خطبتان مناسبتان جدا لجمعة غد
عبدالرحمن اللهيبي
1436/10/07 - 2015/07/23 19:34PM
هاتان خطبتان مناسبتان لجمعة الغد:
الأولى عن صلاة الجماعة بعنوان: (ربحت البضاعة يا أهل الجماعة) للشيخ عبدالله البصري بتصرف , ولا يخفى عليكم تجلي التفريط في صلاة الجماعة بعد رمضان
والثانية عن دوام الطاعة بعدرمضان للشيخ صلاح البدير
إليكم الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَا مَن رَضِيتُم بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولاً ، يَا مَن تَرجُونَ مَا عِندَ اللهِ لِلطَّائِعِينَ مِن أَجرٍ وَثَوَابٍ ، وَتَخَافُونَ مَا أَعَدَّهُ لِلعَاصِينَ مِن سُوءِ العِقَابِ ، مَا بَالُنَا عُدنَا نَرَى هذه الأيام أَعدَادًا خَنَسَت عَنِ الجَمَاعَةِ ، وَثَقُلَت أَن تَأتِيَ بُيُوتًا أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ ؟! الصَّلاةُ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الإِسلامِ وَأَهَمُّ أَركَانِهِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ ، مَا بَالُهَا خَفَّ عن البعض مِيزَانُهَا ، وَقَلَّ عِندَ قَومٍ شَأنُهَا ؟! أَلَستُم تَقرَؤُونَ في كِتَابِ رَبِّكُم أَنَّ مِن صِفَاتِ المُتَّقِينَ أَنَّهُم يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ؟! أَلَم تَجِدُوا في كِتَابِ اللهِ أَنَّ مِن صِفَاتِ المُنَافِقِينَ أَنَّهُم إِذَا قَامُوا إِلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالى ، وَأَنَّ اللهَ قَد تَوَعَّدَ الَّذِينَ هُم عَن صَلاتِهِم سَاهُونَ ؟! ومنا مَن فَاتَتهُ صَلاةُ الفَجرِ اليَومَ فَلَم يَشهَدْهَا مَعَ الجَمَاعَةِ ، وآخَرَ لَم يُصَلِّ العَشَاءَ البَارِحَةَ في المَسجِدِ ، وثَالِثٍ قَد تَرَكَ صَلاةَ العَصرِ أَمسِ فَلَم يُصَلِّهَا إِلاَّ مَعَ مَغِيبِ الشَّمسِ ، أَجَلْ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ هَذَا لَيَحدُثُ عَلَى مَرأَى كَثِيرٍ مِنكُم في كُلِّ يَومٍ ، وَيَشهَدُهُ وَيَقَعُ في بَيتِهِ وَمِن أَبنَائِهِ ، وَقَد يَكُونُ بَعضُكُمُ استَمرَأَهُ وَاعتَادَ عَلَيهِ وَعَادَ لا يُنكِرُهُ وَلا يُحَرِّكُ شَعرَةً في جَسَدِهِ ، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَن نَتَحَدَّثَ عَن وُجُوبِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ عَلَى الرِّجَالِ في المَسَاجِدِ ، فَقَد أَفَاضَ فِيهِ العُلَمَاءُ وَقَرَّرُوهُ بِأَدِلَّةٍ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَكِنَّنَا سَنَذكُرُ شَيئًا مِمَّا صَحَّ عَنِ الصَّادِقِ المَصدُوقِ في فَضلِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ ، لَعلَهَا تَقوَى بِهِ هِمَمٌ ضَعُفَت ، وَتُشفَى بِهِ قُلُوبٌ مَرِضَت ، وَتَتَجَافَى بِسَبَبِهِ عَنِ الفُرُشِ جُنُوبٌ أَلِفَتِ المَنَامَ وَكَسِلَت عَنِ القِيَامِ . في الصَّحِيحَينِ عَنِ ابنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبعٍ وَعِشرِينَ دَرَجَةً " وَعَن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ " ... وَإِنَّ صَلاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزكَى مِن صَلاتِهِ وَحدَهُ ، وَصَلاتَهُ مَعَ الرَّجُلَينِ أَزكَى مِن صَلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ ، فَأَيُّ قَلبٍ يَعِي هَذَا الفَضلَ العَظِيمَ ، وَيَعلَمُ مَحَبَّةَ اللهِ لِلصَّلاةِ في جَمَاعَةٍ ، ثم يَبرُدَ وَيُصَابَ بِالقَسوَةِ وَتُغَلِّفَهُ الغَفلَةُ ، وَيَنَامَ عَن صَلاةِ الجَمَاعَةِ وَهُوَ يَسمَعُ صَوتَ دَاعِيهَا ، أَو يَتَشَاغَل عَنهَا وَقَدِ أَذَّنَ مُنَادِيهَا ؟! وَعَن أَبي الدَّردَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : " مَا مِن ثَلاثَةٍ في قَريَةٍ وَلا بَدوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ ، إِلاَّ قَدِ استَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ ، فَعَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ ، فَإِنَّمَا يَأكُلُ الذِّئبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَةَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ ، وَرَوَى التِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن صَلَّى للهِ أَربَعِينَ يَومًا في جَمَاعَةٍ ، يُدرِكُ التَّكبِيرَةَ الأُولَى ، كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتاَنِ : بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ " شَهَادَةٌ كَرِيمَةٌ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ مِمَّن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ، لِمَن حَافَظَ عَلَى الجَمَاعَةِ وَأَدرَكَ التَّكبِيرَةَ الأُولى ، وَإِنَّهَا لَخَسَارَةٌ وَأَيُّ خَسَارَةٍ ، أَنَّ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ ، وَقَد يَكُونُونَ مِمَّن ظَاهِرُهُمُ الصَّلاحُ وَالاستِقَامَةُ ، لا يَكَادُ يَسلَمُ لأَحَدِهِم خَمسُ صَلَوَاتٍ في يَومٍ وَاحِدٍ ، يُدرِكُ فِيهَا تَكبِيرَةَ الإِحرَامِ مَعَ الجَمَاعَةِ ، بَل إِنَّهَا لَتَمُرُّ بِبَعضِهِم شُهُورٌ بَعدَهَا شُهُورٌ ، وَلم يَنعَمْ بِمُصَافَّةِ المُسلِمِينَ في صَلاةِ الفَجرِ ، حَارِمًا نَفسَهُ مِن أَجرٍ عَظِيمٍ ، مُفَرِّطًا في حَسَنَاتٍ مُضَاعَفَةٍ ، مُستَسلِمًا لِلكَسَلِ وَالتَّواني ، مُؤثِرًا لِلنَّومِ وَرَاحَةِ الجَسَدِ الفَاني ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذلانِ وَالحِرمَانِ ، وَالدُّخُولِ في حِزبِ المُنَافِقِينَ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَثقَلُ الصَّلاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلاةُ العِشَاءِ وَصَلاةُ الفَجرِ ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوهُمَا وَلَو حَبوًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَفي الوَقتِ الَّذِي يَتَوَلَّى الشَّيطَانُ فِيهِ تَاركِي صَلاةِ الفَجرِ ، فِإِنَّ المُوَفَّقِينَ لأَدَائِهَا مَعَ المُسلِمِينَ في بُيُوتِ اللهِ يَكُونُونَ في ضَمَانِ اللهِ وَأَمَانِهِ ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن صَلَّى الصُّبحَ فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ " وَفي لَفظٍ عِندَ ابنِ مَاجَه : " مَن صَلَّى الصُّبحَ في جَمَاعَةٍ فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنُحَافِظْ عَلَى صَلَوَاتِنَا في بُيُوتِ رَبِّنَا ، وَلْنُشهِدْ عَلَى ذَلِكَ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ ، فَإِنَّهُم يَجتَمِعُونَ كُلَّ يَومٍ في صَلاةِ الفَجرِ وَالعَصرِ ؛ وَيَسأَلُهُم رَبُّهُم عَنَّا فَمَاذَا عَسَاهُم يُسَجِّلُونَ ، عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُم مَلائِكَةٌ بِاللَّيلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجتَمِعُونَ في صَلاةِ الفَجرِ وَصَلاةِ العَصرِ ، ثم يَعرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُم ، فَيَسأَلُهُم رَبُّهُم وَهُوَ أَعلَمُ بِهِم : كَيفَ تَرَكتُم عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكنَاهُم وَهُم يُصَلُّونَ ، وَأَتَينَاهُم وَهُم يُصَلُّونَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَغَيرُهُمَا . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ . لِيَجزِيَهُمُ اللهُ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللهُ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ ، أيّها المسلمون، لقد كثُر المتخلِّفون في زمانِنا هذا عن صلاةِ الجماعة في المساجد، رجالٌ قادرون أقوياء يسمَعون النداءَ صباحَ مساء، فلا يجيبون ولا هم يذّكَّرون. قلوبهم لاهِية، رانَ عليها كسبُها، وضلّ في الدنيا سعيُها، شُغِلوا عن الصلاة بتثمير كسبهم ولهوهم ولعِبهم، ولو كانوا يجِدون من الصلاة في المساجد كسبًا دنيويًّا ولو حقيرًا دنِيًّا لرأيتموهم إليها مسرعين ولندائها مذعِنين مُهطِعين، يقول رسول الهدى : ((والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدُهم أنّه يجد عرقًا سمينًا أو مِرماتين حسنتين لشهِد العِشاء)) متفق عليه.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلواتِ حيث يُنادَى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيكم سُننَ الهدى، وإنّهنّ من سُنن الهدى، ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنّةَ نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصفّ) أخرجه مسلم.
يا مسلمون هذا ابنُ أمّ مكتوم رضي الله عنه وأرضاه يُقبل على رسول الله ويقول: يا رسولَ الله، قد دَبَرت سنِّي ورقّ عظمي وذهب بصري، فهل تجد لي رخصةً أصلّي في بيتي الصلوات؟ فقال رسول الله : ((هل تسمعُ المؤذّن في البيت الذي أنت فيه؟)) قال: نعم يا رسول الله، قال: ((ما أجدُ لك رُخصةً )).
وَاعلَمُوا أَنَّ مَن كَانَت صَلاةُ الجَمَاعَةِ شُغلَ قَلبِهِ وَهَمَّ نَفسِهِ ، فَهُوَ في أُجُورٍ مَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِن كَانَ جَالِسًا يَنتَظِرُهَا ، أَو مَاشِيًا إِلَيهَا أَو عَائِدًا مِنهَا ، أو نَائِمًا في فِرَاشِهِ بَعدَهَا ، فَعَن عُثمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصفَ اللَّيلِ ، وَمَن صَلَّى الصُّبحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيلَ كُلَّهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن تَطَهَّرَ في بَيتِهِ ثم مَشَى إِلى بَيتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ لِيَقضِيَ فَرِيضَةً مِن فَرَائِضِ اللهِ ، كَانَت خُطُوَاتُهُ إِحدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالأُخرَى تَرفَعُ دَرَجَةً " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَعَنهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " لا يَزَالُ أَحَدُكُم في صَلاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحبِسُهُ ، لا يَمنَعُهُ أَن يَنقَلِبَ إِلى أَهلِهِ إِلاَّ الصَّلاةُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ ، وَلِلبُخَارِيِّ : " إِنَّ أَحَدَكُم في صَلاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحبِسُهُ ، وَالمَلائِكَةُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارحَمْهُ ، مَا لم يَقُمْ مِن مُصَلاَّهُ أَو يُحدِثْ " وقال أيضا: ((من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم)).
وقال رسول الله ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [صحيح ابن ماجه]. فَأَيُّ فَضلٍ أَعظَمُ مِن هَذَا الفَضلِ لأَهلِ الجَمَاعَةِ ، يُثنِي عَلَيهِمُ اللهُ في المَلأِ الأَعلَى ، وَالمَلائِكَةُ يَدعُونَ لَهُم وَيَصَلًّونَ مَعَهُم ، وَأُجُورُهُم مُستَمِرَّةٌ مَا دَامُوا في مَسَاجِدِهِم أَو يَمشُونَ إِلَيهَا ، فَاللَّهُمَّ أَعطِنَا وَلا تَحرِمْنَا ، وَوَفِّقْنَا وَلا تَخذُلْنَا ، وَكُنْ لَنَا وَلا تَكُنْ عَلَينَا ، وَاهدِنَا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنَا .
الخطبة الثانية: عن دوام الطاعة بعد رمضان للشيخ صلاح البدير
الحمد لله الكريم المنان القوي الكبير ذي السلطان، أحمده على ما مَنَّ به علينا من النعم والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقب الجديدان وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مُكتَسب وطاعتَه أعلى نسب.. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
أيها المسلمون: مضى رمضان وانقضى بلياليه الزاهرة وأيامه العامرة وأجوائه العاطرة، فاستيقظت القلوب بعد غفوة ، ورجعت بعد سهوة، أما القبول فعلاماته واضحة وأماراته لائحة.. حسنة تتبعها حسنة، وطاعة تؤكدها طاعة، وإحسان يتلوه إحسان، وذاك دأب العارفين بالله الخائفين من سطوته وعقوبته، الراجين لثوابه وجنته - فأخبتت نفوسهم لله وسكنت، ورضيت به واطمأنت (.. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ).
وأما من انحلت طاعاته ووهنت قرباته، وانعكس سيره بعد رمضان، فأبطل ما قدم ونقض ما أحكم، وبدل الحسنات بالسيئات، وعاد إلى الفسوق والعصيان، فذلك الخاسر المغبون الذي أذهب بهاء طاعته، وأحبط أجر عبادته.
أصغوا السمع -أيها الجمع- لقول الله -جل في علاه-: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) [البقرة: 266]..
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نزلت هذه الآية.. في رجل غني يعمل بطاعة الله -عز وجل- ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله" أخرجه البخاري. وروى الطبراني بسنده عن قتادة في قوله -تعالى-: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ).. قال: " من استطاع منكم ألا يبطل عملاً صالحاً عمله بعمل سيء فليفعل "..
أيها المسلمون: داوموا على ما اعتدتم من الخير في رمضان ولا تنقطعوا عنه، وخذوا من العمل ما تطيقون الثبات عليه -ولوكان قليلاً-؛ فالقليل الدائم ينمو ويزكو، وبدوام القليل يدوم التعبد لله والذل له، والأُنس به والقرب منه والإقبال عليه، والكثيرُ الشاقُّ ينقطع ولا يدوم؛ فعن عائشة -رضي الله عنها - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تُطيقون؛ فإن الله لا يملُّ حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه -وإن قل- وكان آل محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا عملوا عملاً أثبتوه " متفق عليه.
وعن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها -: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: " كان عمله ديمة " أخرجه مسلم. وقال القاسم بن محمد: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته؛ أخرجه مسلم؟ وكره أهل العلم الانقطاع عن العمل الصالح؛ استنباطاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله --: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان..كان يقوم من الليل فترك قيام الليل "
وَبِهَذَا المَنهَجِ النَّبَوِيِّ الكَرِيمِ ، أَخَذَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَسَارُوا عَلَى طَرِيقٍ وَاضِحٍ مُستَقِيمٍ ، فَكَانَ أَحَدُهُم يداوم على العمل مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ مَدَى عُمرِهِ كُلِّهِ لا يَترُكُهُ وَلا يُفرِّطُ فِيهِ ، كَانَ مِنهُم مَن لم تَفُتْهُ تَكبِيرَةُ الإِحرَامِ مَعَ الجَمَاعَةِ في المَسجِدِ أَربَعِينَ سَنَةً ، وَكَانَ مِنهُم مَن خَتَمَ القُرآنَ في بَيتِهِ آلافَ المَرَّاتِ ، وَمِنهُم مَن كَانَ يَحُجُّ كُلَّ عَامٍ ، وَمِنهُم مَن أَدَامَ الصِّيَامَ ، وَمَا زِلنَا نَرَى تِلكَ السِّمَةَ في قَلِيلٍ مِن عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ في زَمَانِنَا هَذَا ، فَتَجِدُ أَحَدَهُم عَلَى جَادَّةِ الحَقِّ مُستَقِيمًا عُقُودًا مِنَ الزَّمَانِ ، مُوَلِّيًا وَجهَهُ صَوبَ آخِرَتِهِ مُنذُ عَشَرَاتِ السِّنِينَ ، صَامِدًا عَلَى الحَقِّ ثَابِتًا ، وَمِن هُنَا كَانَ ممَّا لا بُدَّ مِنهُ أَن يُحَاسِبَ كُلٌّ مِنَّا نَفسَهُ وَيُجَاهِدَهَا وَيُؤَدِّبَهَا ، فَلا يَترُكَ عَمَلاً صَالِحًا فَعَلَهُ وَبَدَأَ بِهِ ، وَلا يَقطَعَ خَيرًا ذَاقَ لَذَّتَهُ وَحَلاوَتَهُ ؛ بَل عَلَيهِ أَن يُدَاوِمَ وَلَو عَلَى القَلِيلِ , مَاشِيًا عَلَى تِلكَ القَاعِدَةِ النَّبَوِيَّةِ الذَّهَبِيَّةِ : " أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ " أقول ما تسمعون وأستغفر الله ....
