خطب بمناسبة الدعوة للخطبة عن الإسراف واستخدام الكماليات غير الضرورية
أبو عبد الرحمن
1431/03/19 - 2010/03/05 07:47AM
صورٌ من الإسراف والتَّبذير
خطبة المسجد النبوي 18 – 5 – 1429هـ
الشيخ حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
الخطبة الأولى
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله النَّبيُّ المصطفى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه، وعلى آله وأصحابه الأتقياء، أمَّا بعد...
فيا عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلَّ وعلا؛ فهي سبب النجاح ومَدْرَج الفلاح.
إخوة الإسلام:
إنَّ الأصول التَّشريعية، والقواعد القرآنية، والمبادئ النبوية - أصلُ التوسُّط والاعتدال في جميع الأمور وفي كلِّ الأحوال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].
ومن أصول الشَّريعة أيضًا:
حفظ الأمور الضرورية للنَّاس، وهي: الدِّين، والنَّفس، والمال، والعِرْض، والعقل.
ومن هذا المنطلق جاءت النُّصوص الشَّرعية تحذِّر من الإسراف والتَّبذير، وتنْهى عن البخل والتَّقتير.
إخوة الإسلام:
الإسراف فعلٌ يبغضه الرَّب - جلَّ وعلا - وتصرُّفٌ يذمُّه المولى العظيم؛ يقول - جلَّ وعلا -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ويقول -سبحانه وتعالى - في وصف عباده الأتقياء: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، ورسولنُا – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كُلوا واشربوا وتصدَّقوا، من غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ))؛ حديثٌ رواه أحمدُ والنَّسائيُّ وابن ماجه، وسنَدُه صحيحٌ.
ويقول - صلى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتَّفق عليه: ((إنَّ الله حرَّم عليكم عُقوقَ الأُمَّهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكَرِه لكم قِيلَ وقالَ، وكَثْرةَ السُّؤال، وإضاعةَ المال))؛ يقول النَّوويُّ – رحمه الله – ومعنى قوله: ((إضاعة المال))؛ أي: تبديده وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها من مقاصد الآخرة والدُّنيا، وتركُ شبه ما أمكن فعله.
إخوة الإسلام:
من المجالات التي يدخلها الإسراف المنهيُّ عنه: التَّجاوُز في الزِّيادة على القدر الكافي من المأكل والمَشرب والملبس: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، والمراد بأَخْذ الزِّينة: ستر العورة في الصلاة، وسترها باللباس النَّظيف الحسن الجميل، من غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ؛ يقول - صلى الله عليه وسلَّم -: ((ما مَلأَ آدَمِيٌّ وِعاءً شرًّا من بطنه، بحسْبِ ابنِ آدَمَ أكلات يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن كان ولا محالةَ؛ فَثُلُثٌ لطعامه، وثُلثٌ لشرابه، وثُلثٌ لنَفَسه))؛ والحديث حسنٌ - كما قاله التِّرمذيُّ.
معاشر المسلمين:
ذكر العلماء أنَّ الإفراط في تناول المُباحات، والتَّوسُّع العظيم فيها، وبذل الأموال الكثيرة فوق قدْر الحاجة، بما فيه زيادةُ تَرَفُّه وتَنَعُّم مبالَغ فيه - كلُّ ذلك من الإسراف الذي لا ينبغي.
قال الزَّجَّاجُ – رحمه الله – في تفسير الإسراف: "لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة"، ويقول أحد المحقِّقين: "الإسراف: هو الزِّيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة، والتَّبذير: صرفها في غير وجهها".
وقد وَرَدَ في الهدي النبوي ما يُرشد إلى هذا التأصيل، ويبيِّن صحة هذا التقرير، وأنَّ ما دَرَجَ عليه بعضُ النَّاس من الإسراف في الأمور التَّحسينية، والمباهاة في الشؤون التكميلية - أمرٌ لا يُحمَد شرعًا.
عن عُروة – رضي الله عنه – عن عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها – قال: "دخلتُ عليها فقالت لي: والله يا ابن أختي إنْ كنَّا لننتظر الهلالَ، ثم إلى الهلال، ثم إلى الهلال؛ ثلاثةَ أَهِلَّةٍ في شهرين - وما أُوقِدَ في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نارٌ!! فقلتُ: يا خالة، فما كان يُعيّشُكُم؟ قالت: الأَسْوَدان - التَّمر والماء - إلا أنه كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – جيرانٌ من الأنصار، وكانت لهم مَنَايش ( لعلها منائح ) - أي من الإبل - وكانوا يرسلون إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من ألبانها فيسقينا"؛ متفقٌ عليه.
وعن عائشة – رضي الله عنها – أيضًا قالت: "ما شبع آل محمدٍ من خبز شعيرٍ يومين متتالين حتى قُُبض".
وفي البخاريِّ عنها - رضي الله عنها - قالت: "كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أَدَمٍ - أي جِلْدٍ - وكان حَشْوَهُ الليفُ)).
أيها المسلمون:
ليس من شأن المسلم المبالغةُ في التنعُّم، والاسترسال في الملذَّات بما يبعده عن الكمال في أمور الدِّين، وبما يوقعه في ركونه إلى هذه الدُّنيا الفانية.
عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاريِّ – رضي الله عنه – قال: ذكر أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومًا عنده الدُّنيا فقال – أي: فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -: ((ألا تَسْمعون، أَلا تَسْمعون، إنَّ البَذاذَةَ من الإيمان، إنَّ البَذاذَةَ من الإيمان)).
ولكنْ عباد الله، هذا لا يعني أنَّ الإسلام يحرِّم التَّنعُّم بما خلق الله من الطيبات، وإنما المراد أن يوطن المسلم نفسه على الاعتدال وعدم الإسراف في المباحات، وعدم الإسراف في المشتَهَيات فوق الحاجة؛ حتى لا تقع النَّفس الأمَّارة بالسُّوء في المأثم وأكل الحرام؛ فعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إنَّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمه على عبده))؛ والحديث إسناده صحيحٌ بشواهده.
إخوة الإسلام:
ومن الإسراف المحرَّم: الإسراف الواقع من بعض المسلمين في حفلات الزواج، من التنافس في البذخ وإنفاق الأموال الطَّائلة؛ فذلكم خطرٌ عظيمٌ على مستقبل الزوجين؛ بل وعلى المجتمع ككلٍّ، والله - جلَّ وعلا - سائلٌ كل عبدٍ عن ماله فيما أنفقه؟ فليُعدَّ للسؤال جوابًا، وليُعدَّ للجواب ثوابًا.
ويبلغ الخطر شأنًا عظيمًا حينما يقع النَّاس في إلقاء المأكولات في المَوَاطن المُمْتَهَنَة - لا قدَّر الله - وهذا كفرٌ بالنِّعم، وسببٌ في تحوُّلها وزوَالها، وربُّنا - جلَّ وعلا - يقول: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء: 26 - 27].
ذكر الماوردي عن بعض أهل العلم قوله: "إن التَّبذير هو الإسراف المتلف للمال"، وقال أبو عُبَيد: ((المبذِّر: هو المسرف المفسد الآيس)).
يقول ربنُّا - جلَّ وعلا - محذِّرًا من الإنفاق فيما لا ينبغي، أو الزيادة على ما ينبغي: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29].
أيها المسلمون:
من أخطر أنواع الإسراف إنفاق الأموال في الباطل وصرفها +بالمحرَّمات، وأخبث هذا النوع: أن يوجِّه الإنسان أمواله بإفساد المسلمين وإغواء شبابهم، كمَنْ يوجِّه أمواله لبثِّ الهجوم أو لمحاربة الدِّين، كما يحدث في بعض وسائل الإعلام اليوم.
يقول ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم -: "التبذير إنفاق الأموال في غير حق"، ويقول مجاهد: "لو أنفق الرجل مُدًّا في غير حقٍّ؛ كان مبذِّرًا"، ويقول الزهري: "الإسراف - مبيِّنًا الإسراف الأعظم - بأنه إنفاق المال في المعاصي".
بل - يا عباد الله - الإنفاق في معصية الله - جلَّ وعلا - هو حقيقة التبذير التي يتصف الإنسان معه بخُلُق الشيطان، ويكون بهذا المعنى من إخوانهم، وبالتالي يبوء بالخذلان والخسران.
أيها المؤمنون:
إن المال العام - أي مال الدولة - أمانة عظيمة على جميع الأمة، واجبٌ الحفاظ عليه، فرضٌ على كل مؤمن صيانته وعدم التعدي عليه؛ لأنه مال للمسلمين جميعًا، وإن على كل جهة ولاَّها ولي أمر المسلمين مسؤوليةً ما أن تحفظ أموال هذه الجهة، وألا تندبها إلا في مصارفها المشروعة شرعًا، المأذون فيها من قِبَل ولي الأمر، وإنَّ من الذنب العظيم والإثم المبين أن يولِّيَك الله - أيها المسلم - أمانة المسؤولية في المال العام ثم تبذره سُدًى، أو تصرفه في غير نفعٍ هامٍّ للبلاد والعباد؛ فرسولنا – صلى الله عليه وسلم – يقول مخاطبًا أفراد الأمة: ((إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ؛ فلهم النار يوم القيامة))؛ رواه البخاري.
فالحذر الحذر يا مَنْ تولَّيْت للمسلمين منصبًا وظيفيًّا، أن تزلَّ بك القَدَم ويضلَّ بك الصراط؛ فتهمل في واجبك، أو أن تَحيد بِمسؤوليَّاتك؛ فتقع في الإسراف والمبالغة في الإنفاق على المشاريع العامة بأموالٍ مُبالَغٍ فيها، وأسعارٍ زائدةٍ عن مَثيلاتِها، فالله - جلَّ وعلا - هو المتولِّي لحسابك وعقابك.
يقول أحدُ الولاة لولاته - وهو أحد ولاة المسلمين -: "ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهوٍ، أو في أكثر من قَدْر اللُّزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك".
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونَفَعَنا بسُنَّة سيد ولد عدنان، عليه أفضل الصلاة والسلام.
أقول هذا القول، وأستغْفِرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
فيا عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلَّ وعلا؛ فهي سبب النجاح ومَدْرَج الفلاح.
إخوة الإسلام:
إنَّ الأصول التَّشريعية، والقواعد القرآنية، والمبادئ النبوية - أصلُ التوسُّط والاعتدال في جميع الأمور وفي كلِّ الأحوال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].
ومن أصول الشَّريعة أيضًا:
حفظ الأمور الضرورية للنَّاس، وهي: الدِّين، والنَّفس، والمال، والعِرْض، والعقل.
ومن هذا المنطلق جاءت النُّصوص الشَّرعية تحذِّر من الإسراف والتَّبذير، وتنْهى عن البخل والتَّقتير.
إخوة الإسلام:
الإسراف فعلٌ يبغضه الرَّب - جلَّ وعلا - وتصرُّفٌ يذمُّه المولى العظيم؛ يقول - جلَّ وعلا -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ويقول -سبحانه وتعالى - في وصف عباده الأتقياء: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، ورسولنُا – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كُلوا واشربوا وتصدَّقوا، من غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ))؛ حديثٌ رواه أحمدُ والنَّسائيُّ وابن ماجه، وسنَدُه صحيحٌ.
ويقول - صلى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتَّفق عليه: ((إنَّ الله حرَّم عليكم عُقوقَ الأُمَّهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكَرِه لكم قِيلَ وقالَ، وكَثْرةَ السُّؤال، وإضاعةَ المال))؛ يقول النَّوويُّ – رحمه الله – ومعنى قوله: ((إضاعة المال))؛ أي: تبديده وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها من مقاصد الآخرة والدُّنيا، وتركُ شبه ما أمكن فعله.
إخوة الإسلام:
من المجالات التي يدخلها الإسراف المنهيُّ عنه: التَّجاوُز في الزِّيادة على القدر الكافي من المأكل والمَشرب والملبس: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، والمراد بأَخْذ الزِّينة: ستر العورة في الصلاة، وسترها باللباس النَّظيف الحسن الجميل، من غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ؛ يقول - صلى الله عليه وسلَّم -: ((ما مَلأَ آدَمِيٌّ وِعاءً شرًّا من بطنه، بحسْبِ ابنِ آدَمَ أكلات يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن كان ولا محالةَ؛ فَثُلُثٌ لطعامه، وثُلثٌ لشرابه، وثُلثٌ لنَفَسه))؛ والحديث حسنٌ - كما قاله التِّرمذيُّ.
معاشر المسلمين:
ذكر العلماء أنَّ الإفراط في تناول المُباحات، والتَّوسُّع العظيم فيها، وبذل الأموال الكثيرة فوق قدْر الحاجة، بما فيه زيادةُ تَرَفُّه وتَنَعُّم مبالَغ فيه - كلُّ ذلك من الإسراف الذي لا ينبغي.
