خطر التشدد واسْتباحةِ دم مسلم, والحديث عن جريمة قتل رجال الأمن في شرورة 14-9-1435
أحمد بن ناصر الطيار
1435/09/13 - 2014/07/10 20:46PM
الحمد لله الذي جعل سمةَ الإسلام السماحةَ واللين, وشرع الجهاد والغلظةَ لردعِ المجرمين, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, جلَّ عن الشبيه والنظير, واسْتغنى عن الْمُعينِ والوزير, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, ختم الله به الأنبياء والْمُرسلين, وأعزّ به أتباعَه من الْمُؤمنين, وأذلّ به الكفارَ والْمُشركين, فأضحت رايةُ الإسلام عالية, ومعالمُ الحقِّ والدينِ واضحة, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وأصْحابه والتابعين, وَسَلَّمَ تسْليماً كثيراً إلى يومِ الدين.
أما بعد, فاتقوا الله أيها المسلمون, واعلموا أنَّ الله تعالى, بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفيَّةِ السمحة, ولذا كان عليه الصلاة والسلام ينهى أصحابه عن التشدد, والْمُبالغةِ في العبادة, فقد مَرَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ، فَأَتَى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيّاً فيها, ثُمَّ رجع ومرّ على الرجل الذي يُصلي على الصخرة, فَوَجَدَ الرَّجُلَ عَلَى حَالِهِ يُصَلِّي، فَغضب من صنيعه فقام في الناس خطيباً وقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ, عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ».
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ», فتعجب الصحابة من ذلك وقالوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، ولكن سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا».
والمعنى: ما دام أنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم: فلا داعي للتكلفِ في عبادتكم, بل الزموا القصد والتوسط فيها, واسألوا الله الإعانة فيها, وأن يستركم ويرحمكم.
وثبت في صحيح مسلمٍ أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال:«هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قَالَهَا ثَلاَثًا. أي : المشددون الْمُغَالُون في الدين.
نعم, هلك الْمُتَنَطِّعُونَ الْمُشدِّدون, الذين بتشدُّدهم نفَّروا الناس عن هذا الدين, وشوَّهوا صورةَ الإسلامِ والْمُسلمين, وجرَّؤوا علينا الأعداء والْكافرين.
إنَّ مِن أقبح أفعال هؤلاء: خروجَهم على سوادِّ الأمة, واعتراضَهم على علماء الملَّة, بل ويلمزونهم بأبشع الألقاب, ويستحلُّون الدماء وقطعَ الرقاب.
بل إنهم اعترضوا على مَن لا ينطق عن الهوى, الذي يأتيه الوحيُ من السماء, فهذا رئيسُهم وزعيمُهم ذُو الْخُوَيْصِرَةِ, أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائمَ حُنَيْنٍ، ويُوزعها على النَّاسِ والْمُؤلَّفةِ قلوبُهم، فَصرخ في وجهه فقال: اتَّقِ اللهَ يَا رسول الله، اعْدِلْ، قَالَ: «وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ». متفق عليه
فاحذروا من الغلو والتنطع, واعلموا أنَّ الغلوَّ الذي جرَّأ الخوارج على الاعتراض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, واتِّهامِه بأنه لم يعدل, وجرَّأهم على قتال الصحابة الأخيار, وعلى رأسهم عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه, لن يتورعوا عن قتال واستباحة دماء من هم أقلُّ منهم, فهاهم اليوم يستبيحون دماء المجاهدين في الشام, ويُقاتلون كلَّ من لم يدخل تحت طاعتهم ورايتهم, ويُشردون الأبرياء بحجة أنههم وقفوا ضدهم.
بل هاهم يُعلنون الخلافةَ ويستأثرون بها دون غيرهم, دون اسْتشارةٍ ولا اعتبارٍ للعلماءِ والمجاهدين, بل قاتلوهم واسْتباحوا دماءهم.
فأي دينٍ هذا, أهذا هو الاسلام الذي عرفوه, أهذا هو الإسلامُ العظيمُ الذي رضيه الله لنا ديناً؟.