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.. صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلَّمَ تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه.. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾ ، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾.
أيها المسلمون: تقربوا إلى الله -جل ثناؤه- بطاعته وعبادته، وأداء مفترضاته ونوافله؛ فكلما تقربتم إليه قربتم من داره ودنوتم من جواره ونجوتم من ناره.. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " قال الله -عز وجل-: إذا تقرب العبد مني شبراً تقربت منه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة " متفق عليه
فاستكثِروا يا مسلمون من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ والأوزار.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جنه وأنسه، فقال قولًا كريما: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)..
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أصحاب السنة المتبعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق إمامنا ووليَّ أمرنا لما تحب وترضى ، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأصلح بطانته يارب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اشفِ مرضانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وعافِ مبتلانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الأولى عن صلاة الجماعة بعنوان: (ربحت البضاعة يا أهل الجماعة) للشيخ عبدالله البصري بتصرف , ولا يخفى عليكم تجلي التفريط في صلاة الجماعة بعد رمضان
والثانية عن دوام الطاعة بعدرمضان للشيخ صلاح البدير
إليكم الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَا مَن رَضِيتُم بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولاً ، يَا مَن تَرجُونَ مَا عِندَ اللهِ لِلطَّائِعِينَ مِن أَجرٍ وَثَوَابٍ ، وَتَخَافُونَ مَا أَعَدَّهُ لِلعَاصِينَ مِن سُوءِ العِقَابِ ، مَا بَالُنَا عُدنَا نَرَى هذه الأيام أَعدَادًا خَنَسَت عَنِ الجَمَاعَةِ ، وَثَقُلَت أَن تَأتِيَ بُيُوتًا أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ ؟! الصَّلاةُ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الإِسلامِ وَأَهَمُّ أَركَانِهِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ ، مَا بَالُهَا خَفَّ عن البعض مِيزَانُهَا ، وَقَلَّ عِندَ قَومٍ شَأنُهَا ؟! أَلَستُم تَقرَؤُونَ في كِتَابِ رَبِّكُم أَنَّ مِن صِفَاتِ المُتَّقِينَ أَنَّهُم يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ؟! أَلَم تَجِدُوا في كِتَابِ اللهِ أَنَّ مِن صِفَاتِ المُنَافِقِينَ أَنَّهُم إِذَا قَامُوا إِلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالى ، وَأَنَّ اللهَ قَد تَوَعَّدَ الَّذِينَ هُم عَن صَلاتِهِم سَاهُونَ ؟! ومنا مَن فَاتَتهُ صَلاةُ الفَجرِ اليَومَ فَلَم يَشهَدْهَا مَعَ الجَمَاعَةِ ، وآخَرَ لَم يُصَلِّ العَشَاءَ البَارِحَةَ في المَسجِدِ ، وثَالِثٍ قَد تَرَكَ صَلاةَ العَصرِ أَمسِ فَلَم يُصَلِّهَا إِلاَّ مَعَ مَغِيبِ الشَّمسِ ، أَجَلْ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ هَذَا لَيَحدُثُ عَلَى مَرأَى كَثِيرٍ مِنكُم في كُلِّ يَومٍ ، وَيَشهَدُهُ وَيَقَعُ في بَيتِهِ وَمِن أَبنَائِهِ ، وَقَد يَكُونُ بَعضُكُمُ استَمرَأَهُ وَاعتَادَ عَلَيهِ وَعَادَ لا يُنكِرُهُ وَلا يُحَرِّكُ شَعرَةً في جَسَدِهِ ، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَن نَتَحَدَّثَ عَن وُجُوبِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ عَلَى الرِّجَالِ في المَسَاجِدِ ، فَقَد أَفَاضَ فِيهِ العُلَمَاءُ وَقَرَّرُوهُ بِأَدِلَّةٍ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَكِنَّنَا سَنَذكُرُ شَيئًا مِمَّا صَحَّ عَنِ الصَّادِقِ المَصدُوقِ في فَضلِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ ، لَعلَهَا تَقوَى بِهِ هِمَمٌ ضَعُفَت ، وَتُشفَى بِهِ قُلُوبٌ مَرِضَت ، وَتَتَجَافَى بِسَبَبِهِ عَنِ الفُرُشِ جُنُوبٌ أَلِفَتِ المَنَامَ وَكَسِلَت عَنِ القِيَامِ . في الصَّحِيحَينِ عَنِ ابنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبعٍ وَعِشرِينَ دَرَجَةً " وَعَن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ " ... وَإِنَّ صَلاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزكَى مِن صَلاتِهِ وَحدَهُ ، وَصَلاتَهُ مَعَ الرَّجُلَينِ أَزكَى مِن صَلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ ، فَأَيُّ قَلبٍ يَعِي هَذَا الفَضلَ العَظِيمَ ، وَيَعلَمُ مَحَبَّةَ اللهِ لِلصَّلاةِ في جَمَاعَةٍ ، ثم يَبرُدَ وَيُصَابَ بِالقَسوَةِ وَتُغَلِّفَهُ الغَفلَةُ ، وَيَنَامَ عَن صَلاةِ الجَمَاعَةِ وَهُوَ يَسمَعُ صَوتَ دَاعِيهَا ، أَو يَتَشَاغَل عَنهَا وَقَدِ أَذَّنَ مُنَادِيهَا ؟! وَعَن أَبي الدَّردَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : " مَا مِن ثَلاثَةٍ في قَريَةٍ وَلا بَدوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ ، إِلاَّ قَدِ استَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ ، فَعَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ ، فَإِنَّمَا يَأكُلُ الذِّئبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَةَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ ، وَرَوَى التِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن صَلَّى للهِ أَربَعِينَ يَومًا في جَمَاعَةٍ ، يُدرِكُ التَّكبِيرَةَ الأُولَى ، كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتاَنِ : بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ " شَهَادَةٌ كَرِيمَةٌ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ مِمَّن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ، لِمَن حَافَظَ عَلَى الجَمَاعَةِ وَأَدرَكَ التَّكبِيرَةَ الأُولى ، وَإِنَّهَا لَخَسَارَةٌ وَأَيُّ خَسَارَةٍ ، أَنَّ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ ، وَقَد يَكُونُونَ مِمَّن ظَاهِرُهُمُ الصَّلاحُ وَالاستِقَامَةُ ، لا يَكَادُ يَسلَمُ لأَحَدِهِم خَمسُ صَلَوَاتٍ في يَومٍ وَاحِدٍ ، يُدرِكُ فِيهَا تَكبِيرَةَ الإِحرَامِ مَعَ الجَمَاعَةِ ، بَل إِنَّهَا لَتَمُرُّ بِبَعضِهِم شُهُورٌ بَعدَهَا شُهُورٌ ، وَلم يَنعَمْ بِمُصَافَّةِ المُسلِمِينَ في صَلاةِ الفَجرِ ، حَارِمًا نَفسَهُ مِن أَجرٍ عَظِيمٍ ، مُفَرِّطًا في حَسَنَاتٍ مُضَاعَفَةٍ ، مُستَسلِمًا لِلكَسَلِ وَالتَّواني ، مُؤثِرًا لِلنَّومِ وَرَاحَةِ الجَسَدِ الفَاني ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذلانِ وَالحِرمَانِ ، وَالدُّخُولِ في حِزبِ المُنَافِقِينَ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَثقَلُ الصَّلاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلاةُ العِشَاءِ وَصَلاةُ الفَجرِ ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوهُمَا وَلَو حَبوًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَفي الوَقتِ الَّذِي يَتَوَلَّى الشَّيطَانُ فِيهِ تَاركِي صَلاةِ الفَجرِ ، فِإِنَّ المُوَفَّقِينَ لأَدَائِهَا مَعَ المُسلِمِينَ في بُيُوتِ اللهِ يَكُونُونَ في ضَمَانِ اللهِ وَأَمَانِهِ ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن صَلَّى الصُّبحَ فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ " وَفي لَفظٍ عِندَ ابنِ مَاجَه : " مَن صَلَّى الصُّبحَ في جَمَاعَةٍ فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنُحَافِظْ عَلَى صَلَوَاتِنَا في بُيُوتِ رَبِّنَا ، وَلْنُشهِدْ عَلَى