قال الزَّجَّاجُ – رحمه الله – في تفسير الإسراف: "لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة"، ويقول أحد المحقِّقين: "الإسراف: هو الزِّيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة، والتَّبذير: صرفها في غير وجهها".
وقد وَرَدَ في الهدي النبوي ما يُرشد إلى هذا التأصيل، ويبيِّن صحة هذا التقرير، وأنَّ ما دَرَجَ عليه بعضُ النَّاس من الإسراف في الأمور التَّحسينية، والمباهاة في الشؤون التكميلية - أمرٌ لا يُحمَد شرعًا.
عن عُروة – رضي الله عنه – عن عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها – قال: "دخلتُ عليها فقالت لي: والله يا ابن أختي إنْ كنَّا لننتظر الهلالَ، ثم إلى الهلال، ثم إلى الهلال؛ ثلاثةَ أَهِلَّةٍ في شهرين - وما أُوقِدَ في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نارٌ!! فقلتُ: يا خالة، فما كان يُعيّشُكُم؟ قالت: الأَسْوَدان - التَّمر والماء - إلا أنه كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – جيرانٌ من الأنصار، وكانت لهم مَنَايش ( لعلها منائح ) - أي من الإبل - وكانوا يرسلون إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من ألبانها فيسقينا"؛ متفقٌ عليه.
وعن عائشة – رضي الله عنها – أيضًا قالت: "ما شبع آل محمدٍ من خبز شعيرٍ يومين متتالين حتى قُُبض".
وفي البخاريِّ عنها - رضي الله عنها - قالت: "كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أَدَمٍ - أي جِلْدٍ - وكان حَشْوَهُ الليفُ)).
أيها المسلمون:
ليس من شأن المسلم المبالغةُ في التنعُّم، والاسترسال في الملذَّات بما يبعده عن الكمال في أمور الدِّين، وبما يوقعه في ركونه إلى هذه الدُّنيا الفانية.
عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاريِّ – رضي الله عنه – قال: ذكر أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومًا عنده الدُّنيا فقال – أي: فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -: ((ألا تَسْمعون، أَلا تَسْمعون، إنَّ البَذاذَةَ من الإيمان، إنَّ البَذاذَةَ من الإيمان)).
ولكنْ عباد الله، هذا لا يعني أنَّ الإسلام يحرِّم التَّنعُّم بما خلق الله من الطيبات، وإنما المراد أن يوطن المسلم نفسه على الاعتدال وعدم الإسراف في المباحات، وعدم الإسراف في المشتَهَيات فوق الحاجة؛ حتى لا تقع النَّفس الأمَّارة بالسُّوء في المأثم وأكل الحرام؛ فعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إنَّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمه على عبده))؛ والحديث إسناده صحيحٌ بشواهده.
إخوة الإسلام:
ومن الإسراف المحرَّم: الإسراف الواقع من بعض المسلمين في حفلات الزواج، من التنافس في البذخ وإنفاق الأموال الطَّائلة؛ فذلكم خطرٌ عظيمٌ على مستقبل الزوجين؛ بل وعلى المجتمع ككلٍّ، والله - جلَّ وعلا - سائلٌ كل عبدٍ عن ماله فيما أنفقه؟ فليُعدَّ للسؤال جوابًا، وليُعدَّ للجواب ثوابًا.
ويبلغ الخطر شأنًا عظيمًا حينما يقع النَّاس في إلقاء المأكولات في المَوَاطن المُمْتَهَنَة - لا قدَّر الله - وهذا كفرٌ بالنِّعم، وسببٌ في تحوُّلها وزوَالها، وربُّنا - جلَّ وعلا - يقول: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء: 26 - 27].
ذكر الماوردي عن بعض أهل العلم قوله: "إن التَّبذير هو الإسراف المتلف للمال"، وقال أبو عُبَيد: ((المبذِّر: هو المسرف المفسد الآيس)).
يقول ربنُّا - جلَّ وعلا - محذِّرًا من الإنفاق فيما لا ينبغي، أو الزيادة على ما ينبغي: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29].
أيها المسلمون:
من أخطر أنواع الإسراف إنفاق الأموال في الباطل وصرفها +بالمحرَّمات، وأخبث هذا النوع: أن يوجِّه الإنسان أمواله بإفساد المسلمين وإغواء شبابهم، كمَنْ يوجِّه أمواله لبثِّ الهجوم أو لمحاربة الدِّين، كما يحدث في بعض وسائل الإعلام اليوم.
يقول ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم -: "التبذير إنفاق الأموال في غير حق"، ويقول مجاهد: "لو أنفق الرجل مُدًّا في غير حقٍّ؛ كان مبذِّرًا"، ويقول الزهري: "الإسراف - مبيِّنًا الإسراف الأعظم - بأنه إنفاق المال في المعاصي".
بل - يا عباد الله - الإنفاق في معصية الله - جلَّ وعلا - هو حقيقة التبذير التي يتصف الإنسان معه بخُلُق الشيطان، ويكون بهذا المعنى من إخوانهم، وبالتالي يبوء بالخذلان والخسران.
أيها المؤمنون:
إن المال العام - أي مال الدولة - أمانة عظيمة على جميع الأمة، واجبٌ الحفاظ عليه، فرضٌ على كل مؤمن صيانته وعدم التعدي عليه؛ لأنه مال للمسلمين جميعًا، وإن على كل جهة ولاَّها ولي أمر المسلمين مسؤوليةً ما أن تحفظ أموال هذه الجهة، وألا تندبها إلا في مصارفها المشروعة شرعًا، المأذون فيها من قِبَل ولي الأمر، وإنَّ من الذنب العظيم والإثم المبين أن يولِّيَك الله - أيها المسلم - أمانة المسؤولية في المال العام ثم تبذره سُدًى، أو تصرفه في غير نفعٍ هامٍّ للبلاد والعباد؛ فرسولنا – صلى الله عليه وسلم – يقول مخاطبًا أفراد الأمة: ((إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ؛ فلهم النار يوم القيامة))؛ رواه البخاري.
فالحذر الحذر يا مَنْ تولَّيْت للمسلمين منصبًا وظيفيًّا، أن تزلَّ بك القَدَم ويضلَّ بك الصراط؛ فتهمل في واجبك، أو أن تَحيد بِمسؤوليَّاتك؛ فتقع في الإسراف والمبالغة في الإنفاق على المشاريع العامة بأموالٍ مُبالَغٍ فيها، وأسعارٍ زائدةٍ عن مَثيلاتِها، فالله - جلَّ وعلا - هو المتولِّي لحسابك وعقابك.
يقول أحدُ الولاة لولاته - وهو أحد ولاة المسلمين -: "ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهوٍ، أو في أكثر من قَدْر اللُّزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك".
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونَفَعَنا بسُنَّة سيد ولد عدنان، عليه أفضل الصلاة والسلام.
أقول هذا القول، وأستغْفِرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أما بعد...
فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بوصية الله - جل وعلا - للأوَّلين والآخرين، وهي لزوم تقوى الله - جل وعلا - ولزوم طاعته سرًّا وجهرًا، ليلاً ونهارًا.
عباد الله:
الماء نعمةٌ عظمى، وهبةٌ ومنحةٌ كبرى، وإن الواجب على المسلم أن يعلم أن الماء نعمةٌ واجبٌ حفظها، محرَّمٌ الإسراف فيها، فلقد وجَّه رسول الله - صلى الله وسلم عليه - أمته إلى هذا المغزى، وضرب لهم المثل الأروع في المحافظة على هذه النعمة العظمى.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد"؛ رواه مسلم.
ولقد حرص الإسلام على مصادر المياه، ووجه إلى ترشيد استعمال الماء، وعدم إهداره وتلويثه بأي سبب كان؛ فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يُبال في الماء الراكد"؛ رواه مسلم.
أيها المسلمون:
إن من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا - جلَّ وعلا - الإكثارُ من الصلاة والتَّسليم على النبي الكريم؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرك والمشركين، اللهم دمِّر أعداءنا وأعداء الدين، اللهم دمِّر أعداءنا وأعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك.
اللهم مَنْ أرادنا وأراد المسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين.
اللهم احفظ إخواننا المسلمين في العراق، وفي فلسطين، وفي أفغانستان، وفي كل مكان، اللَّهُمَّ ارفع كربهم، اللهم ارفع كربهم يا رب العالمين، اللهم اجبر مُصابهم يا كريم، اللهم اجبر مُصابَهم يا كريم، اللهم احفَظْ أعراضَهم وأنفسهم وأموالهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهُمَّ آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار.
اللهم وفِّق وليَّ أمر المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفِّق خادم الحرمين لما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم بارك له في عمره يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لما تُحبُّه وترضاه يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعلهم رحمةً على رعاياهم، اللهم اجمع بينهم وبين شعوبهم على الحقِّ والتَّقوى، اللهم اجمع بينهم وبين شعوبهم على الحق والتقوى، وعلى سنة المصطفى – عليه أفضل الصلاة والسلام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم اسقِ ديارنا وديار المسلمين، اللهم اسقِ ديارنا وديار المسلمين، اللهم اسقِ ديارنا وديار المسلمين.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبحوه بكرةً وأصيلاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بوصية الله - جل وعلا - للأوَّلين والآخرين، وهي لزوم تقوى الله - جل وعلا - ولزوم طاعته سرًّا وجهرًا، ليلاً ونهارًا.
عباد الله:
الماء نعمةٌ عظمى، وهبةٌ ومنحةٌ كبرى، وإن الواجب على المسلم أن يعلم أن الماء نعمةٌ واجبٌ حفظها، محرَّمٌ الإسراف فيها، فلقد وجَّه رسول الله - صلى الله وسلم عليه - أمته إلى هذا المغزى، وضرب لهم المثل الأروع في المحافظة على هذه النعمة العظمى.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد"؛ رواه مسلم.
ولقد حرص الإسلام على مصادر المياه، ووجه إلى ترشيد استعمال الماء، وعدم إهداره وتلويثه بأي سبب كان؛ فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يُبال في الماء الراكد"؛ رواه مسلم.
أيها المسلمون:
إن من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا - جلَّ وعلا - الإكثارُ من الصلاة والتَّسليم على النبي الكريم؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرك والمشركين، اللهم دمِّر أعداءنا وأعداء الدين، اللهم دمِّر أعداءنا وأعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك.
اللهم مَنْ أرادنا وأراد المسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين.
اللهم احفظ إخواننا المسلمين في العراق، وفي فلسطين، وفي أفغانستان، وفي كل مكان، اللَّهُمَّ ارفع كربهم، اللهم ارفع كربهم يا رب العالمين، اللهم اجبر مُصابهم يا كريم، اللهم اجبر مُصابَهم يا كريم، اللهم احفَظْ أعراضَهم وأنفسهم وأموالهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهُمَّ آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار.
اللهم وفِّق وليَّ أمر المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفِّق خادم الحرمين لما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم بارك له في عمره يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لما تُحبُّه وترضاه يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعلهم رحمةً على رعاياهم، اللهم اجمع بينهم وبين شعوبهم على الحقِّ والتَّقوى، اللهم اجمع بينهم وبين شعوبهم على الحق والتقوى، وعلى سنة المصطفى – عليه أفضل الصلاة والسلام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم اسقِ ديارنا وديار المسلمين، اللهم اسقِ ديارنا وديار المسلمين، اللهم اسقِ ديارنا وديار المسلمين.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبحوه بكرةً وأصيلاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المشاهدات 19478 | التعليقات 4
التحذير من الإسراف، خاصة في النكاح
خطبة المسجد الحرام 24/7/1430 هـ
الشيخ أسامة بن عبدالله خياط
الحمد لله الذي أمر بالقصد في الإنفاق ولا يحب المسرفين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل النكاح آيةً من آياته ونعمةً من نعمه على الخلائق أجمعين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله أمر بإعلان النكاح ونهى عن الإسراف في نفقاته تبصرةً وذكرى للذاكرين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا نرجو أجرهما عند الله يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتزودوا ليوم معادكم بخير زاد، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له واعتصموا به فإنه - سبحانه - مولاكم نعم المولى ونعم النصير.
أيها المسلمون:
إن الاحتفاء بالنعم وإظهار السرور ربها والإعلان عنها والتحدث بها شكرًا لمسديها - سبحانه - وحمدًا له على المن به والإمتاع الحسن بنضرتها وبهجتها وكمال اللذة بها كل أولئك مما جاءت به الشريعة المكرمة وأذن فيه الشارع حكمةً منه ولطفًا وسيرًا مع الفطرة والطبيعة البشرية التي فطر الناس عليها.
وإن مما شرع لنا في مناسبة نعمة الله في الزواج:
إقامة وليمة النكاح ودعوة الناس إليها، وإكرامهم بما يقدم إليهم من قِرى وما يُجلَب لهم من مطاعم ومشارب؛ فقد جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه بإسناد حسن: عن عبد الله ابن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعلنوا هذا النكاح"، وأخرج الشيخان في صحيحيهما عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تزوج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولم ولو بشاة".
