خطب عن الحر وما فيه من العبر وفضل سقيا الماء للدكتور إبراهيم الحقيل

خطبة رقم (1)

الْحَمْدُ لِلهِ الرَّحِيمِ التَّوَّابِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، فَتَحَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لِلْبَاذِلِينَ، وَعَدَّدَ أَنْوَاعَ الْبِرِّ لِلْعَامِلِينَ، وَخَصَّ بِالْفَضْلِ عِبَادَهُ الْمُحْسِنِينَ، وَأَسْبَغَ نِعَمَهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، نَحْمَدُهُ أَنْ هَدَانَا إِلَيْهِ، وَدَلَّنَا عَلَيْهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَنِقَمٍ دَفَعَهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ دَلَّنَا عَلَى الْخَيْرِ لِنَأْخُذَ حَظَّنَا مِنْهُ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الشَّرِّ لِنَبْتَعِدَ عَنْهُ؛ نُصْحًا لَنَا، وَرَحْمَةً بِنَا، وَشَفَقَةً عَلَيْنَا، فَمَنْ أَطَاعَهُ أَفْلَحَ وَفَازَ، وَمَنْ عَصَاهُ خَسِرَ وَخَابَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا عِبْرَةً لِحَرِّ الْآخِرَةِ، وَمِنْ عَطَشِهَا تَذْكِرَةً لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ شَمْسِهَا عِظَةً لِشَمْسِ المَوْقِفِ الْعَظِيمِ، حِينَ تَدْنُو مِنْ رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ قَدْرَ مِيلٍ، فَاعْمَلُوا عَلَى نَجَاتِكُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَقَدِّمُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا يَكُونُ ذُخْرًا لَكُمْ؛ فَإِنَّ المَوْعِدَ قَرِيبٌ، وَهَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) [المعارج: 6 - 10].

أَيُّهَا النَّاسُ: عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الْحَرُّ تَعْظُمُ قِيمَةُ المَاءِ، وَلَا شَيْءَ أَلَذَّ مِنَ المَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ؛ وَلِذَا أَغْرَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ فِي اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ بِالشُّرْبِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ مِنْ حَوْضِهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: «... مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ([1]). 

وَفِي الْجَنَّةِ (أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد:15] أَيْ: غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ، لَاَ بِوَخَمٍ وَلَا بِرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، وَلَا بِمَرَارَةٍ، وَلَا بِكُدُورَةٍ، بَلْ هُوَ أَعْذَبُ المِيَاهِ وَأَصْفَاهَا، وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، وَأَلَذُّهَا شُرْبًا([2]).

وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بَعَثَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِرِسَالَةٍ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ نَبِيِّهَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ...» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ([3]).

وَمِنْ حُجَجِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:79]، وَدَعَا الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ فِي المَاءِ([4])، وَشَرَطَتْ هَاجَرُ عَلَيْهَا السَّلَامُ عَلَى جُرْهُمَ لمَّا سَاكَنُوهَا أَنْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ زَمْزَمَ نَبَعَتْ بِسَبَبِهَا وَوَلَدِهَا([5]). فَلَوْلَا أَهَمِّيَّةُ شُرْبِ المَاءِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، وَلَذَّتُهُمْ بِهِ حَالَ الْعَطَشِ؛ لَمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَوَصَفَهَا؛ وَلَمَا ذَكَرَهَا الْخَلِيلُ فِي وَصِيَّتِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ وَلَمَا دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُبَارَكَ فِي مَائِهِمْ؛  وَلَمَا شَرَطَتْ هَاجَرُ أَنَّ المَاءَ لَهَا؛ وَلَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَافَ حَوْضِهِ فِي المَوْقِفِ الْعَظِيمِ؛ وَلَمَا خُصَّ الصَّائِمُونَ الظَّامِئُونَ بِبَابِ الرَّيَّانِ فِي الْجَنَّةِ([6]).