ذَلِكَ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ ، فَإِنَّهُم يَجتَمِعُونَ كُلَّ يَومٍ في صَلاةِ الفَجرِ وَالعَصرِ ؛ وَيَسأَلُهُم رَبُّهُم عَنَّا فَمَاذَا عَسَاهُم يُسَجِّلُونَ ، عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُم مَلائِكَةٌ بِاللَّيلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجتَمِعُونَ في صَلاةِ الفَجرِ وَصَلاةِ العَصرِ ، ثم يَعرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُم ، فَيَسأَلُهُم رَبُّهُم وَهُوَ أَعلَمُ بِهِم : كَيفَ تَرَكتُم عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكنَاهُم وَهُم يُصَلُّونَ ، وَأَتَينَاهُم وَهُم يُصَلُّونَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَغَيرُهُمَا . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ . لِيَجزِيَهُمُ اللهُ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللهُ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ ، أيّها المسلمون، لقد كثُر المتخلِّفون في زمانِنا هذا عن صلاةِ الجماعة في المساجد، رجالٌ قادرون أقوياء يسمَعون النداءَ صباحَ مساء، فلا يجيبون ولا هم يذّكَّرون. قلوبهم لاهِية، رانَ عليها كسبُها، وضلّ في الدنيا سعيُها، شُغِلوا عن الصلاة بتثمير كسبهم ولهوهم ولعِبهم، ولو كانوا يجِدون من الصلاة في المساجد كسبًا دنيويًّا ولو حقيرًا دنِيًّا لرأيتموهم إليها مسرعين ولندائها مذعِنين مُهطِعين، يقول رسول الهدى : ((والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدُهم أنّه يجد عرقًا سمينًا أو مِرماتين حسنتين لشهِد العِشاء)) متفق عليه.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلواتِ حيث يُنادَى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيكم سُننَ الهدى، وإنّهنّ من سُنن الهدى، ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنّةَ نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصفّ) أخرجه مسلم.
يا مسلمون هذا ابنُ أمّ مكتوم رضي الله عنه وأرضاه يُقبل على رسول الله ويقول: يا رسولَ الله، قد دَبَرت سنِّي ورقّ عظمي وذهب بصري، فهل تجد لي رخصةً أصلّي في بيتي الصلوات؟ فقال رسول الله : ((هل تسمعُ المؤذّن في البيت الذي أنت فيه؟)) قال: نعم يا رسول الله، قال: ((ما أجدُ لك رُخصةً )).
وَاعلَمُوا أَنَّ مَن كَانَت صَلاةُ الجَمَاعَةِ شُغلَ قَلبِهِ وَهَمَّ نَفسِهِ ، فَهُوَ في أُجُورٍ مَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِن كَانَ جَالِسًا يَنتَظِرُهَا ، أَو مَاشِيًا إِلَيهَا أَو عَائِدًا مِنهَا ، أو نَائِمًا في فِرَاشِهِ بَعدَهَا ، فَعَن عُثمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصفَ اللَّيلِ ، وَمَن صَلَّى الصُّبحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيلَ كُلَّهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن تَطَهَّرَ في بَيتِهِ ثم مَشَى إِلى بَيتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ لِيَقضِيَ فَرِيضَةً مِن فَرَائِضِ اللهِ ، كَانَت خُطُوَاتُهُ إِحدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالأُخرَى تَرفَعُ دَرَجَةً " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَعَنهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " لا يَزَالُ أَحَدُكُم في صَلاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحبِسُهُ ، لا يَمنَعُهُ أَن يَنقَلِبَ إِلى أَهلِهِ إِلاَّ الصَّلاةُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ ، وَلِلبُخَارِيِّ : " إِنَّ أَحَدَكُم في صَلاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحبِسُهُ ، وَالمَلائِكَةُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارحَمْهُ ، مَا لم يَقُمْ مِن مُصَلاَّهُ أَو يُحدِثْ " وقال أيضا: ((من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم)).