أهذا هو الإسلام الذين نهى عن قتل الكافر في ساحات القتال, نهى عن قتل كافرٍ يقتل في المسلمين في ساحات المعركة, لكنه بعد أنْ رُفع السيف على رأسه نطق بالشهادة.
ففي الصحيحين عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: «لَا تَقْتُلْهُ» قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ: «لَا تَقْتُلْهُ».
يقطعُ هذا الكافر يديَ في ساحة المعركة, ثم لَمَّا رفعتُ سيفي لأقتله نطق بالشهادة, أفأمتنعُ من قتله؟ نعم, كلُّ هذا لحرمة دمٍ نطق صاحبه بالشهادة, فكيف بدمٍ امرئٍ مُؤمنٍ صائمٍ قائم؟ كيف يُستباح دمُه؟ أين من يُؤيد ويُبرر لمن ادعى الخلافة في قتاله المسلمين وبقيةَ الجواهدين؟.
وهذا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه يقول: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا من الكفارِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. متفق عليه
الله أكبر, كافرٌ يُقَتِّلُ في المسلمين في المعركة, فنترك قتله إذا نطق بالشهادة خوفاً من القتل, مُجرد نُطقه بالشهادة يعصم دمَه وعرضَه, لأننا لا نعلم هل قالها خائفاً أم مُؤمناً, مع أنَّ الْمُتبادَرَ والذي يغلب على الظن: أنه ما قالها إلا خوفاً على دمه, وإبقاءً على نفسه, ومع ذلك نكفُّ عن قتله, فما حُجةُ من يستبيحون دماء المسلمين الأصليين, الصائمين القائمين.
بل ما حُجَّةُ من يَقتلُ مسلمًا مُجاهدًا, صائمًا قائمًا, أيُّ جُرمٍ يقترفه هؤلاء, أيُّ تشويهٍ للإسلام يعملُه هؤلاء الأدعياء.
يقولُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رحمه الله: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْبَهِيمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْوَعِيدُ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِقَتْلِ الْآدَمِيِّ، فَكَيْفَ بِالتَّقِيِّ الصَّالِحِ. ا.ه كلامه رحمه الله
معاشر المسلمين: إنّ الله تعالى جاء بالإسلام, وأمر بالجهاد حتى لا تكون فتنة, قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
وقد ثبت في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أنه أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟- أي مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تخرجَ على بني أُميَّةَ الذين قاتلوا الصحابي الجليل ابنَ الزبير, وحاصروا الكعبة, ورموها بالمنجنيق حتى لحقها الضرر والخراب-.
بماذا أجاب هذا الصحابيُّ الفقيه العالم عن هذه الشبهة؟ قَالَ «يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي», فأوردا عليه شبهةً أُخرى فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، فَقَالَ: «قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ».
وبهذا الجواب أجاب سَعْدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه.
الله أكبر, ما أعظم فقه الصحابة رضي الله عنهم, يعترض أحدُ المنادين للفتنة عليهم بهذه الآية, حيث أمر الله تعالى أنْ نُقاتل الكفار حتى تزول الفتنة, فهو يستشهد بها على قتال المسلمين المخالفين له في رأيه ومنهجه, فيُجيبه الصحابةُ بقولهم: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ.
نعم, انظروا إلى هؤلاءِ المتنطعين في بلاد الشام وغيرِها, كيف قاتلوا إخوانهمُ المجاهدين, فأيُّ فتنةٍ أعظمُ من هذا؟ إنهم لم يُقاتلوا اليهود ولا النصارى ولا الرافضة, إنما يُقاتلون أهلَ السنةِ والجماعة, الذي لم يدخلوا تحت رايتهم, ولم يُبايعوا خليفتهم.
فلا عجب إذا رأينا من يُجَرِّحُ ويطعن في علماء الملة, ويستبيح دماء الأمة, فقد ورث هذا المنهج من أسلافه الضالين, وسار على نهج الخوارج المارقين.