وَإِذَا عَظُمَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لِشَيْءٍ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ أَنْفَعَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْقُرَبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ وَالمَاءُ أَهَمُّ شَيْءٍ لِبَقَاءِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بَعْدَ الْهَوَاءِ، فَكَانَ فِي بَذْلِهِ إِحْيَاءٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي مَنْعِهِ عَنْهُمْ هَلَاكًا لَهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَذْلُ الْمَاءِ، وَكَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ مَنْعُ فَضْلِ المَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ، يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ...» الْحَدِيثُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ([7])، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «...وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ»([8]).

قَالَ الْعَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "المَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مِنْهُ لَا يُمْلَكُ أَصْلًا، وَكُلُّ النَّاسِ فِيهِ سَوَاءٌ فِي الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَكَرْيِ النَّهْرِ مِنْهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَذَلِكَ كَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ مِثْلِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا، وَقِسْمٌ مِنْهُ يُمْلَكُ، وَهُوَ المَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي قِسْمَةِ أَحَدٍ إِذَا قَسَمَهُ الإِمَامُ بَيْنَ قَوْمٍ، فَالنَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءُ فِي الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ دُونَ كَرْيِ النَّهْرِ، وَقِسْمٌ مِنْهُ يَكُونُ مُحْرَزًا فِي الْأَوَانِي... وَهَذَا مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ بِالْإِحْرَازِ([9]).

وَمَنْعُ المَاءِ عَنِ الْحَيَوَانِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ إِثْمُهُ عَظِيمٌ، وَقَدْ دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْ عَنْهَا المَاءَ وَالطَّعَامَ حَتَّى مَاتَتْ([10]). فَكَيْفَ إِذَنْ بِحَبْسِ المَاءِ عَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَكَيْفَ بِحَبْسِهِ عَنِ المُؤْمِنِ؟! وَمَا أَعْظَمَ إِجْرَامَ مَنْ يَسْتَخْدِمُونَ سِلَاحَ المِيَاهِ وَالْغِذَاءِ فِي الْحُرُوبِ، فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ مُدُنٍ وَقُرًى يَمُوتُ أَطْفَالُهَا وَنِسَاؤُهَا عَطَشًا وَجُوعًا! كَمَا فَعَلَ الْبَاطِنِيَّةُ فِي مُدُنِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ، عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَا يَسْتَحِقُّونَ([11]).

إِنَّ سَقْيَ الْعَطْشَانِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَصَدَقَةَ المَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «الْمَاءُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ([12])، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: «أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ»([13]).

وَكَانَتْ بِئْرُ رُومَةَ لِيَهُودِيٍّ يَبِيعُ مَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، كُلَّ قِرْبَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟» فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَوْقَفَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ([14]).

وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وهم يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: «انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ([15]).

وَعَنْ عَمْرَوِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لِأَهْلِي، وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ([16]).

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...» رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ([17]).

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "سَقْيُ المَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ المَاءِ" اهـ([18]).

وَقَدْ غُفِرَ لِبَغِيٍّ بِكَلْبٍ سَقَتْهُ مَاءً؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ([19]).