وإن ما وقع فيه كثيرٌ من الناس من مخالفات في احتفالهم بهذه المناسبة ضروبٌ وألوان مردها جميعًا إلى عدم القيام بما شرع الله وما يوافق هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أظهر ذلك:
الإسراف في الإنفاق على هذه الحفلات التي يتجلى في أوضح صوره في تعمد اختيار أغلى دور الأفراح ثمنًا، ويتجلى أيضًا في المبالغة في ألوان الطعام والشراب مقدرا ونوعا مما يفيض على الحاجة، وينتهي به الأمر إلى ما لا يليق بنعمةٍ يجب إكرامها والعناية بها؛ لا سيما وأن هناك من يطمح إليها أو إلى بعض منها ممن مستهم البأساء والضراء وعضه الجوع بنابه وعبست له الأيام.
ويتجلى كذلك في:
المبالغة في ملابس النساء بتعمد اختيار الأغلى ثمنًا والأرفع سعرًا والأحدث عرضًا في الأسواق، بل تجاوز ذلك إلى الولع بالأكثر عريًا وإظهارًا لما يجب أو يحسن ثمنه وإلى التنافس في هذا بينهن، والتسابق إلى بلوغ أقصى الغايات في ذلك أملا في الحظوة بالتفوق والتمتع بشعور التفرد والتميز، وكل هذا -ياعباد الله - مما تحول به المناسبة عن صحيح وضعها وتصرف به عن وجهها ويحيد بها عن مقصودها الذي شرعت له؛ فإن بركة النكاح ليست بكثرة الإنفاق، بل هي في تيسيره والقصد في إنفاقه.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير النكاح أيسره"؛ ولهذا عجب النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل أصدق امرأة أربع أواق قائلا: "أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل". أخرجه ابن حبان في صحيحه بسندٍ جيد، وهذا يا عباد الله فرعٌ عن النهي العام عن الإسراف الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول - سبحانه -: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف:31].
وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن الإسراف وإضاعة المال ما لا يصح إغفاله أو إغماض الجفن عنه.. فمن ذلك: ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير مخيلةٍ ولا سرف"، والمخيلة هي الخيلاء، وهو التكبر والترفع على عباد الله.
وجاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله - تعالى - يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثا؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".
عباد الله:
إن أولي الألباب وهم يستيقنون ضرر هذه المخالفات وسوء عاقبتها وقبح مآلها يعلمون أيضا أن الطريق إلى دفعها والسبيل إلى الخلاص منها بتذكر أن إظهار السرور بهذه النعمة وإعلانه يجب أن يقع وفق ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - غير حائد عنه ولا مستبدل غيره به، وإلا كان تنكرًا للنعمة وجحودًا لها واستعمالًا لها في غير ما جُعلت له.
وإن ما أعظم ما يعين على ذلك وييسره ويذلل سبيل نجاحه:
كمال الحرص على التزام الهدي النبوي في شأن الإنفاق عامةً وفي النكاح خاصةً بتأمل ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السنن وما شرعه في هذا الباب مما هو مسطرٌ مبثوثٌ في مشاهير دواوين الحديث النبوي والسيرة الشريفة؛ فإن هديه - عليه الصلاة والسلام - هو أحسن الهدي، وإن طريقه هي أكمل الطرق وأصوبها وأعظمها دلالةً على كل خير وأجمعها لكل هدى؛ ولذا جعل الله لنا فيه الأسوة الحسنة كما قال - سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ثم في أخذ وجهاء الناس وعلمائهم ورؤسائهم وذوي الفضل والأثر فيهم زمام المبادرة إلى هذا المسلك القويم وفي انتهاج هذا النهج المبارك وفي العمل بهذا الهدي الكريم أقوى العوامل وأبلغ الآثار في نقل هذه المعاني من معارف وأماني إلى واقعٍ حي يقدم الأنموذج ويضرب الأمثال، ويسن السنن الحسنة التي يكون لمن سنها ذلك الجزاء الضافي والأجر الكريم الذي بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء".
فاللهم اجعلنا جميعًا من العاملين بكتابك المهتدين بهدي نبيك - صلى الله عليه وسلم - المبتغين الوسيلة إلى مرضاتك والوصول إلى جناتك، واجعلنا اللهم من عبادك {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [سورة الزمر: 81].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
إن دين الله لما كان دين القسط والقصد وإن هذه الأمة لما كانت أمةً وسطا - أي عدلًا خيرا - فلا عجب أن ينهى الله المؤمنين على رذيلة الإسراف والتبذير كما ينهاهم عن رذيلة الشح والتقتير.. فيقول - عز من قائل -: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف: 31].
ويقول - عز اسمه - في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [سورة الفرقان: 67]، وقال - تقدست أسماؤه وصفاته: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [سورة الإسراء: 26-27]، وقال - عز وجل -: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [سورة الإسراء: 29].
إنه يا عباد الله:
تشريعٌ ربانيٌّ في الإنفاق ما أحكمه وما أعظمه، وما أجدر الخلائق كافةً أن يأخذوا به في كل شئونهم فتنتظم أمورهم وتزكو أموالهم وتطيب حياتهم ويحظوا برضوان ربهم.
فاتقوا الله عباد الله وصلوا وسلموا على خاتم رسل الله محمد بن عبد الله؛ فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث يقول الله - سبحانه -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر الآل والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك ياأكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم واجمع كلمتهم على الحق يارب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيئ له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى ياسميع الدعاء، اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يامن إليه المرجع يوم التناد.
اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً على كل خير سالمةً من كل شرٍّ وسائر بلاد المسلمين يارب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا يارب العالمين. اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا يارب العالمين ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنّا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بقومٍ فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
http://www.alukah.net/articles/1/7081.aspx
خطبة المسجد الحرام 24/7/1430 هـ
الشيخ أسامة بن عبدالله خياط
الحمد لله الذي أمر بالقصد في الإنفاق ولا يحب المسرفين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل النكاح آيةً من آياته ونعمةً من نعمه على الخلائق أجمعين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله أمر بإعلان النكاح ونهى عن الإسراف في نفقاته تبصرةً وذكرى للذاكرين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا نرجو أجرهما عند الله يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتزودوا ليوم معادكم بخير زاد، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له واعتصموا به فإنه - سبحانه - مولاكم نعم المولى ونعم النصير.
أيها المسلمون:
إن الاحتفاء بالنعم وإظهار السرور ربها والإعلان عنها والتحدث بها شكرًا لمسديها - سبحانه - وحمدًا له على المن به والإمتاع الحسن بنضرتها وبهجتها وكمال اللذة بها كل أولئك مما جاءت به الشريعة المكرمة وأذن فيه الشارع حكمةً منه ولطفًا وسيرًا مع الفطرة والطبيعة البشرية التي فطر الناس عليها.
وإن مما شرع لنا في مناسبة نعمة الله في الزواج:
إقامة وليمة النكاح ودعوة الناس إليها، وإكرامهم بما يقدم إليهم من قِرى وما يُجلَب لهم من مطاعم ومشارب؛ فقد جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه بإسناد حسن: عن عبد الله ابن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعلنوا هذا النكاح"، وأخرج الشيخان في صحيحيهما عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تزوج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولم ولو بشاة".
وإن ما وقع فيه كثيرٌ من الناس من مخالفات في احتفالهم بهذه المناسبة ضروبٌ وألوان مردها جميعًا إلى عدم القيام بما شرع الله وما يوافق هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أظهر ذلك:
الإسراف في الإنفاق على هذه الحفلات التي يتجلى في أوضح صوره في تعمد اختيار أغلى دور الأفراح ثمنًا، ويتجلى أيضًا في المبالغة في ألوان الطعام والشراب مقدرا ونوعا مما يفيض على الحاجة، وينتهي به الأمر إلى ما لا يليق بنعمةٍ يجب إكرامها والعناية بها؛ لا سيما وأن هناك من يطمح إليها أو إلى بعض منها ممن مستهم البأساء والضراء وعضه الجوع بنابه وعبست له الأيام.
ويتجلى كذلك في:
المبالغة في ملابس النساء بتعمد اختيار الأغلى ثمنًا والأرفع سعرًا والأحدث عرضًا في الأسواق، بل تجاوز ذلك إلى الولع بالأكثر عريًا وإظهارًا لما يجب أو يحسن ثمنه وإلى التنافس في هذا بينهن، والتسابق إلى بلوغ أقصى الغايات في ذلك أملا في الحظوة بالتفوق والتمتع بشعور التفرد والتميز، وكل هذا -ياعباد الله - مما تحول به المناسبة عن صحيح وضعها وتصرف به عن وجهها ويحيد بها عن مقصودها الذي شرعت له؛ فإن بركة النكاح ليست بكثرة الإنفاق، بل هي في تيسيره والقصد في إنفاقه.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير النكاح أيسره"؛ ولهذا عجب النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل أصدق امرأة أربع أواق قائلا: "أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل". أخرجه ابن حبان في صحيحه بسندٍ جيد، وهذا يا عباد الله فرعٌ عن النهي العام عن الإسراف الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول - سبحانه -: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف:31].
وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن الإسراف وإضاعة المال ما لا يصح إغفاله أو إغماض الجفن عنه.. فمن ذلك: ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير مخيلةٍ ولا سرف"، والمخيلة هي الخيلاء، وهو التكبر والترفع على عباد الله.
وجاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله - تعالى - يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثا؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".
عباد الله:
إن أولي الألباب وهم يستيقنون ضرر هذه المخالفات وسوء عاقبتها وقبح مآلها يعلمون أيضا أن الطريق إلى دفعها والسبيل إلى الخلاص منها بتذكر أن إظهار السرور بهذه النعمة وإعلانه يجب أن يقع وفق ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - غير حائد عنه ولا مستبدل غيره به، وإلا كان تنكرًا للنعمة وجحودًا لها واستعمالًا لها في غير ما جُعلت له.
وإن ما أعظم ما يعين على ذلك وييسره ويذلل سبيل نجاحه:
كمال الحرص على التزام الهدي النبوي في شأن الإنفاق عامةً وفي النكاح خاصةً بتأمل ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السنن وما شرعه في هذا الباب مما هو مسطرٌ مبثوثٌ في مشاهير دواوين الحديث النبوي والسيرة الشريفة؛ فإن هديه - عليه الصلاة والسلام - هو أحسن الهدي، وإن طريقه هي أكمل الطرق وأصوبها وأعظمها دلالةً على كل خير وأجمعها لكل هدى؛ ولذا جعل الله لنا فيه الأسوة الحسنة كما قال - سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ثم في أخذ وجهاء الناس وعلمائهم ورؤسائهم وذوي الفضل والأثر فيهم زمام المبادرة إلى هذا المسلك القويم وفي انتهاج هذا النهج المبارك وفي العمل بهذا الهدي الكريم أقوى العوامل وأبلغ الآثار في نقل هذه المعاني من معارف وأماني إلى واقعٍ حي يقدم الأنموذج ويضرب الأمثال، ويسن السنن الحسنة التي يكون لمن سنها ذلك الجزاء الضافي والأجر الكريم الذي بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء".
فاللهم اجعلنا جميعًا من العاملين بكتابك المهتدين بهدي نبيك - صلى الله عليه وسلم - المبتغين الوسيلة إلى مرضاتك والوصول إلى جناتك، واجعلنا اللهم من عبادك {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [سورة الزمر: 81].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
إن دين الله لما كان دين القسط والقصد وإن هذه الأمة لما كانت أمةً وسطا - أي عدلًا خيرا - فلا عجب أن ينهى الله المؤمنين على رذيلة الإسراف والتبذير كما ينهاهم عن رذيلة الشح والتقتير.. فيقول - عز من قائل -: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف: 31].
ويقول - عز اسمه - في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [سورة الفرقان: 67]، وقال - تقدست أسماؤه وصفاته: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [سورة الإسراء: 26-27]، وقال - عز وجل -: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [سورة الإسراء: 29].
إنه يا عباد الله:
تشريعٌ ربانيٌّ في الإنفاق ما أحكمه وما أعظمه، وما أجدر الخلائق كافةً أن يأخذوا به في كل شئونهم فتنتظم أمورهم وتزكو أموالهم وتطيب حياتهم ويحظوا برضوان ربهم.
فاتقوا الله عباد الله وصلوا وسلموا على خاتم رسل الله محمد بن عبد الله؛ فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث يقول الله - سبحانه -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر الآل والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك ياأكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم واجمع كلمتهم على الحق يارب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيئ له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى ياسميع الدعاء، اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يامن إليه المرجع يوم التناد.
اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً على كل خير سالمةً من كل شرٍّ وسائر بلاد المسلمين يارب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا يارب العالمين. اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا يارب العالمين ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنّا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بقومٍ فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
http://www.alukah.net/articles/1/7081.aspx
الإسراف
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل لعباده الأسماع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون، وأسدى عليهم أصناف النعم وسيحاسبهم عليها وعنها يسألون، فمن استعان بها على طاعة المنعم فأولئك هم المفلحون، ومن صرفها في معاصيه فأولئك هم الخاسرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي خُتِمت به الأنبياء والمرسلون، وبهديه وسيرته يهتدي المهتدون، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وأصحابه, أما بعد:
عباد الله:
حديثنا في هذه الخطبة سيكون حول مفهوم الإسراف وصوره, فما المقصود بالإسراف؟
الإسراف: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وهو في الإنفاق أشهر, يقول تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. فالإسراف يشمل كل تجاوز في الأمر، وقد جاء في القرآن الكريم على معانٍ متقاربة ترجع جميعها إلى الأصل اللغوي وهو التجاوز في الحد.
ويقول في شأن الإسراف في الذنوب والكفر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (53) سورة الزمر.
والإسراف صفة من صفات الكافرين؛ يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} (127) سورة طـه. وهو صفة من صفات الجبارين الذين يملكون بأيديهم السلطة والمال، يقول تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (83) سورة يونس. وقال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} (151) سورة الشعراء. والإسراف والتبذير يلتقيان في معنى الإنفاق بغير طاعة، ولكن الإسراف أعم من التبذير؛ لأن التبذير معناه التفريق, وأصله إلقاء البذر في الأرض, واستعير لكل مضيّع ماله، يقول تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (27) سورة الإسراء. والإسراف والسفه يلتقيان في معرض الغفلة والطيش وخفة النفس ونقصان العقل، وإن ما يحصل من السفيه في إنفاق المال بما لا يرضي الله ليبين الحقيقة في أن السفه سبب من أسباب الإسراف. ويختلف الإسراف عن الكرم رغم أن كلاً منهما عطاء، لكن الكرم يكون وفق أصول الشرع, مثل: إطعام الضيف، وإكرام الفقير، ومنه فإن البخل ضد الكرم, وليس ضد الإسراف وإنما الإسراف ضد الاعتدال والاستقامة، والإسراف قرين الكبر والمخيلة يظن المسرف أن له فضلاً بإسرافه، فيصيبه الكبر والبطر, والإسراف كما يكون من الغني، فقد يكون من الفقير أيضاً؛ لأن الإسراف في هذه الحالة أمر نسبي.
عباد الله:
لقد قدم الإسلام للبشرية منهجاً متكاملاً وتصوراً واضحاً عن طبيعة التصرف في جميع شئون الحياة، وبين بشكل واضح حدود الحلال والحرام فيها, ونهى عن الإسراف في شتى صوره, وإن أبشع صور الإسراف عندما يكون في معصية الله والتعدي على حدوده، فهو محرم بالإجماع, وأما الإنفاق في المباحات فيجب الالتزام بالعدل والاستقامة والتوسط فيها، حتى لا يتحول الإنفاق على المأكل والمشرب والملبس إلى البذخ والتفاخر والتعالي على الناس، بل إن أشر مواضع الإسراف أن تقام الولائم العظيمة ويدعى إليها الأغنياء، ويحرم منها الفقراء, وإن ما يلقى منها في الفضلات ليشبع خلقاً كثيراً من أهل الحاجة في مناطق المجاعة, وأما المبالغة في بذل المال طاعة لله وفي سبيله، فلا يكون إسرافاً, وإن كان هذا البذل مشروطاً بأن لا يضيع المنفق من يعول، ويذر ذريته عالة على الناس, وفي مجال العقوبات والحدود فإن الشرع قد أقر عقوبات محددة على أفعال معلومة، ولا يجوز التجاوز في تنفيذها عن حدها المقرر، وقد شدد الإسلام على الالتزام بهذا المنهج في قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (33) سورة الإسراء. أي لا يتجاوز في القتل إلى غير القاتل من إخوانه وأقربائه كما كان يفعل أهل الجاهلية قديماً، وكما هو الحال اليوم مع أهل الجهل حيث تنتشر أعمال الأخذ بالثأر التي تتعارض مع أحكام الإسلام.
أيها المسلمون:
من طبيعة البشر التوسعُ في النفقات، والمبالغة في الاستهلاك، وهدرُ الأموال عند أول شعور بالثراء واليسار، ولا يعرفون أي معنى لوفرة المال إذا لم يصاحبها استهلاك أكثر، ورفاهية وتمتع بالكماليات أوسع, وقد صرح القرآن بأن من طبيعة الإنسان السرف عند الجدة، وتجاوز حدود القصد والاعتدال, قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (6-7) سورة العلق. وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء} (27) سورة الشورى.
ولتهذيب الإنسان وتربيته أمر الله تعالى بالقصد في الأمور كلها حتى في أمور العبادات؛ كيلا يملها العبد؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)1. وضدُّ القصد السرف وهو منهي عنه كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. ومن دعاء عباد الله الصالحين: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (147) سورة آل عمران.
والإسراف في شراء الأطعمة وأكلها أو رميها من مواطن النهي الجلي في القرآن, قال تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (141) سورة الأنعام. وكذا الإسراف في الملابس والمراكب والأثاث وغيرها محرم كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)2.
أيها المسلمون:
قد يتساءل متسائل: لماذا ينهى عن السرف, ولماذا هذا التشديد في النهي عن السرف؟ فالجواب أنه ما كان ذلك إلا لأجل الحفاظ على الأموال والموارد التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة؛ فهو يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ والسرف يعارض حفظ المال، بل يتلفه ويؤدي إلى إفقار نفسه ومن ثم إفقار أهل بيته وقرابته وأمته، والله تعالى كره لنا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
إن حفظ المال فيه حفظ الدين والعرض والشرف, والأمم التي لا تمتلك المال لا يحترمها الآخرون، والشخص الذي ليس له قوة من مال أو جاه لا ينظر الناس إليه ولا يأبهون به، ومن أجل ذلك قال الحكماء: من حفظ ماله فقد حفظ الأكرميْن: الدين والعرض.
أيها الناس:
إن الشريعة الإسلامية لم تحرم اكتساب الأموال ونماءها والتزود منها، بل حضت على ذلك, ولكنها حرمت الطرق المحرمة في كسبها وإنفاقها, وإن من الطرق المحرمة في إنفاقها السرف فيها وإهدارها بغير حق، إما في سفر باذخ محرم، وإما في حفلة زواج باهظة الثمن, ولو تأملنا فيما ينفق من أموال على السفر إلى بلاد الكفر والفجور لوجدناه يعدل ميزانيات دول كاملة، وما ينفق على حفلات الأعراس التي يلقى فائض أطعمتها في النفايات يساهم في إنقاذ الملايين ممن يموتون جوعاً، وفي كل عام يموت الآلاف من البشر جوعاً؛ فهل من حفظ المال هدره بأي طريقة؟ وهل من شكر الله تعالى على نعمته إنفاقه فيما يسخطه سبحانه وتعالى؟!
فاتقوا الله عباد الله واقتدوا بسلف الأمة الذين لم يكن من هديهم الإسراف وتضييع الأموال؛ بل كانوا مقتصدين ينفقون أموالهم في الحق، ويحفظونها عن الإنفاق فيما لا فائدة فيه, قال الحسن -رحمه الله-: "كانوا في الرحال مخاصيب، وفي الأثاث والثياب مجاديب". أي : ما كانوا يعتنون بالتوسعة في أثاث البيت من فرش ووسائد وغيره، وفي ثياب اللبس وما يجري مجراها كما يتوسعون في الإنفاق على الأهل". لقد كانوا -رحمهم الله- مع زهدهم وورعهم يعتنون بقليل المال ولا يحتقرون منه شيئاً مع اقتصاد في المعيشة والنفقة؛ ولذا كان القليل من المال يكفيهم, وقد أبصرت أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- حبة رمان في الأرض فأخذتها وقالت: إن الله لا يحب الفساد.
اللهم إنا نعوذ بك من الإسراف والإفساد في الأرض، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي دبر عباده في كل أمورهم أحسن تدبير، ويسر لهم أحوال المعيشة وأمرهم بالاقتصاد ونهاهم عن الإسراف والتقتير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، اللهم صل وسلم وبارك على محمد ، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا طرق الاعتدال والتيسير.
أيها المسلمون:
إن السرف في الإنفاق في العصور المتأخرة تحوَّل من سلوك فردي لدى بعض التجار والواجدين إلى ظاهرة عامة تجتاح الأمة كلها؛ فالواجد يسرف، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات وما لا يحتاجون إليه، وهذا من إفرازات الرأسمالية العالمية التي أقنعت الناس بذلك عبر الدعاية والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.
إن المذاهب الرأسمالية ترى أن المحرك الأساس للإنتاج هو الطلب ؛ فحيثما وجد الطلب وجد الإنتاج، ومن ثم فإن الإعلانات التجارية تتولى فتح شهية المستهلك للاستهلاك، وتلقي في روعه أنه إذا لم يستهلك السلع المعلن عنها فسيكون غير سعيد، وغير فعال، وسيظهر بمظهر غير لائق، وهذا كله جعل الناس يلهثون خلف سلع كمالية، ويبكون عليها كما يبكي المولود في طلب الرضاعة, وأضحى رب الأسرة المستورة يستدين بالربا من البنوك لتلبية رغبة أسرته في السفر للخارج، أو لإقامة حفلة زواج لابنه أو ابنته تليق بواقع الناس، وهكذا يقال في العمران والأثاث والمراكب والملابس والمطاعم وغيرها, بينما منهج الإسلام تربية الناس لا على الاستهلاك وإنما على الاستغناء عن الأشياء بدل الاستغناء بها حتى لا تستعبدهم المادة كما هو حال كثير من الناس اليوم؛ إذ أصبحوا منساقين بلا إرادة ولا تبصُّر إلى الإسراف وهدر الأموال فيما لا ينفع تقليداً للغير.
عبد الله:
هل من معاني الأخوة في الدين أن تستمتع بما أعطاك الله فيما حُرِّم عليك وأنت ترى مآسي إخوانك المسلمين؟! ولو لم يوجد مسلم على وجه الأرض يحتاج إلى جزء من مالك يسدُّ رمقه ويبقي على حياته لمَا حَسُن بك أن تهدر مالك في غير نفع؛ فكيف والمسلمون في كل يوم يموت منهم العشرات بل المئات من جراء التجويع والحصار والحرمان؟! إن عدم الاهتمام بذلك قد يكون سبباً للعقوبة وزوال الأموال، وإفقار الناس؛ حتى يتمنوا ما كانوا يُلقون بالأمس في النفايات -عياذاً بالله- وكم يمر بالناس من عبر في ذلك ولكن قلَّ من يعتبر؛ فكم من أسر افتقرت من بعد الغنى؟! وكم من دول بطرت شعوبها وأسرفت على نفسها فابتلاها الله بالحروب والفتن التي عصفت بها، فتمنى أفرادها بعض ما كانوا يملكون من قبل؟! والتاريخ مليء بأحداث من هذا النوع؛ فالمعتمد بن عَبَّاد -رحمه الله- كان من ملوك الأندلس، ويملك الأموال الطائلة، والقصور العظيمة، ولما اشتهت زوجته وبعض بناته أن يتخوَّضن في الطين أمر بالعنبر والعود فوضع في ساحة قصره، ورُشَّ عليه ماء الورد وأنواع من الطيب ، وعُجِن حتى صار مثل الطين؛ فتخوَّضت فيه أسرته المترفة, وما ماتت تلك الأسرة المترفة حتى ذاقت طعم الفقر وألم الجوع ؛ إذ استولى "يوسف بن تاشفين" على مملكة ابن عباد، وكان النسوة اللائي تخوَّضن في العود والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من غزل الصوف بأيديهن الذي لا يسد إلا بعض جوعهن. وهذا أبو عبد الله الزغل من آخر ملوك غرناطة الأندلسية باع أملاكه فيها بعد أن استولى عليها النصارى، وحمل مالاً عظيماً قُدِّر بخمسة ملايين من العملة المعروفة آنذاك, ورحل إلى إفريقيا, فقُبِض عليه وصودرت أمواله، وسُملت عينيه, ورمي في السجن بسبب بيعه غرناطة للنصارى وتخليه عنها، ولما خرج من السجن لم يجد من يطعمه ويؤويه، فأخذ يستعطي الناس في الأسواق، ويطوف وعلى ثيابه رق غزال مكتوب عليه: "هذا سلطان الأندلس العاثر المجد" لعل من يراه يرحمه ويعطيه بعض المال.
لقد أبان لنا التاريخ عاقبة المسرفين كانت ذلاً وخسراً؛ فواجب علينا أن لا نطغى إذا أُعطينا؛ بل نشكر المنعم سبحانه بتسخير نعمه لطاعته والاقتصاد في الإنفاق؛ فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة، وهو سبب حفظ المال3.
اللهم احفظ علينا نعمك، ووفقنا لشكرك وطاعتك، وأعنَّا على ذكرك وحسن عبادتك، واجعل ما أنعمت به علينا من الخيرات معينة على ما أمرتنا به من الطاعات, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.
1 رواه البخاري -5982- (20/99).
2 رواه البخاري تعليقاً والنسائي -2512- (8/336) وأحمد -6408- (13/446) وحسنه العلّامة الألباني في تحقيق سنن النسائي برقم (2559).
3مستفادة بتصرف من: مجلة البيان العدد -24- جمادى الثانية 1410هـ, والعدد -183- ذوالقعدة 1423هـ.
http://www.alimam.ws/ref/390
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل لعباده الأسماع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون، وأسدى عليهم أصناف النعم وسيحاسبهم عليها وعنها يسألون، فمن استعان بها على طاعة المنعم فأولئك هم المفلحون، ومن صرفها في معاصيه فأولئك هم الخاسرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي خُتِمت به الأنبياء والمرسلون، وبهديه وسيرته يهتدي المهتدون، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وأصحابه, أما بعد:
عباد الله:
حديثنا في هذه الخطبة سيكون حول مفهوم الإسراف وصوره, فما المقصود بالإسراف؟
الإسراف: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وهو في الإنفاق أشهر, يقول تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. فالإسراف يشمل كل تجاوز في الأمر، وقد جاء في القرآن الكريم على معانٍ متقاربة ترجع جميعها إلى الأصل اللغوي وهو التجاوز في الحد.
ويقول في شأن الإسراف في الذنوب والكفر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (53) سورة الزمر.
والإسراف صفة من صفات الكافرين؛ يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} (127) سورة طـه. وهو صفة من صفات الجبارين الذين يملكون بأيديهم السلطة والمال، يقول تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (83) سورة يونس. وقال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} (151) سورة الشعراء. والإسراف والتبذير يلتقيان في معنى الإنفاق بغير طاعة، ولكن الإسراف أعم من التبذير؛ لأن التبذير معناه التفريق, وأصله إلقاء البذر في الأرض, واستعير لكل مضيّع ماله، يقول تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (27) سورة الإسراء. والإسراف والسفه يلتقيان في معرض الغفلة والطيش وخفة النفس ونقصان العقل، وإن ما يحصل من السفيه في إنفاق المال بما لا يرضي الله ليبين الحقيقة في أن السفه سبب من أسباب الإسراف. ويختلف الإسراف عن الكرم رغم أن كلاً منهما عطاء، لكن الكرم يكون وفق أصول الشرع, مثل: إطعام الضيف، وإكرام الفقير، ومنه فإن البخل ضد الكرم, وليس ضد الإسراف وإنما الإسراف ضد الاعتدال والاستقامة، والإسراف قرين الكبر والمخيلة يظن المسرف أن له فضلاً بإسرافه، فيصيبه الكبر والبطر, والإسراف كما يكون من الغني، فقد يكون من الفقير أيضاً؛ لأن الإسراف في هذه الحالة أمر نسبي.
عباد الله:
لقد قدم الإسلام للبشرية منهجاً متكاملاً وتصوراً واضحاً عن طبيعة التصرف في جميع شئون الحياة، وبين بشكل واضح حدود الحلال والحرام فيها, ونهى عن الإسراف في شتى صوره, وإن أبشع صور الإسراف عندما يكون في معصية الله والتعدي على حدوده، فهو محرم بالإجماع, وأما الإنفاق في المباحات فيجب الالتزام بالعدل والاستقامة والتوسط فيها، حتى لا يتحول الإنفاق على المأكل والمشرب والملبس إلى البذخ والتفاخر والتعالي على الناس، بل إن أشر مواضع الإسراف أن تقام الولائم العظيمة ويدعى إليها الأغنياء، ويحرم منها الفقراء, وإن ما يلقى منها في الفضلات ليشبع خلقاً كثيراً من أهل الحاجة في مناطق المجاعة, وأما المبالغة في بذل المال طاعة لله وفي سبيله، فلا يكون إسرافاً, وإن كان هذا البذل مشروطاً بأن لا يضيع المنفق من يعول، ويذر ذريته عالة على الناس, وفي مجال العقوبات والحدود فإن الشرع قد أقر عقوبات محددة على أفعال معلومة، ولا يجوز التجاوز في تنفيذها عن حدها المقرر، وقد شدد الإسلام على الالتزام بهذا المنهج في قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (33) سورة الإسراء. أي لا يتجاوز في القتل إلى غير القاتل من إخوانه وأقربائه كما كان يفعل أهل الجاهلية قديماً، وكما هو الحال اليوم مع أهل الجهل حيث تنتشر أعمال الأخذ بالثأر التي تتعارض مع أحكام الإسلام.
أيها المسلمون:
من طبيعة البشر التوسعُ في النفقات، والمبالغة في الاستهلاك، وهدرُ الأموال عند أول شعور بالثراء واليسار، ولا يعرفون أي معنى لوفرة المال إذا لم يصاحبها استهلاك أكثر، ورفاهية وتمتع بالكماليات أوسع, وقد صرح القرآن بأن من طبيعة الإنسان السرف عند الجدة، وتجاوز حدود القصد والاعتدال, قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (6-7) سورة العلق. وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء} (27) سورة الشورى.
ولتهذيب الإنسان وتربيته أمر الله تعالى بالقصد في الأمور كلها حتى في أمور العبادات؛ كيلا يملها العبد؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)1. وضدُّ القصد السرف وهو منهي عنه كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. ومن دعاء عباد الله الصالحين: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (147) سورة آل عمران.
والإسراف في شراء الأطعمة وأكلها أو رميها من مواطن النهي الجلي في القرآن, قال تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (141) سورة الأنعام. وكذا الإسراف في الملابس والمراكب والأثاث وغيرها محرم كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)2.
أيها المسلمون:
قد يتساءل متسائل: لماذا ينهى عن السرف, ولماذا هذا التشديد في النهي عن السرف؟ فالجواب أنه ما كان ذلك إلا لأجل الحفاظ على الأموال والموارد التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة؛ فهو يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ والسرف يعارض حفظ المال، بل يتلفه ويؤدي إلى إفقار نفسه ومن ثم إفقار أهل بيته وقرابته وأمته، والله تعالى كره لنا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
إن حفظ المال فيه حفظ الدين والعرض والشرف, والأمم التي لا تمتلك المال لا يحترمها الآخرون، والشخص الذي ليس له قوة من مال أو جاه لا ينظر الناس إليه ولا يأبهون به، ومن أجل ذلك قال الحكماء: من حفظ ماله فقد حفظ الأكرميْن: الدين والعرض.
أيها الناس:
إن الشريعة الإسلامية لم تحرم اكتساب الأموال ونماءها والتزود منها، بل حضت على ذلك, ولكنها حرمت الطرق المحرمة في كسبها وإنفاقها, وإن من الطرق المحرمة في إنفاقها السرف فيها وإهدارها بغير حق، إما في سفر باذخ محرم، وإما في حفلة زواج باهظة الثمن, ولو تأملنا فيما ينفق من أموال على السفر إلى بلاد الكفر والفجور لوجدناه يعدل ميزانيات دول كاملة، وما ينفق على حفلات الأعراس التي يلقى فائض أطعمتها في النفايات يساهم في إنقاذ الملايين ممن يموتون جوعاً، وفي كل عام يموت الآلاف من البشر جوعاً؛ فهل من حفظ المال هدره بأي طريقة؟ وهل من شكر الله تعالى على نعمته إنفاقه فيما يسخطه سبحانه وتعالى؟!
فاتقوا الله عباد الله واقتدوا بسلف الأمة الذين لم يكن من هديهم الإسراف وتضييع الأموال؛ بل كانوا مقتصدين ينفقون أموالهم في الحق، ويحفظونها عن الإنفاق فيما لا فائدة فيه, قال الحسن -رحمه الله-: "كانوا في الرحال مخاصيب، وفي الأثاث والثياب مجاديب". أي : ما كانوا يعتنون بالتوسعة في أثاث البيت من فرش ووسائد وغيره، وفي ثياب اللبس وما يجري مجراها كما يتوسعون في الإنفاق على الأهل". لقد كانوا -رحمهم الله- مع زهدهم وورعهم يعتنون بقليل المال ولا يحتقرون منه شيئاً مع اقتصاد في المعيشة والنفقة؛ ولذا كان القليل من المال يكفيهم, وقد أبصرت أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- حبة رمان في الأرض فأخذتها وقالت: إن الله لا يحب الفساد.
اللهم إنا نعوذ بك من الإسراف والإفساد في الأرض، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي دبر عباده في كل أمورهم أحسن تدبير، ويسر لهم أحوال المعيشة وأمرهم بالاقتصاد ونهاهم عن الإسراف والتقتير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، اللهم صل وسلم وبارك على محمد ، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا طرق الاعتدال والتيسير.
أيها المسلمون:
إن السرف في الإنفاق في العصور المتأخرة تحوَّل من سلوك فردي لدى بعض التجار والواجدين إلى ظاهرة عامة تجتاح الأمة كلها؛ فالواجد يسرف، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات وما لا يحتاجون إليه، وهذا من إفرازات الرأسمالية العالمية التي أقنعت الناس بذلك عبر الدعاية والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.
إن المذاهب الرأسمالية ترى أن المحرك الأساس للإنتاج هو الطلب ؛ فحيثما وجد الطلب وجد الإنتاج، ومن ثم فإن الإعلانات التجارية تتولى فتح شهية المستهلك للاستهلاك، وتلقي في روعه أنه إذا لم يستهلك السلع المعلن عنها فسيكون غير سعيد، وغير فعال، وسيظهر بمظهر غير لائق، وهذا كله جعل الناس يلهثون خلف سلع كمالية، ويبكون عليها كما يبكي المولود في طلب الرضاعة, وأضحى رب الأسرة المستورة يستدين بالربا من البنوك لتلبية رغبة أسرته في السفر للخارج، أو لإقامة حفلة زواج لابنه أو ابنته تليق بواقع الناس، وهكذا يقال في العمران والأثاث والمراكب والملابس والمطاعم وغيرها, بينما منهج الإسلام تربية الناس لا على الاستهلاك وإنما على الاستغناء عن الأشياء بدل الاستغناء بها حتى لا تستعبدهم المادة كما هو حال كثير من الناس اليوم؛ إذ أصبحوا منساقين بلا إرادة ولا تبصُّر إلى الإسراف وهدر الأموال فيما لا ينفع تقليداً للغير.
عبد الله:
هل من معاني الأخوة في الدين أن تستمتع بما أعطاك الله فيما حُرِّم عليك وأنت ترى مآسي إخوانك المسلمين؟! ولو لم يوجد مسلم على وجه الأرض يحتاج إلى جزء من مالك يسدُّ رمقه ويبقي على حياته لمَا حَسُن بك أن تهدر مالك في غير نفع؛ فكيف والمسلمون في كل يوم يموت منهم العشرات بل المئات من جراء التجويع والحصار والحرمان؟! إن عدم الاهتمام بذلك قد يكون سبباً للعقوبة وزوال الأموال، وإفقار الناس؛ حتى يتمنوا ما كانوا يُلقون بالأمس في النفايات -عياذاً بالله- وكم يمر بالناس من عبر في ذلك ولكن قلَّ من يعتبر؛ فكم من أسر افتقرت من بعد الغنى؟! وكم من دول بطرت شعوبها وأسرفت على نفسها فابتلاها الله بالحروب والفتن التي عصفت بها، فتمنى أفرادها بعض ما كانوا يملكون من قبل؟! والتاريخ مليء بأحداث من هذا النوع؛ فالمعتمد بن عَبَّاد -رحمه الله- كان من ملوك الأندلس، ويملك الأموال الطائلة، والقصور العظيمة، ولما اشتهت زوجته وبعض بناته أن يتخوَّضن في الطين أمر بالعنبر والعود فوضع في ساحة قصره، ورُشَّ عليه ماء الورد وأنواع من الطيب ، وعُجِن حتى صار مثل الطين؛ فتخوَّضت فيه أسرته المترفة, وما ماتت تلك الأسرة المترفة حتى ذاقت طعم الفقر وألم الجوع ؛ إذ استولى "يوسف بن تاشفين" على مملكة ابن عباد، وكان النسوة اللائي تخوَّضن في العود والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من غزل الصوف بأيديهن الذي لا يسد إلا بعض جوعهن. وهذا أبو عبد الله الزغل من آخر ملوك غرناطة الأندلسية باع أملاكه فيها بعد أن استولى عليها النصارى، وحمل مالاً عظيماً قُدِّر بخمسة ملايين من العملة المعروفة آنذاك, ورحل إلى إفريقيا, فقُبِض عليه وصودرت أمواله، وسُملت عينيه, ورمي في السجن بسبب بيعه غرناطة للنصارى وتخليه عنها، ولما خرج من السجن لم يجد من يطعمه ويؤويه، فأخذ يستعطي الناس في الأسواق، ويطوف وعلى ثيابه رق غزال مكتوب عليه: "هذا سلطان الأندلس العاثر المجد" لعل من يراه يرحمه ويعطيه بعض المال.