ولكن العجب - معاشر المسلمين- من أُناسٍ تربوا في هذه البلاد المباركة, التي رضعوا في مدراسها وتربوا على علمائها, العقيدة الصافية, والعلم الصحيح, ثم تراه يُؤيد ويُنافح عن هؤلاء المتشددين, الذين لا يتورعون عن سفكِ دمِ امرئٍ مُسلمٍ يُخالف رأيهم, ويعترض على صنيعهم, بل هاهم أعلنوا الخلافةَ ونسبوها لهم, وحاربوا كلَّ من لم يُبايعهم من المجاهدين, لم يستشيروا عالماً واحدا, وهذا المنهجُ لم يسر عليه إلا الطغاةُ في كلِّ عصرٍ ومِصر, ومن بينهم فرعونُ الذين كان يقول لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى}.
نسأل تعالى أنْ يُجبنا إراقةَ دماءِ المسلمين, وأنْ يكفينا شرَّ المتنطعين, وأنْ يردَّهم إلى صراطه المستقيم, إنه جوادٌ كريمٌ.
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ الْمُرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.... أما بعد:
أيها المسلمون: واسْتمراراً لنهجِ هذه الفئة المتنطعةِ الضالة, فقد أقدموا - على عادتهم - على سفك دماءِ الأبرياء, وفي شهر الصيام والعبادة, في منفذ الوديعة بمحافظة شرورة.
ويا سبحان الله, ما ذنب رجال أمننا حين قتلوهم؟ أذنبهم أنهم يحمون بلادهم من المجرمين والمروِّجين؟,,, ماذا يقولون لله تعالى في هذه الدماء الطاهرة, ما ذنب أبنائهم حين يتموهم, ما ذنب زوجاتهم حين أرملوهن؟.
إن هذه الأعمال الإجرامية الآثمة, لا يعملها والله إلاّ أناسٌ تجردوا من إنسانيتهم ومروءتهم وفطرتهم, التي فطرهم الله عليها, وما علموا أن هذه الأعمالَ الإجراميةَ لا تزيد مُجتمعنا إلاّ قناعةً بضلالهم, وتماسكاً وترابطاً واتحاداً.
نسأل الله تعالى أن يغفر لحماةِ ديارنا الذي قُتلوا غدراً, وأنْ يرزقَ أهلهمُ الصبر والثباتَ والأجر, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
أما بعد, فاتقوا الله أيها المسلمون, واعلموا أنَّ الله تعالى, بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفيَّةِ السمحة, ولذا كان عليه الصلاة والسلام ينهى أصحابه عن التشدد, والْمُبالغةِ في العبادة, فقد مَرَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ، فَأَتَى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيّاً فيها, ثُمَّ رجع ومرّ على الرجل الذي يُصلي على الصخرة, فَوَجَدَ الرَّجُلَ عَلَى حَالِهِ يُصَلِّي، فَغضب من صنيعه فقام في الناس خطيباً وقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ, عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ».
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ», فتعجب الصحابة من ذلك وقالوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، ولكن سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا».
والمعنى: ما دام أنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم: فلا داعي للتكلفِ في عبادتكم, بل الزموا القصد والتوسط فيها, واسألوا الله الإعانة فيها, وأن يستركم ويرحمكم.
وثبت في صحيح مسلمٍ أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال:«هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قَالَهَا ثَلاَثًا. أي : المشددون الْمُغَالُون في الدين.
نعم, هلك الْمُتَنَطِّعُونَ الْمُشدِّدون, الذين بتشدُّدهم نفَّروا الناس عن هذا الدين, وشوَّهوا صورةَ الإسلامِ والْمُسلمين, وجرَّؤوا علينا الأعداء والْكافرين.
إنَّ مِن أقبح أفعال هؤلاء: خروجَهم على سوادِّ الأمة, واعتراضَهم على علماء الملَّة, بل ويلمزونهم بأبشع الألقاب, ويستحلُّون الدماء وقطعَ الرقاب.