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قُرْحَةٌ خَرَجَتْ فِي رُكْبَتِي مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ عَالَجْتُ بِأَنْواعِ الْعِلَاجِ، وَسَأَلْتُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: "اذْهَبْ فَانْظُرْ مَوْضِعًا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْمَاءِ فاحْفُرْ هُنَاكَ بِئْرًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَنْبُعَ هُنَاكَ عَيْنٌ، وَيُمْسِكَ عَنْكَ الدَّمُ" فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَفِي هَذَا الْمَعْنَى حِكَايَةُ قُرْحَةِ شَيْخِنَا الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، فَإِنَّهُ قَرِحَ وَجْهُهُ وَعَالَجَهُ بِأَنْواعِ الْمُعَالَجَةِ، فَلَمْ يَذْهَبْ، وَبَقِيَ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، فَسَأَلَ الْأُسْتاذَ الْإِمَامَ أَبَا عُثْمَانَ الصَّابُونِيَّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَعَا لَهُ، وَأَكْثَرَ النَّاسُ في التَّأْمِينِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى أَلْقَتِ امْرَأَةٌ فِي الْمَجْلِسِ رُقْعَةً بِأَنَّهَا عَادَتْ إِلَى بَيْتِهَا، وَاجْتَهَدَتْ فِي الدُّعَاءِ لِلْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَرَأَتْ فِي مَنَامِهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهَا: قُولُوا لِأَبِي عَبْدِاللهِ: يُوسِّعُ الْمَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَجِئْتُ بالرُّقْعَةِ إِلَى الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ فَأَمَرَ بِسِقَايَةِ الْمَاءِ بُنِيَتْ عَلَى بَابِ دَارِهِ، وَحِينَ فَرَغُوا مِنَ الْبِنَاءِ أَمَرَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِيهَا، وَطُرِحَ الْجَمَدَ فِي الْمَاءِ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الشُّرْبِ فَمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ حَتَّى ظَهَرَ الشِّفَاءُ، وَزَالَتْ تِلْكَ الْقُرُوحُ، وَعَادَ وَجْهُهُ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سِنِينَ"([20]).

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَقْيِ المَاءِ إِلَّا قَوْلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «...يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ([21]).

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَقِيَنَا شُحَّ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ يَهْدِيَنَا لِمَا بِهِ يَرْضَى عَنْهَا، وَأَنْ يَفْتَحَ لِلْخَيْرِ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنَّا وَمِنَ المُسْلِمِينَ صَالِحَ أَعْمَالِنَا.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ....

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: صَدَقَةُ المَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَسَقْيُ الْعَطْشَانِ أَبْلَغُ مِنْ بَذْلِ المَالِ، سَوَاءً كَانَ الْعَطْشَانُ إِنْسَانًا أَمْ حَيَوانًا أَمْ طَائِرًا، وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلَكِنَّ نَفْعَهُ كَبِيرٌ، وَأَثَرَهُ عَظِيمٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «...إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ»([22]).

فَكَيْفَ بِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهَا بِئْرٌ سِوَاهَا فَيَشْرَبُ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَيْطُبُخُونَ طَعَامَهُمْ بِمَائِهَا، وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ مِنْ حِيَاضِهَا!

وَكَيْفَ بِمَنْ أَوْقَفَ بَرَّادَةَ مَاءٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ طَرِيقٍ، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهَا شَرِبَ مِنْهَا، وَيَجْرِي أَجْرُهَا مَا جَرَى مَاؤُهَا، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْهَا!

وَيَشْتَرِكُ السُّكَّانُ فِي عِمَارَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا نَفِدَ مَاؤُهُمْ انْبَرَى أَحَدُهُمْ فَاشْتَرَى شِحْنَةَ مَاءٍ فَأَفْرَغَهَا فِي خَزَّانِهِمْ، فَدَخَلَتْ صَدَقَتُهُ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَحَلِيبِ أَطْفَالِهِمْ، وَيَغْتَسِلُ مِنْهَا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ، وَيَتَوَضَّئُونَ مِنْهَا لِصَلَاتِهِمْ، فَكَمْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَالٍ زَهِيدٍ يَبْذُلُهُ؟!

وَوَضْعُ المِيَاهِ لِلطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ الضَّالَّةِ فِيهِ أَجْرُهُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا.

وَسُبُلُ بَذْلِ المَاءِ كَثِيرَةٌ، وَطُرُقُ السُّقْيَا عَدِيدَةٌ، وَالْحَاجَةُ لِلْمَاءِ مُلِحَّةٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، فَتَتَوَافَرُ أَسْبَابُ السُّقْيَا وَتَتَعَدَّدُ طُرُقُهَا، فَلَا يَحْسُنُ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يُحْرَمَ كُلَّ سُبُلِهَا وَطُرُقِهَا، وَمَنْ ضَرَبَ بِسَهْمٍ فِي كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا حَازَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَجَمَعَ أَجْرًا عَظِيمًا (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:110].

وَصَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُمْ....  

