْوِيجَهُ السِّلَعَ المَعِيْبَةَ، أو تَدْلِيسَهُ لِلمُقَلَّدَةِ لَا يَزِيدُ فِي رِزْقِه،ِ بَلْ يَمْحَقُهُ وَيَذْهَبُ بِبَرَكَتِهِ، وَقَدْ يُهْلِكُ اللَّهُ مَا يَجْمَعُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً؛ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ بَقَرَةٌ يَحْلِبُهَا، وَيَخْلِطُ بِلَبَنِهَا الْمَاءَ وَيَبِيعُهُ، فَجَاءَ سَيْلٌ فَغَرَّقَ الْبَقَرَةَ، فَقَالَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ: إِنَّ تِلْكَ الْمِيَاهَ الْمُتَفَرِّقَةَ الَّتِي صَبَبْنَاهَا فِي اللَّبَنِ، اجْتَمَعَتْ، فَأَغْرَقَتِ الْبَقَرَةَ.

 

وأما الغِشُّ بِالاخْتِبَارَاتِ؛ فَيَا أيُها المُعلِمونَ والمُعلِماتَ: أحسِنُوا التعامُلَ مع المُختبِرينَ والمُختِبراتِ أكثرَ منْ إحسانِكمْ أيامَ الدراسةِ، وراقِبُوهم في قاعةِ الاختبارِ مراقبةً لا تبعثُ على الرهبةِ، واحذرُوا التغاضِيَ عنِ الغشِ، أو التلميحَ بالجوابِ؛ فإنهُ كالجوابِ.

 

اللهم وفِّقْ طُلّابَنَا وطَالِبَاتِنَا فِي اخْتِبَارَاتِهِمْ، وَأَقِرَّ عُيُونَ وَالِدِيْهِمْ بِصَلاحِهِمْ، وَفَلَاحِهِمْ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ كافِينا ومُعطِينا وهادِينا، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ الناسِ خُلقًا ودينًا؛ أما بعدُ: فأما المُحَرّمُ الثالِثُ المُنْتَشِرُ: فهوَ المُغالاةُ فِي تَحْصِيْلِ الأَرْبَاحِ. نَعَمْ! لَا حَدَّ لِلرِّبْحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) فَمَتَى رَضِيَ المُشترِيْ بِالثَّمَنِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَوْ رَبِحَ الْبَائِعُ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ يَكْوُنَ المُشترِيْ جَاهِلاً بِالْأسْعَارِ.

 

لكنْ لِيَحْذَرْ أصحابُ المَتَاجِرِ المَبْنِيّةِ أو المَتَاجِرِ الالِكْتُرُونِيّةِ، مِنَ عُرُوضِ التخفيضاتِ الوَهْمِيَّةِ؛ فإنّهُمْ إِنْ خَدَعُوا الناسَ، أَفَيَخْدَعُونَ مَنْ لا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ؟!

 

ولَا يَنْبَغِي لِلتَّاجِرِ أَنْ يُشْغِلَهُ مَعَاشُهُ عَنْ مَعَادِهِ، فَيَكُونَ عُمْرُهُ ضَائِعًا، وَصَفْقَتُهُ خَاسِرَةً.

 

فاللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ.

 

اللهم آمِنَّا في أوطانِنا ودُورِنا، وأصلِحْ أئمتَنا وَوُلاةَ أمورِنا، وافرُجْ لهم في المضائقِ، واكشِفْ لهم وجوهَ الحقائقِ، واصرفْ عنهم بطانةَ السوءِ، وقالَةَ السوءِ، ونَقَلَةَ السوءِ، وأهلَ الغِشِ والخَديعةِ، والذِمَم ِالوَضيعةِ.

 

اللهم يا من حفِظْتِ بِلادَنا طيلةَ القُرُونِ الماضياتِ، وكَفَيْتَهَا شَرَّ العادِيَاتِ الكَثِيْرات المُدَبَّراتِ المَاكِرَاتِ، اللهم فَأَدِمْ بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ حِفْظَها مِنْ كُلِ سُوْءٍ ومَكْرُوهٍ، وأَدِمْ عَلَيها نِعْمَةَ النَّمَاءِ والرَّخَاءِ.

 

اللهم نسألُكَ بعِزِك وذُلِنا وقُوتِك وضَعْفِنا أن تَقِيَنا الفِتنَ ما ظهَرَ منها وما بَطَنَ. وأن تحفظَ علينا عِفتَنا وغَيرتَنا وثوابتَنا.

 

اللهمَ صلِ وسلِمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٌ.

المرفقات

1677643518_خطر الغش والاحتكار والغلاء.docx

1677643522_خطر الغش والاحتكار والغلاء.pdf

المشاهدات 1671 | التعليقات 0