بل إنهم اعترضوا على مَن لا ينطق عن الهوى, الذي يأتيه الوحيُ من السماء, فهذا رئيسُهم وزعيمُهم ذُو الْخُوَيْصِرَةِ, أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائمَ حُنَيْنٍ، ويُوزعها على النَّاسِ والْمُؤلَّفةِ قلوبُهم، فَصرخ في وجهه فقال: اتَّقِ اللهَ يَا رسول الله، اعْدِلْ، قَالَ: «وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ». متفق عليه
فاحذروا من الغلو والتنطع, واعلموا أنَّ الغلوَّ الذي جرَّأ الخوارج على الاعتراض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, واتِّهامِه بأنه لم يعدل, وجرَّأهم على قتال الصحابة الأخيار, وعلى رأسهم عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه, لن يتورعوا عن قتال واستباحة دماء من هم أقلُّ منهم, فهاهم اليوم يستبيحون دماء المجاهدين في الشام, ويُقاتلون كلَّ من لم يدخل تحت طاعتهم ورايتهم, ويُشردون الأبرياء بحجة أنههم وقفوا ضدهم.
بل هاهم يُعلنون الخلافةَ ويستأثرون بها دون غيرهم, دون اسْتشارةٍ ولا اعتبارٍ للعلماءِ والمجاهدين, بل قاتلوهم واسْتباحوا دماءهم.
فأي دينٍ هذا, أهذا هو الاسلام الذي عرفوه, أهذا هو الإسلامُ العظيمُ الذي رضيه الله لنا ديناً؟.
أهذا هو الإسلام الذين نهى عن قتل الكافر في ساحات القتال, نهى عن قتل كافرٍ يقتل في المسلمين في ساحات المعركة, لكنه بعد أنْ رُفع السيف على رأسه نطق بالشهادة.
ففي الصحيحين عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: «لَا تَقْتُلْهُ» قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ: «لَا تَقْتُلْهُ».
يقطعُ هذا الكافر يديَ في ساحة المعركة, ثم لَمَّا رفعتُ سيفي لأقتله نطق بالشهادة, أفأمتنعُ من قتله؟ نعم, كلُّ هذا لحرمة دمٍ نطق صاحبه بالشهادة, فكيف بدمٍ امرئٍ مُؤمنٍ صائمٍ قائم؟ كيف يُستباح دمُه؟ أين من يُؤيد ويُبرر لمن ادعى الخلافة في قتاله المسلمين وبقيةَ الجواهدين؟.
وهذا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه يقول: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا من الكفارِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. متفق عليه
الله أكبر, كافرٌ يُقَتِّلُ في المسلمين في المعركة, فنترك قتله إذا نطق بالشهادة خوفاً من القتل, مُجرد نُطقه بالشهادة يعصم دمَه وعرضَه, لأننا لا نعلم هل قالها خائفاً أم مُؤمناً, مع أنَّ الْمُتبادَرَ والذي يغلب على الظن: أنه ما قالها إلا خوفاً على دمه, وإبقاءً على نفسه, ومع ذلك نكفُّ عن قتله, فما حُجةُ من يستبيحون دماء المسلمين الأصليين, الصائمين القائمين.
بل ما حُجَّةُ من يَقتلُ مسلمًا مُجاهدًا, صائمًا قائمًا, أيُّ جُرمٍ يقترفه هؤلاء, أيُّ تشويهٍ للإسلام يعملُه هؤلاء الأدعياء.
يقولُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رحمه الله: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْبَهِيمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْوَعِيدُ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِقَتْلِ الْآدَمِيِّ، فَكَيْفَ بِالتَّقِيِّ الصَّالِحِ. ا.ه كلامه رحمه الله
معاشر المسلمين: إنّ الله تعالى جاء بالإسلام, وأمر بالجهاد حتى لا تكون فتنة, قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
وقد ثبت في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أنه أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟- أي مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تخرجَ على بني أُميَّةَ الذين قاتلوا الصحابي الجليل ابنَ الزبير, وحاصروا الكعبة, ورموها بالمنجنيق حتى لحقها الضرر والخراب-.
بماذا أجاب هذا الصحابيُّ الفقيه العالم عن هذه الشبهة؟ قَالَ «يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي», فأوردا عليه شبهةً أُخرى فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، فَقَالَ: «قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ».
وبهذا الجواب أجاب سَعْدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه.