([1]) رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: البخاري في الرقاق، باب في الحوض (6579) ومسلم في الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته (2292).

([2]) تفسير السعدي (ص: 786).

([3]) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: الترمذي في الدعوات، وقال: حديث حسن غريب (3462) والطبراني في الكبير (10/ 173) رقم (10363) وفي الأوسط (4170) وفي الصغير (539) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 214) رقم (105) وحسنه في صحيح الجامع الصغير (3460).

([4]) في حديث ابن عباس رضي اله عنهما أن الخليل عليه السلام لما زار مكة سأل زوجة إسماعيل عليه السلام

فقال: «ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال فما شرابكم؟ قالت الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه» رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125] (3364).

([5]) في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المخرج في الحاشية السابقة: «... حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم....».

([6]) عن سهل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد " رواه البخاري في الصوم، باب الريان للصائمين (1896) ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام (1152).

([7]) رواه البخاري في الشهادات، باب اليمين بعد العصر (2672) ومسلم في الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (108).

([8]) هذه الرواية للبخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 23] (7446).

([9]) عمدة القاري (12/ 190).

([10]) عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» رواه البخاري في المساقاة، باب فضل سقي الماء (2365) ومسلم في السلام باب تحريم قتل الهرة (2242).

([11]) خلال هذا العام وقبل أشهر حاصر النصيرية كثيرا من مدن الشام، وخاصة حمص وحلب حتى مات أهلها جوعا، وضربوا خزانات المياه عليهم من الله تعالى ما يستحقون، وحاصر الروافض الفلوجة وتكريت في العراق، ومنعوا عن أهلها الماء والغذاء والدواء أخزاهم الله تعالى، وحاصر الحوثيون تعز أشهر حتى عز الماء والطعام والدواء فيها، قاتلهم الله تعالى.

([12]) رواه من حديث سعيد بن المسيب مرسلا: أبو داود في الزكاة، باب في فضل سقي الماء (1679) وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (1512) قال الألباني في صحيح أبي داود: إسناده مرسل صحيح (1474).

([13]) رواه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: الفاكهي في أخبار مكة (1855) والطبراني في الأوسط (8061) وابن عبد البر في التمهيد (20/28) والضياء في المختارة (2056) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه الطبراني في الأوسط ورواته محتج بهم في الصحيح (1423) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح (3/138) وصححه السيوطي في شرح الصدور (299) والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (961).

([14]) رواه البخاري مختصرا معلقا مجزوما به في المساقاة، باب في الشرب، ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، مقسوما كان أو غير مقسوم (3/109) ووصله بتمامه الترمذي في المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال: حديث حسن (3703) والنسائي في الأحباس، باب: وقف المساجد (3608) وابن أبي عاصم في السنة (2/ 594) رقم (1305) والدارقطني (5/ 350) رقم (4440) وصححه ابن خزيمة (2492) والضياء المقدسي في المختارة (1/ 447) رقم (322) وحسنه الألباني في إرواء الغليل (6/ 38) رقم (1594).

قال ابن الملقن: بئر رومة - بضم الراء الثانية - كانت ركية بالمدينة ليهودي يقال له: رومة. قال البكري في «أماكنه» وقال صاحب «المستعذب» : ليهودي يبيع للمسلمين ماءها، يقال: إنه أسلم. حكاه ابن منده، قال: وهو رومة الغفاري، فاشتراها عثمان، وفي مقدار ما اشتراها به أربعة أقوال:

أحدها: أنه عشرون ألفا؛ أسنده الطبراني في «معجمه» وقاله البكري في «أماكنه» وأسنده أيضا أبو نعيم، وأنه اشترى النصف الأول باثني عشر ألف درهم، والآخر بسبعمائة.

ثانيها: أنه خمسة وثلاثون ألف درهم. قاله الحازمي في «مؤتلفه» قال: «وكان يبيع منها القربة بالمد، فقال له عليه الصلاة والسلام: بعنيها بعين في الجنة. فقال: يا رسول الله، ليس لعيالي غيرها؛ لا أستطيع ذلك. فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بذلك» وأخرجه كذلك الطبراني في «أكبر معاجمه» سواء، ثم قال في آخره: «ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أتجعل لي مثل الذي جعلت له، عينا في الجنة إن اشتريتها؟ قال: نعم. قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين» .