لقد أبان لنا التاريخ عاقبة المسرفين كانت ذلاً وخسراً؛ فواجب علينا أن لا نطغى إذا أُعطينا؛ بل نشكر المنعم سبحانه بتسخير نعمه لطاعته والاقتصاد في الإنفاق؛ فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة، وهو سبب حفظ المال3.
اللهم احفظ علينا نعمك، ووفقنا لشكرك وطاعتك، وأعنَّا على ذكرك وحسن عبادتك، واجعل ما أنعمت به علينا من الخيرات معينة على ما أمرتنا به من الطاعات, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.
1 رواه البخاري -5982- (20/99).
2 رواه البخاري تعليقاً والنسائي -2512- (8/336) وأحمد -6408- (13/446) وحسنه العلّامة الألباني في تحقيق سنن النسائي برقم (2559).
3مستفادة بتصرف من: مجلة البيان العدد -24- جمادى الثانية 1410هـ, والعدد -183- ذوالقعدة 1423هـ.
http://www.alimam.ws/ref/390
الإسراف والتبذير
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
25/3/1409
سعيد الجندول
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
25/3/1409
سعيد الجندول
[URL="http://javascript:OpenWindow('frame0.asp?mediaURL=9652&SubSubjectID=61-88')"][/URL][URL="http://javascript:OpenWindow('print.asp?mediaURL=9652')"][/URL]
ملخص الخطبة
1- شمول الإسلام جميع مناحي الحياة. 2- كثرة النعم وقلة الشكر. 3- كفر النعم يستلزم منعها. 4- صور للإسراف في مجتمعات المسلمين. 5- حث الإسلام على الاقتصاد والترشيد في الاستهلاك. 6- نعمة الماء والاقتصاد فيها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ أمةَ الإسلامِ أمةَ محمدٍ خيرُ أمة أخرجت للناس، أمةٌ وسط، شهيدة على الناس، هذا ما أخبر به ربنا عز وجل عن هذه الأمة المسلمة في وحي يُتْلَى إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران: 110]، وكما قال سبحانه: وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وكما قال سبحانه: وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَـٰكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ [الحج: 78].
هذه الخيرية والوسطية في أمة مؤمنة يحمدون الله في السراء والضراء، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، قرآنهم في صدورهم، رهبان بالليل، فرسان بالنهار، يجاهدون في سبيل الله بالأموال والأنفس والنصيحة الخالصة الصادقة بالقلم واللسان، لا يخافون لَوْمَةَ لاَئِمٍ، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور وتبصير عباد الله بالإسلام على الطريقة الصحيحة الواضحة والعقيدة الصافية النقية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
تنبعُ خَيْرِيَّةُ هذه الأمة وتتأكد وَسَطِيَّتُهَا في دينها الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة، فهو يشمل جميع مناحي الحياة في العبادات والمعاملات والأخلاق وخلافها، لو استعرضنا خيرية الأمة الإسلامية ووسطيتها في بعض النواحي من خلال إشارات وأدلة من الكتاب والسنة لطال بنا المقام، فكيف لو كان لأمور متعددة من أولها جميعًا؟! إنه يحتاج إلى سنوات لما نقله الأئمة الأعلام حول الآيات والأحاديث المبينة لذلك في أقصر العبارات وأوجزها وأجملها وأوضحها وأبينها إعجازًا، وما هذا التقديم إلا لمعرفة جزء يسير من خيرية الإسلام والأمة المسلمة ووسطيتها وتوسطها واعتدالها وما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة في هذا الأمر وفي غيره في حياته كلها وتطبيقه لأحكام الإسلام ووضع النقاط على الحروف؛ ليبحث كُلٌّ بنفسه ويقف عند آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول .
إن نعم الله علينا عظيمة وكثيرة، فهي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى كما قال الله تبارك وتعالى في محكم آيات القرآن الكريم: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، وفي الآية الأخرى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18]. ولو تدبرنا وتأملنا هاتين الآيتين في سُورَتَيْ إبراهيم والنحل وقد جاءت بعد بيان تسخير الله عز وجل لنا الأشياء في هذا الكون، ولو تذكرنا غفلتنا وذهولنا عن معظم ما في هذا الكون الفسيح وعما في أنفسنا وما يحيط بنا وعن مدى تقصيرنا في هذا وفي غيره من أمور عباداتنا وتطبيقنا لإسلامنا، لو فعلنا ذلك لسجدنا لله شكرًا وذَلَّتْ رقابُنا لعظمة الله وخضعنا وتواضعنا لعباد الله وعرف كلٌّ منا قَدْرَ نفسِه وعمل بطاعة ربه وانتهى عن المعاصي والآثام وعمل بسنة خير الأنام محمد بن عبد الله ، عندها تتغير الأحوال إلى الأفضل والأحسن بإذن الله عز وجل، وعندما يكون العكس حيث الذهول والغفلة والإعراض وانتهاك المحرمات وقلة الطاعات فإن التغيير إلى الأسوأ سوف يكون بقدرة الله وإرادته ومشيئته وحسب سُنَنِهِ الكونية التي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد: 11]، وقال عز وجل: ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وقال عز وجل: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـٰهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 53-55]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112]. ولو أوردت الآيات عن سبأ وقارون فقط وقرأتها عليكم لاحتجنا وقتًا يطول على السامعين، ولا أعتقد أنهم يَمَلُّونَ استماع أو تلاوة كلام رب العالمين بإذن الله تبارك وتعالى.
إن مظاهر الإسراف والتبذير والترف والبذخ مع عدم الشكر وكفران النعمة مُنْذِرَةٌ بالخطر، ليس على الواقعين فيها فقط، بل العقاب ينزل على الجميع، ولو تأملنا هذه الآيات لوجدناها كأنما أُنْزِلَتِ الآن، وهي تُصَوِّرُ واقعَنا وتنذر عاقبة أمرنا وتذكرنا بما جَنَيْنَا وما كنا عليه، قال تعالى: يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 24-26].
الإسراف: مجاوزة الحد أيًّا كان، وهو يشمل أمورًا عدة في حياة البشر من مأكل ومشرب ونوم ويقظة وكلام ومحبة وكراهية وضحك وانفعال وتعامل مع الإنسان والحيوان والطير والنبات والجماد، وكذلك العبادات من وضوء وطهارة وصلاة وصدقة وصيام وغيرها. والحديث هنا عن الإسراف في الأموال وسوء التصرف فيها، وهو نوعان:
الأول: إسراف في النفقة والإنفاق وهو التبذيرُ المنهيُّ عنه ومجاوزة الحد حتى في الصدقة، قال تعالى: وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وقال عز وجل: وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141]. وقال لمن أراد الصدقة عمومًا أو الوقف لينتفع به في الدار الآخرة: ((الثلث، والثلث كثير، لأَن تذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يَتَكَفَّفُونَ الناس)).
والنوع الثاني: الإسراف في الاستهلاك في الأكل والشرب وضروريات الحياة ومباحاتها، مع أن الله أباح لعباده الطيبات والحلال من المأكل والمشرب ولكنه نهاهم عن الإسراف وتجاوز الحد؛ لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم ودينهم ودنياهم.
ولنتأمل الحديثين التاليين حيث أخذ أعداء الإسلام منهما قاعدة لصحة أبدانهم وقد تركها أكثر المسلمين، فالطب مجموع في ثلاث كلمات لا غنى للمرء عن أحدها، ولو خالفها لاعْتَلَّتْ صِحَّتُهُ وقُوَاهُ وربما أَوْدَتْ بحياته، جاء ذلك في الآيات والأحاديث التالية: قال تعالى: وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وقال عز وجل عن عباد الرحمن الذين عدد صفاتهم: وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]، وقال : ((ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شرًا من بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدم لُقَيْمَات يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإن كان لا بد فاعلاً فَثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِهِ))، وقال : ((نحن قوم لا نأكلُ حتى نَجُوعَ، وإذا أكلنا لا نَشْبَعُ)) أي: لا يُدْخِلُونَ الطعامَ على الطعامِ مع الشبع لما فيه من إفساد الثاني لما قبله، وإذا أكلوا لا يملؤون بطونهم حتى يُتْخِمُوها بالطعام ويصلوا إلى الشّبَعِ الْمُفْرِطِ.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله .
أما بعد: فإن المسلم الحق معتدل متوسّط مقتصد في أموره كلها، لا إِفْرَاطَ ولا تَفْرِيطَ، لا غُلُوَّ ولا مُجَافَاةَ، لا إسرافَ ولا تَقْتِيرَ؛ لأنه ينطلق في ذلك من تعاليم الإسلام التي تأمره بالاعتدال والتوازن والاقتصاد في جميع الأمور، وتنهاه عن الإسراف والتبذير ومجاوزة الحد حتى ولو كان في الاقتصاد الذي يصل إلى حد التقتير، ولا ينتظر توجيهات البشر لأنه يفعل هذه الأمور طاعةً لله عز وجل وقُرْبَةً إليه رجاء الثواب من عند الله سبحانه وتعالى وخوفًا من عقابه ومحبةً له عز وجل، وإذا جاءت الدعوة لأمرٍ ما من ولاة الأمر فإن الأمر لديه عاديٌّ جدًا لأنه عاملٌ به مُنَفِّذٌ له ولا يستغربه ولا يستصعبه أبدًا ولا يستثقله، بعكس الجاهل بتعاليم الإسلام أو المسرف الذي لا يحسب لأمر دينه أي حساب.
والإسراف يُخْشَى على الجميع منه لأن فتنته وضرره يصل الجميع، كما قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]. وكما حذر سبحانه من أن ترك أمر الخاصة الظاهر وعدم النهي عنه سوف يصيب العامة كما في قوله تعالى: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] أي: أنها سوف تصيب العامَّة ولا تقتصر على أصحاب المعاصي والمنكرات والآثام، ولنأخذ بعض الأمثلة التي تتردد الدعوة حولها لترشيد الاستهلاك فيها:
ومنها: الماء، فالمسلم مأمور بالاقتصاد فيه حتى في أمر الطهارة التي منها الوضوء والاغتسال ولو كان أحدنا على شاطئ نَهْرٍ جَارٍ، وهَدْيُ رسولنا محمد واضحٌ في هذا وغيره، فقد كان يغتسل بالصَّاعِ ويتوضَّأُ بالْمُدِّ، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء كَفَّي الإنسان المعتدلِ الْخِلْقَةِ. فهل أحد يطبق هذه السنة النبوية أو يقترب منها في هذا الزمان إلا من وفقه الله عز وجل نظرًا لوجود المسابح الموجودة في دورات المياه المسماة بالمغاطس والدشوش المتنوعة والمغاسل التي هي أجزاء مساعدة على الإسراف وأيضًا صناديق الطرد المسماة بالسيفونات، ولو استعمل شخص عاقل الأباريق بدل تلك الصناديق أو في الوضوء عند المغسلة ووضوئه عليها والاغتسال في الحمام لئلا يسرف في الماء لَوُصِفَ بالتخلف والجنون، مع أن القائلين بذلك هم الذين يستحقون ذلك الوصف.
وقد مَرَّ رسولُ الله على أحد الصحابة وهو يتوضأ فقال له: ((لا تسرف في الماء))، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: ((نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ))، وقال : ((إن للوضوء شيطانًا يُقَالُ له: الْوَلْهَان، فاتقوا وَسْوَاسَ الماء)).