الله أكبر, ما أعظم فقه الصحابة رضي الله عنهم, يعترض أحدُ المنادين للفتنة عليهم بهذه الآية, حيث أمر الله تعالى أنْ نُقاتل الكفار حتى تزول الفتنة, فهو يستشهد بها على قتال المسلمين المخالفين له في رأيه ومنهجه, فيُجيبه الصحابةُ بقولهم: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ.
نعم, انظروا إلى هؤلاءِ المتنطعين في بلاد الشام وغيرِها, كيف قاتلوا إخوانهمُ المجاهدين, فأيُّ فتنةٍ أعظمُ من هذا؟ إنهم لم يُقاتلوا اليهود ولا النصارى ولا الرافضة, إنما يُقاتلون أهلَ السنةِ والجماعة, الذي لم يدخلوا تحت رايتهم, ولم يُبايعوا خليفتهم.
فلا عجب إذا رأينا من يُجَرِّحُ ويطعن في علماء الملة, ويستبيح دماء الأمة, فقد ورث هذا المنهج من أسلافه الضالين, وسار على نهج الخوارج المارقين.
ولكن العجب - معاشر المسلمين- من أُناسٍ تربوا في هذه البلاد المباركة, التي رضعوا في مدراسها وتربوا على علمائها, العقيدة الصافية, والعلم الصحيح, ثم تراه يُؤيد ويُنافح عن هؤلاء المتشددين, الذين لا يتورعون عن سفكِ دمِ امرئٍ مُسلمٍ يُخالف رأيهم, ويعترض على صنيعهم, بل هاهم أعلنوا الخلافةَ ونسبوها لهم, وحاربوا كلَّ من لم يُبايعهم من المجاهدين, لم يستشيروا عالماً واحدا, وهذا المنهجُ لم يسر عليه إلا الطغاةُ في كلِّ عصرٍ ومِصر, ومن بينهم فرعونُ الذين كان يقول لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى}.
نسأل تعالى أنْ يُجبنا إراقةَ دماءِ المسلمين, وأنْ يكفينا شرَّ المتنطعين, وأنْ يردَّهم إلى صراطه المستقيم, إنه جوادٌ كريمٌ.
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ الْمُرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.... أما بعد:
أيها المسلمون: واسْتمراراً لنهجِ هذه الفئة المتنطعةِ الضالة, فقد أقدموا - على عادتهم - على سفك دماءِ الأبرياء, وفي شهر الصيام والعبادة, في منفذ الوديعة بمحافظة شرورة.
ويا سبحان الله, ما ذنب رجال أمننا حين قتلوهم؟ أذنبهم أنهم يحمون بلادهم من المجرمين والمروِّجين؟,,, ماذا يقولون لله تعالى في هذه الدماء الطاهرة, ما ذنب أبنائهم حين يتموهم, ما ذنب زوجاتهم حين أرملوهن؟.
إن هذه الأعمال الإجرامية الآثمة, لا يعملها والله إلاّ أناسٌ تجردوا من إنسانيتهم ومروءتهم وفطرتهم, التي فطرهم الله عليها, وما علموا أن هذه الأعمالَ الإجراميةَ لا تزيد مُجتمعنا إلاّ قناعةً بضلالهم, وتماسكاً وترابطاً واتحاداً.
نسأل الله تعالى أن يغفر لحماةِ ديارنا الذي قُتلوا غدراً, وأنْ يرزقَ أهلهمُ الصبر والثباتَ والأجر, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
المشاهدات 3916 | التعليقات 4
جزاك الله يا شيخ أحمد . أنا من المتابعين لخطبكم بل من المستفيدين منها ، لكن يا شيخي الكريم ياليت تكون الخطبة مضبوطة بالشكل ، حتى تكون الفائدة أعم ، وألف ألف شكر .
آمين, وإياكم شيخ شبيب والأخر الفاضل الشفق, وبالنسبة للضبط, فأنا أحرص على ضبط ما قد يُشكل, أما ضبط الخطبة كاملةً فتأخذ وقتا لا أستطيع أن أتفرغ له..
وشكر الله لكم وللأخوة تفاعلكم وحرصكم..
جزيت الجنة
أجدت وأبدعت
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بك
تعديل التعليق