ثالثها: أنه اشترى النصف الأول بمائة بكرة، والباقي بشيء يسير.

أسنده ابن النجار في كتابه «الدرة الثمينة في أخبار المدينة» من حديث الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن طلحة، عن إسحاق بن عيسى، عن موسى بن طلحة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نعم الحفيرة حفيرة المري - يعني: رومة - فلما سمع بذلك عثمان ابتاع نصفها بمائة بكرة، وتصدق بها، فجعل الناس يستقون منها، فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها، باع من عثمان النصف الباقي بشيء يسير، فتصدق بها كلها» .

رابعها: أنه اشتراه بأربعمائة دينار. قاله ابن سعد، حكاه صاحب «التنقيب» . البدر المنير (7/ 105-106).

([15]) رواه من حديث جابر رضي الله عنه: مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218).

([16]) رواه أحمد، وحسنه محققو المسند (11/ 647) رقم (7075) وصححه أحمد شاكر (6/ 486) رقم

(7075) والألباني في صحيح الجامع الصغير (4263).

([17]) رواه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 332) وصححه ابن خزيمة (1292) والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 228) رقم (271).

([18]) شرح صحيح البخاري (6/ 503).

([19]) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري في أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (3467) ومسلم في السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (2245).

 

([20]) رواه البيهقي في الشعب الإيمان (5/ 69) رقم (3109).

([21]) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض (2569).

([22]) رواه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في صنائع المعروف، وقال: حسن غريب (1956) والبخاري في الأدب المفرد (891) والبزار (4070) ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 817) رقم (812) وصححه ابن حبان (529) والألباني في صحيح الجامع الصغير (2908).

رقم (2)

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1] [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار·

أيها المؤمنون: شدة الحر مؤذيةٌ، كما أن شدة البرد مؤذية أيضاً، وحرارة الشمس ولهبها يجعل الأحياء تبحث عن ظلٍ يقي حرها، أو ماءٍ بارد يخفف لهبها؛ ولذا كان من كمالِ نعيمِ أهل الجنة أنهم لا يجدون الحر، ولا يرون الشمس، كما لا يجدون شدة البرد· ظل دائم، واعتدالٌ في الهواء، لا حارٌ يلفح، ولا باردٌ يلسع [وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا] {النساء:57}، [لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا] {الإنسان:13}، [فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ] {المرسلات:41}.

وهو ظلٌ تميز بميزات كثيرة، منها: أنه ممدود لا ينتهي، ودائم لا ينقطع، فليس في مكان محدود من الجنة؛ بل ممتد فيها [وَظِلٍّ مَمْدُودٍ] قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسيرُ الراكبُ في ظلها مئة عام لا يقطعها ؛ اقرؤوا إن شئتم [وَظِلٍّ مَمْدُودٍ]» متفق عليه(1)·

وهو كذلك دائم أبداً، لا ينقطع في زمان من الأزمنة؛ كما في قوله تعالى: [أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا] {الرعد:35}. قال ابن مسعود رضي الله عنه: «الجنة سجسجٌ كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس»(2)·

والسجسجٌ في اللغة: الاعتدالُ في الجو، يقال: يومٌ سجسج، إذا لم يكن فيه حرٌ مؤذٍ، ولا بردٌ شديد(3)·

وبضد ذلك جهنم ـ أعاذنا الله والمسلمين منها ـ فإنها شديدةُ الحرارة، ظلها يحموم، وهبوُبها سموم [وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ(44)] {الواقعة}، والسموم: الهواء الحار، والحميم: الماء الحار، والظل اليحموم: هو ظلُ الدخانِ، وهو حار أيضاًً(4)؛ فاجتمع عليهم حرارةُ الهواءِ، وحرارةُ الماءِ، وحرارةُ الدخان أجارنا الله منها بعفوه ورحمته·