وعندما يرى المسلم إخوانه المسلمين في أماكن الوضوء في المساجد يشاهد من الأمر عَجَبًا في إهدار الماء وفتحه من مصادره ومحابسه إلى أعلى الدرجات حتى والشخص يَكُفُّ ثيابَه وملابسَه نجد الماءَ مُهْدَرًا نافذًا إلى مجاري الصرف وكأنهم لا يَعُونَ ولا يعلمون شيئًا من سنة رسولهم محمد حيث يتوضأ أحدهم بأكثر من مائة مرة عن القدر الذي عليه هدي رسول الله ، وحالهم في الاغتسال أعظم وأكثر مع وجود ما يساعدهم على الإسراف مما تحويه دورات المياه. أما الْمُتْرَفُونَ الذين تَحْوِي قصورُهم ومساكنُهم المسابحَ التي تتسع لعشرات الأطنان بل المئات فَحَدِّثْ عنهم ولا حرج، حيث التغيير والتبديل الأسبوعي للماء إن لم يكن اليومي لدى كثير منهم وإهدار الماء الصالح للشرب؛ لأن الجميع لم يتعب فيه ولم يدفع مقابله إلا قيمةً تافهةً، هذا إِنْ دُفِعَتْ، مع أن الكثير لا يعلم عنها شيئًا، ولو أن عامة الناس قاموا بدفع التكلفة الحقيقية للطن الواحد الذي يصل إليهم بمبلغ أربعة ريالات بدلاً من قرشين لشعروا بقيمة الماء مع أنهم يشترون ماء الشرب بما يعادل ألفي ريال للطن الواحد، ولا يضيق أحدهم ذرعًا بما يدفعه ولا يَتَبَرَّمُ. أما زيادة السعر عن القرشين في الطن الواحد للماء الواصل إلى المنازل عبر الأنابيب فهو أمر صعب على النفوس التي لا تقدّر هذه النعمة، ولو وُضِعَتْ شرائحُ للاستهلاك بدلاً من المعمول به لعرف الناس قيمة الماء ومقدار النعمة الكبرى التي ينعمون بها، سواء صغار المستهلكين أو المترفين، كل يوضع له السعر المناسب للحد من الإسراف ولكي يُسْتَفَادَ من عائد الدخل في عمل مشاريع لآخَرِينَ يُعَانُون من عدم وصول الماء النقي إليهم وانعدامه عنهم ونُضُوبِ الماء العادي لديهم وقِلَّتِهِ، فضلاً عن حُلْمِهِمْ بوجود مثل هذا الماء النقي الذي ينعم به أهل المدن.
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويتقي ربه، وإذا بدأت المحاسبة تأتي النتائج المثمرة بإذن الله، وهي تبدأ من هؤلاء الأشخاص ومن الرجال المسؤولين في بيوتهم والنساء ومراقبة الخادمات اللائي هن أكبر مصدر لإهدار المياه حيث تفتح إحداهن مصدر المياه (الصنبور) إلى آخر شيء ليغسل ويزيل عن الأواني والأدوات المستعملة في الطبخ والأكل والشرب ما عَلِقَ بها مع أقلّ كُلْفَةٍ عليها في مَدِّ يدها واستعمالها لها، ثم الترشيد من الأغنياء والكفّ عن العبث بالماء في المسابح وأشجار الزينة ونباتاتها والمسطحات الخضراء والأشجار غير المثمرة والتي لا فائدة من وراء إهدار المياه عليها، لا لإِنْسَانٍ ولا لحيوانٍ ولا لطائرٍ، حيث يصرف بعضهم في يومٍ واحدٍ ما تصرفه مئات العوائل في سنوات، ولا أقول هذا مجازفة بل حقيقة واقعة، ومن لديه شك فليسأل المسؤولين الأمناء عن توزيع المياه لا العكس من هذا الوصف الذين هم كُثرٌ في هذه الأيام، فإذا كان الإنسان قدوة فيما يدعو إليه ويفعله استجاب الناس له، والعكس بالعكس. وواجب طالب العلم والخطيب والواعظ والعالم أن يكونوا قدوة فيما يدعون إليه، كما هو الحال في المسؤول ممثلاً في شخص بمفرده أو هيئة أو مؤسسة اعتبارية في قمة الهرم وأعلاه كما يقال أو في أسفله، مثل الدعوة لترشيد استهلاك الماء إذا لم يوضع في الاعتبار ما ذكر سابقًا إلى جانب أمور لا يَحْسُنُ ذِكْرُهَا هنا، فإن الأمر سيظل استعطافًا قليل الجدوى والثمرة بعيدًا عن الحزم ووضع الأمور في نصابها، كما هو الحال في الكهرباء إذا لم تبدأ البلديات والمواصلات في الاقتصاد في الإضاءة المهدرة التي تستمر إلى بعد إشراق الشمس بساعة أو تضاء قبل المغرب بساعة مع زيادة الكميات المضاءة عن حاجة الطرق الداخلية والخارجية، إذا لم تكن الجهة قدوة فيما يشاهده الناس فلن تكون الاستجابة مثمرة ومتوقعة لدى كثير من الناس والحال كما ذُكِرَ.
وواجب المسلم أن يستجيب لأمر الله وأمر رسوله وهذه الدعوة التي هي من تعاليم الإسلام المأمور بها قبل أن تكون دعوة من ولاة الأمر، وكذلك على المسلم أن يقتصد في الولائم وحفلات الزواج التي تُهْدَرُ فيها كمياتٌ هائلةٌ من الأطعمة واللحوم وأنواع المأكولات والمشروبات ثم ترمى في الزبالات ومع القاذورات، وقليل من يحملها إلى البر ويرميها هناك أو يحملها إلى الجمعيات الخيرية، وكفران النعمة يكون عند من لا يحترمها ويقوم بذلك رياءً وسمعة ومفاخرة، مع أن الكثير منهم قاموا باستدانة قيمتها ويقومون بسدادها على سنوات قادمة، وقبل مدة نَشَرَتْ إحدى الصحف صورةً لِصِينِيَّةٍ كبيرةٍ ـ إناء يوضع فيه الطعام ـ عليها قعُودٌ ـ الصغيرُ من الإبل ـ وعدد من الأغنام تمثل الكرم الحاتمي في إحدى المناطق لشخص كفر نعمة الله عز وجل، مع أنه لو وقف فقير على أحد المسرفين وطلب منه عشرة ريالات لما أعطاه، ولو أن كل فرد على أقل تقدير وَفَّرَ ريالاً واحدًا من قيمة استهلاك الماء والكهرباء وأنفقها في وجوه الخير ومشاريعه المختلفة لدى الجمعيات الخيرية القائمة بهذا لقدم لنفسه خيرًا كثيرًا ووجده في يومٍ هو أحوج لحسنة واحدة، وَمَا تُقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل: 20]، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
http://www.alminbar.net/alkhutab/khutbaa.asp?mediaURL=9652
1- شمول الإسلام جميع مناحي الحياة. 2- كثرة النعم وقلة الشكر. 3- كفر النعم يستلزم منعها. 4- صور للإسراف في مجتمعات المسلمين. 5- حث الإسلام على الاقتصاد والترشيد في الاستهلاك. 6- نعمة الماء والاقتصاد فيها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ أمةَ الإسلامِ أمةَ محمدٍ خيرُ أمة أخرجت للناس، أمةٌ وسط، شهيدة على الناس، هذا ما أخبر به ربنا عز وجل عن هذه الأمة المسلمة في وحي يُتْلَى إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران: 110]، وكما قال سبحانه: وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وكما قال سبحانه: وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَـٰكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ [الحج: 78].
هذه الخيرية والوسطية في أمة مؤمنة يحمدون الله في السراء والضراء، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، قرآنهم في صدورهم، رهبان بالليل، فرسان بالنهار، يجاهدون في سبيل الله بالأموال والأنفس والنصيحة الخالصة الصادقة بالقلم واللسان، لا يخافون لَوْمَةَ لاَئِمٍ، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور وتبصير عباد الله بالإسلام على الطريقة الصحيحة الواضحة والعقيدة الصافية النقية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
تنبعُ خَيْرِيَّةُ هذه الأمة وتتأكد وَسَطِيَّتُهَا في دينها الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة، فهو يشمل جميع مناحي الحياة في العبادات والمعاملات والأخلاق وخلافها، لو استعرضنا خيرية الأمة الإسلامية ووسطيتها في بعض النواحي من خلال إشارات وأدلة من الكتاب والسنة لطال بنا المقام، فكيف لو كان لأمور متعددة من أولها جميعًا؟! إنه يحتاج إلى سنوات لما نقله الأئمة الأعلام حول الآيات والأحاديث المبينة لذلك في أقصر العبارات وأوجزها وأجملها وأوضحها وأبينها إعجازًا، وما هذا التقديم إلا لمعرفة جزء يسير من خيرية الإسلام والأمة المسلمة ووسطيتها وتوسطها واعتدالها وما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة في هذا الأمر وفي غيره في حياته كلها وتطبيقه لأحكام الإسلام ووضع النقاط على الحروف؛ ليبحث كُلٌّ بنفسه ويقف عند آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول .
إن نعم الله علينا عظيمة وكثيرة، فهي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى كما قال الله تبارك وتعالى في محكم آيات القرآن الكريم: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، وفي الآية الأخرى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18]. ولو تدبرنا وتأملنا هاتين الآيتين في سُورَتَيْ إبراهيم والنحل وقد جاءت بعد بيان تسخير الله عز وجل لنا الأشياء في هذا الكون، ولو تذكرنا غفلتنا وذهولنا عن معظم ما في هذا الكون الفسيح وعما في أنفسنا وما يحيط بنا وعن مدى تقصيرنا في هذا وفي غيره من أمور عباداتنا وتطبيقنا لإسلامنا، لو فعلنا ذلك لسجدنا لله شكرًا وذَلَّتْ رقابُنا لعظمة الله وخضعنا وتواضعنا لعباد الله وعرف كلٌّ منا قَدْرَ نفسِه وعمل بطاعة ربه وانتهى عن المعاصي والآثام وعمل بسنة خير الأنام محمد بن عبد الله ، عندها تتغير الأحوال إلى الأفضل والأحسن بإذن الله عز وجل، وعندما يكون العكس حيث الذهول والغفلة والإعراض وانتهاك المحرمات وقلة الطاعات فإن التغيير إلى الأسوأ سوف يكون بقدرة الله وإرادته ومشيئته وحسب سُنَنِهِ الكونية التي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد: 11]، وقال عز وجل: ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وقال عز وجل: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـٰهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 53-55]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112]. ولو أوردت الآيات عن سبأ وقارون فقط وقرأتها عليكم لاحتجنا وقتًا يطول على السامعين، ولا أعتقد أنهم يَمَلُّونَ استماع أو تلاوة كلام رب العالمين بإذن الله تبارك وتعالى.
إن مظاهر الإسراف والتبذير والترف والبذخ مع عدم الشكر وكفران النعمة مُنْذِرَةٌ بالخطر، ليس على الواقعين فيها فقط، بل العقاب ينزل على الجميع، ولو تأملنا هذه الآيات لوجدناها كأنما أُنْزِلَتِ الآن، وهي تُصَوِّرُ واقعَنا وتنذر عاقبة أمرنا وتذكرنا بما جَنَيْنَا وما كنا عليه، قال تعالى: يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 24-26].
الإسراف: مجاوزة الحد أيًّا كان، وهو يشمل أمورًا عدة في حياة البشر من مأكل ومشرب ونوم ويقظة وكلام ومحبة وكراهية وضحك وانفعال وتعامل مع الإنسان والحيوان والطير والنبات والجماد، وكذلك العبادات من وضوء وطهارة وصلاة وصدقة وصيام وغيرها. والحديث هنا عن الإسراف في الأموال وسوء التصرف فيها، وهو نوعان:
الأول: إسراف في النفقة والإنفاق وهو التبذيرُ المنهيُّ عنه ومجاوزة الحد حتى في الصدقة، قال تعالى: وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وقال عز وجل: وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141]. وقال لمن أراد الصدقة عمومًا أو الوقف لينتفع به في الدار الآخرة: ((الثلث، والثلث كثير، لأَن تذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يَتَكَفَّفُونَ الناس)).
والنوع الثاني: الإسراف في الاستهلاك في الأكل والشرب وضروريات الحياة ومباحاتها، مع أن الله أباح لعباده الطيبات والحلال من المأكل والمشرب ولكنه نهاهم عن الإسراف وتجاوز الحد؛ لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم ودينهم ودنياهم.
ولنتأمل الحديثين التاليين حيث أخذ أعداء الإسلام منهما قاعدة لصحة أبدانهم وقد تركها أكثر المسلمين، فالطب مجموع في ثلاث كلمات لا غنى للمرء عن أحدها، ولو خالفها لاعْتَلَّتْ صِحَّتُهُ وقُوَاهُ وربما أَوْدَتْ بحياته، جاء ذلك في الآيات والأحاديث التالية: قال تعالى: وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وقال عز وجل عن عباد الرحمن الذين عدد صفاتهم: وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]، وقال : ((ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شرًا من بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدم لُقَيْمَات يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإن كان لا بد فاعلاً فَثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِهِ))، وقال : ((نحن قوم لا نأكلُ حتى نَجُوعَ، وإذا أكلنا لا نَشْبَعُ)) أي: لا يُدْخِلُونَ الطعامَ على الطعامِ مع الشبع لما فيه من إفساد الثاني لما قبله، وإذا أكلوا لا يملؤون بطونهم حتى يُتْخِمُوها بالطعام ويصلوا إلى الشّبَعِ الْمُفْرِطِ.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله .
أما بعد: فإن المسلم الحق معتدل متوسّط مقتصد في أموره كلها، لا إِفْرَاطَ ولا تَفْرِيطَ، لا غُلُوَّ ولا مُجَافَاةَ، لا إسرافَ ولا تَقْتِيرَ؛ لأنه ينطلق في ذلك من تعاليم الإسلام التي تأمره بالاعتدال والتوازن والاقتصاد في جميع الأمور، وتنهاه عن الإسراف والتبذير ومجاوزة الحد حتى ولو كان في الاقتصاد الذي يصل إلى حد التقتير، ولا ينتظر توجيهات البشر لأنه يفعل هذه الأمور طاعةً لله عز وجل وقُرْبَةً إليه رجاء الثواب من عند الله سبحانه وتعالى وخوفًا من عقابه ومحبةً له عز وجل، وإذا جاءت الدعوة لأمرٍ ما من ولاة الأمر فإن الأمر لديه عاديٌّ جدًا لأنه عاملٌ به مُنَفِّذٌ له ولا يستغربه ولا يستصعبه أبدًا ولا يستثقله، بعكس الجاهل بتعاليم الإسلام أو المسرف الذي لا يحسب لأمر دينه أي حساب.
والإسراف يُخْشَى على الجميع منه لأن فتنته وضرره يصل الجميع، كما قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]. وكما حذر سبحانه من أن ترك أمر الخاصة الظاهر وعدم النهي عنه سوف يصيب العامة كما في قوله تعالى: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] أي: أنها سوف تصيب العامَّة ولا تقتصر على أصحاب المعاصي والمنكرات والآثام، ولنأخذ بعض الأمثلة التي تتردد الدعوة حولها لترشيد الاستهلاك فيها:
ومنها: الماء، فالمسلم مأمور بالاقتصاد فيه حتى في أمر الطهارة التي منها الوضوء والاغتسال ولو كان أحدنا على شاطئ نَهْرٍ جَارٍ، وهَدْيُ رسولنا محمد واضحٌ في هذا وغيره، فقد كان يغتسل بالصَّاعِ ويتوضَّأُ بالْمُدِّ، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء كَفَّي الإنسان المعتدلِ الْخِلْقَةِ. فهل أحد يطبق هذه السنة النبوية أو يقترب منها في هذا الزمان إلا من وفقه الله عز وجل نظرًا لوجود المسابح الموجودة في دورات المياه المسماة بالمغاطس والدشوش المتنوعة والمغاسل التي هي أجزاء مساعدة على الإسراف وأيضًا صناديق الطرد المسماة بالسيفونات، ولو استعمل شخص عاقل الأباريق بدل تلك الصناديق أو في الوضوء عند المغسلة ووضوئه عليها والاغتسال في الحمام لئلا يسرف في الماء لَوُصِفَ بالتخلف والجنون، مع أن القائلين بذلك هم الذين يستحقون ذلك الوصف.
وقد مَرَّ رسولُ الله على أحد الصحابة وهو يتوضأ فقال له: ((لا تسرف في الماء))، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: ((نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ))، وقال : ((إن للوضوء شيطانًا يُقَالُ له: الْوَلْهَان، فاتقوا وَسْوَاسَ الماء)).
وعندما يرى المسلم إخوانه المسلمين في أماكن الوضوء في المساجد يشاهد من الأمر عَجَبًا في إهدار الماء وفتحه من مصادره ومحابسه إلى أعلى الدرجات حتى والشخص يَكُفُّ ثيابَه وملابسَه نجد الماءَ مُهْدَرًا نافذًا إلى مجاري الصرف وكأنهم لا يَعُونَ ولا يعلمون شيئًا من سنة رسولهم محمد حيث يتوضأ أحدهم بأكثر من مائة مرة عن القدر الذي عليه هدي رسول الله ، وحالهم في الاغتسال أعظم وأكثر مع وجود ما يساعدهم على الإسراف مما تحويه دورات المياه. أما الْمُتْرَفُونَ الذين تَحْوِي قصورُهم ومساكنُهم المسابحَ التي تتسع لعشرات الأطنان بل المئات فَحَدِّثْ عنهم ولا حرج، حيث التغيير والتبديل الأسبوعي للماء إن لم يكن اليومي لدى كثير منهم وإهدار الماء الصالح للشرب؛ لأن الجميع لم يتعب فيه ولم يدفع مقابله إلا قيمةً تافهةً، هذا إِنْ دُفِعَتْ، مع أن الكثير لا يعلم عنها شيئًا، ولو أن عامة الناس قاموا بدفع التكلفة الحقيقية للطن الواحد الذي يصل إليهم بمبلغ أربعة ريالات بدلاً من قرشين لشعروا بقيمة الماء مع أنهم يشترون ماء الشرب بما يعادل ألفي ريال للطن الواحد، ولا يضيق أحدهم ذرعًا بما يدفعه ولا يَتَبَرَّمُ. أما زيادة السعر عن القرشين في الطن الواحد للماء الواصل إلى المنازل عبر الأنابيب فهو أمر صعب على النفوس التي لا تقدّر هذه النعمة، ولو وُضِعَتْ شرائحُ للاستهلاك بدلاً من المعمول به لعرف الناس قيمة الماء ومقدار النعمة الكبرى التي ينعمون بها، سواء صغار المستهلكين أو المترفين، كل يوضع له السعر المناسب للحد من الإسراف ولكي يُسْتَفَادَ من عائد الدخل في عمل مشاريع لآخَرِينَ يُعَانُون من عدم وصول الماء النقي إليهم وانعدامه عنهم ونُضُوبِ الماء العادي لديهم وقِلَّتِهِ، فضلاً عن حُلْمِهِمْ بوجود مثل هذا الماء النقي الذي ينعم به أهل المدن.
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويتقي ربه، وإذا بدأت المحاسبة تأتي النتائج المثمرة بإذن الله، وهي تبدأ من هؤلاء الأشخاص ومن الرجال المسؤولين في بيوتهم والنساء ومراقبة الخادمات اللائي هن أكبر مصدر لإهدار المياه حيث تفتح إحداهن مصدر المياه (الصنبور) إلى آخر شيء ليغسل ويزيل عن الأواني والأدوات المستعملة في الطبخ والأكل والشرب ما عَلِقَ بها مع أقلّ كُلْفَةٍ عليها في مَدِّ يدها واستعمالها لها، ثم الترشيد من الأغنياء والكفّ عن العبث بالماء في المسابح وأشجار الزينة ونباتاتها والمسطحات الخضراء والأشجار غير المثمرة والتي لا فائدة من وراء إهدار المياه عليها، لا لإِنْسَانٍ ولا لحيوانٍ ولا لطائرٍ، حيث يصرف بعضهم في يومٍ واحدٍ ما تصرفه مئات العوائل في سنوات، ولا أقول هذا مجازفة بل حقيقة واقعة، ومن لديه شك فليسأل المسؤولين الأمناء عن توزيع المياه لا العكس من هذا الوصف الذين هم كُثرٌ في هذه الأيام، فإذا كان الإنسان قدوة فيما يدعو إليه ويفعله استجاب الناس له، والعكس بالعكس. وواجب طالب العلم والخطيب والواعظ والعالم أن يكونوا قدوة فيما يدعون إليه، كما هو الحال في المسؤول ممثلاً في شخص بمفرده أو هيئة أو مؤسسة اعتبارية في قمة الهرم وأعلاه كما يقال أو في أسفله، مثل الدعوة لترشيد استهلاك الماء إذا لم يوضع في الاعتبار ما ذكر سابقًا إلى جانب أمور لا يَحْسُنُ ذِكْرُهَا هنا، فإن الأمر سيظل استعطافًا قليل الجدوى والثمرة بعيدًا عن الحزم ووضع الأمور في نصابها، كما هو الحال في الكهرباء إذا لم تبدأ البلديات والمواصلات في الاقتصاد في الإضاءة المهدرة التي تستمر إلى بعد إشراق الشمس بساعة أو تضاء قبل المغرب بساعة مع زيادة الكميات المضاءة عن حاجة الطرق الداخلية والخارجية، إذا لم تكن الجهة قدوة فيما يشاهده الناس فلن تكون الاستجابة مثمرة ومتوقعة لدى كثير من الناس والحال كما ذُكِرَ.
وواجب المسلم أن يستجيب لأمر الله وأمر رسوله وهذه الدعوة التي هي من تعاليم الإسلام المأمور بها قبل أن تكون دعوة من ولاة الأمر، وكذلك على المسلم أن يقتصد في الولائم وحفلات الزواج التي تُهْدَرُ فيها كمياتٌ هائلةٌ من الأطعمة واللحوم وأنواع المأكولات والمشروبات ثم ترمى في الزبالات ومع القاذورات، وقليل من يحملها إلى البر ويرميها هناك أو يحملها إلى الجمعيات الخيرية، وكفران النعمة يكون عند من لا يحترمها ويقوم بذلك رياءً وسمعة ومفاخرة، مع أن الكثير منهم قاموا باستدانة قيمتها ويقومون بسدادها على سنوات قادمة، وقبل مدة نَشَرَتْ إحدى الصحف صورةً لِصِينِيَّةٍ كبيرةٍ ـ إناء يوضع فيه الطعام ـ عليها قعُودٌ ـ الصغيرُ من الإبل ـ وعدد من الأغنام تمثل الكرم الحاتمي في إحدى المناطق لشخص كفر نعمة الله عز وجل، مع أنه لو وقف فقير على أحد المسرفين وطلب منه عشرة ريالات لما أعطاه، ولو أن كل فرد على أقل تقدير وَفَّرَ ريالاً واحدًا من قيمة استهلاك الماء والكهرباء وأنفقها في وجوه الخير ومشاريعه المختلفة لدى الجمعيات الخيرية القائمة بهذا لقدم لنفسه خيرًا كثيرًا ووجده في يومٍ هو أحوج لحسنة واحدة، وَمَا تُقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل: 20]، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
http://www.alminbar.net/alkhutab/khutbaa.asp?mediaURL=9652
أبو عبد الرحمن
خطبة المسجد الحرام بتاريخ 4/ 5/ 1429هـ
الشيخ صالح آل طالب
الإسراف
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ما ترك خيرًا إلا دلنا عليه، ولا شرًا إلا حذرنا منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل ضلالة في النار، ثم إن خير الوصايا بعد المحامد والتحايا تقوى الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، اللهم وَفِقْنَا لِهُداكَ وارزُقْنَا تُقَاكَ وَاجْعَلْنَا نخشاكَ كأنَّا نَرَاكَ.
وإذا غرق المسرف في بحر إسرافه وأشرب هواه عميت بصيرته؛ فيضل ولا يهتدي، وربما لا يوفق للتوبة؛ حتى يموت على معاصيه وآثامه، وفي ذلك يقول الله - عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، ويقول الله - عز وجل -: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر: 34].
ومع ذلك فهو إضاعة للمال، وحساب وحسرة في المآل، في الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله كره لكم ثلاثًا: القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
هذا المنهج الرباني المأمور به هو الاقتصاد وهو التوازن، والتزامه يعني الكفاف، والاستغناء عن الخلق، وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتوفير المال للنافع المفيد، ليصرف في قنوات المصالح العامة والخاصة بما يعود بالخير على الجميع.
عباد الله، إن التحذير من الإسراف، لا يعني الأمر بترك المباح لذا جاء في الآية الكريمة، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 31 - 32].
إن الاقتراض شُرِعَ للإنفاق ولسد الحاجة، لا للترفه بما لا يدركه الإنسان ولا يقوى عليه، وقد نص العلماء على كراهة الاستدانة لغير حاجة كراهة شديدة، قال وهب بن منبه – رحمه الله -: "من الترف أن يلبس الإنسان ويأكل ويشرب مما ليس عنده، وما جاوز الكفاف فهو تبذير".
أيها المسلمون، وفي هذا المجال أيضًا ترى الإنفاق الضخم على الحفلات والمناسبات والأعراف والدرجات سرف عظيم وإنفاق ليس له مردود يكفي لإعاشة المحتفلين دهرًا طويلاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله – تعالى – لي ولكم.
الحمد لله المحمود في عليائه، وهو الإله الحق في أرضه وسمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى بعزته وكبريائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من أنبيائه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
فمن صور الإسراف التي بان خطرها، وتنادت الدول والمنظمات بتداركها، الإسراف فيما الناس شركاء فيه، وهو الإسراف في هدر المياه، والإسراف في طاقة الكهرباء، والتي تكلف شيئًا كثيرًا من جهة إنتاجها وجلبها وتوفيرها؛ حتى تكاد الدول تتقاتل على مصادرها، وإن الإسراف مع هدرها يحرم آخرين هم في أمس الحاجة إليها مع تعرضها للنفاذ، والعالم اليوم مقبل على أزمة في المياه، حذر من مغبتها العقلاء والمراقبون، خاصةً في بلادنا التي تنعدم فيها الأنهار، وتندر فيها الأمطار، وأوشكت أن تغور فيها الآبار.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((جاء أعرابي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يسأله عن الوضوء؛ فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا فقد تعدى وظلم))؛ حديث صحيح أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجه.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبدالله رسول الله وخاتم أنبيائه، اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم انصر من نصر الدين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل الطغاة والملاحدة والمفسدين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].
http://www.alukah.net/articles/1/2654.aspx
تعديل التعليق