ومن المنن التي يعددها أهل الجنة لربهم عليهم: أنه تعالى أبعد عنهم حرارة الهواء، يقولون: {فّمّنَّ پلَّهٍ عّلّيًنّا $ّوّقّانّا عّذّابّ پسَّمٍومٌ لله72« إنَّا كٍنَّا مٌن قّبًلٍ نّدًعٍوهٍ إنَّهٍ هٍوّ پًبّرٍَ پرَّحٌيمٍ} [الطور: 72، 82]·

ومن شدة حرارة جهنم ـ أجارنا الله منها ـ أن بعضها يأكل بعضاً، ويحطم بعضها بعضاً، وأشدُّ حرٍ نجده في الصيف ما هو إلا نَفَس من أنفاسها، وأشد ما نجد من برد في الشتاء نَفَس من أنفاسها؛ كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اشتكت النار إلى ربها فقالت : ربِّ أكل بعضي بعضاً فَأَذِنَ لها بنَفَسين: نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف· فهو أشدُّ ما تجدون من الحر، وأشدُ ماتجدون من الزمهرير»(5)، قال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى: «وأحسن ما قيل في هذا المعنى ما فسره الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: اشتكت النار إلى ربها فقالت: ياربِّ أكل بعضي بعضاً فخفف عني، قال: فخفف عنها، وجعل لها كل عام نَفَسين، فما كان من بردٍ يهلك شيئاً فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلكُ شيئاً فهو من حرها» اهـ(6)·

ثم قال ابن عبدالبر: «ومعلوم أن نَفَسها في الشتاء غيرُ الشتاء، ونَفَسَها في الصيف غيرُ الصيف لقوله: «نَفَسٍ في الشتاء ونَفَسٍ في الصيف» اهـ(7)·

فصار إذاً أشدُّ حر في الصيف من نفسها، وأشدُّ برد في الشتاء من نَفَسها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «النفس المذكور ينشأ عنه أشدُّ الحر في الصيف»(8)·

وخرّج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «تطلع الشمس من جهنم في قرن شيطان وبين قرني شيطان، فما ترتفع في السماء قضمة إلا فُـتح بابٌ من أبواب النار، فإذا اشتد الحر فتحت أبوابُها كلُها»(9)، قال السيوطي: «وهذا يدل على أن التنفس يقع من أبوابها، وعلى أن شدة الحر من فيح جهنم حقيقة» اهـ (10)·

وكان الصحابة رضي الله عنهم يتأذون من شدة الحر في صلاة الظهر ـ خاصة حرارة الأرض وهم يسجدون عليها ـ حتى قال أنس رضي الله عنه: «كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمكِّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» رواه مسلم(11)·

وفي لفظ لأبي عوانة:«كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدنا على ثيابنا مخافة الحر»(12)؛ ولذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإبراد في الظهر، أي: تأخير صلاة الظهر إلى آخر وقتها في شدة الحر، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا اشتدَّ الحرُ فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم» رواه الشيخان(13)، قال الزرقاني رحمه الله تعالى: «أي من سعةِ انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح: أي متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهرهُ أن مثار وهج الحر في الأرض من فيحها حقيقة» اهـ(14)·

أيها الإخوة: شدةُ الحر في الدنيا تذكرُ بحر الموقف العظيم يوم القيامة، كما تذكرُ بحر نار جهنم· وكلما اشتد الحرُ في الدنيا كان ذلك أدعى للتفكر والتذكر، وعدم نسيان حرِ القيامةِ، وحر نار جهنم· ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد ذكر لنا أن الشمس تكون قريبة من رؤوس العباد في عرصات القيامة مما يجعل كربَ العباد شديداً؛ فيطلبون الخلاص بالفصل والقضاء ليذهب كلُ واحد منهم إلى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال عليه الصلاة والسلام: «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار م

المرفقات

الماء-في-شدة-الحر-مشكولة-2

الماء-في-شدة-الحر-مشكولة-2

المشاهدات 3360 | التعليقات 1

جزاكما الله خيرا