وقال رسول الله ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [صحيح ابن ماجه]. فَأَيُّ فَضلٍ أَعظَمُ مِن هَذَا الفَضلِ لأَهلِ الجَمَاعَةِ ، يُثنِي عَلَيهِمُ اللهُ في المَلأِ الأَعلَى ، وَالمَلائِكَةُ يَدعُونَ لَهُم وَيَصَلًّونَ مَعَهُم ، وَأُجُورُهُم مُستَمِرَّةٌ مَا دَامُوا في مَسَاجِدِهِم أَو يَمشُونَ إِلَيهَا ، فَاللَّهُمَّ أَعطِنَا وَلا تَحرِمْنَا ، وَوَفِّقْنَا وَلا تَخذُلْنَا ، وَكُنْ لَنَا وَلا تَكُنْ عَلَينَا ، وَاهدِنَا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنَا .
الخطبة الثانية: عن دوام الطاعة بعد رمضان للشيخ صلاح البدير
الحمد لله الكريم المنان القوي الكبير ذي السلطان، أحمده على ما مَنَّ به علينا من النعم والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقب الجديدان وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مُكتَسب وطاعتَه أعلى نسب.. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
أيها المسلمون: مضى رمضان وانقضى بلياليه الزاهرة وأيامه العامرة وأجوائه العاطرة، فاستيقظت القلوب بعد غفوة ، ورجعت بعد سهوة، أما القبول فعلاماته واضحة وأماراته لائحة.. حسنة تتبعها حسنة، وطاعة تؤكدها طاعة، وإحسان يتلوه إحسان، وذاك دأب العارفين بالله الخائفين من سطوته وعقوبته، الراجين لثوابه وجنته - فأخبتت نفوسهم لله وسكنت، ورضيت به واطمأنت (.. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ).
وأما من انحلت طاعاته ووهنت قرباته، وانعكس سيره بعد رمضان، فأبطل ما قدم ونقض ما أحكم، وبدل الحسنات بالسيئات، وعاد إلى الفسوق والعصيان، فذلك الخاسر المغبون الذي أذهب بهاء طاعته، وأحبط أجر عبادته.
أصغوا السمع -أيها الجمع- لقول الله -جل في علاه-: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) [البقرة: 266]..
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نزلت هذه الآية.. في رجل غني يعمل بطاعة الله -عز وجل- ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله" أخرجه البخاري. وروى الطبراني بسنده عن قتادة في قوله -تعالى-: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ).. قال: " من استطاع منكم ألا يبطل عملاً صالحاً عمله بعمل سيء فليفعل "..
أيها المسلمون: داوموا على ما اعتدتم من الخير في رمضان ولا تنقطعوا عنه، وخذوا من العمل ما تطيقون الثبات عليه -ولوكان قليلاً-؛ فالقليل الدائم ينمو ويزكو، وبدوام القليل يدوم التعبد لله والذل له، والأُنس به والقرب منه والإقبال عليه، والكثيرُ الشاقُّ ينقطع ولا يدوم؛ فعن عائشة -رضي الله عنها - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تُطيقون؛ فإن الله لا يملُّ حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه -وإن قل- وكان آل محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا عملوا عملاً أثبتوه " متفق عليه.
وعن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها -: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: " كان عمله ديمة " أخرجه مسلم. وقال القاسم بن محمد: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته؛ أخرجه مسلم؟ وكره أهل العلم الانقطاع عن العمل الصالح؛ استنباطاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله --: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان..كان يقوم من الليل فترك قيام الليل "
وَبِهَذَا المَنهَجِ النَّبَوِيِّ الكَرِيمِ ، أَخَذَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَسَارُوا عَلَى طَرِيقٍ وَاضِحٍ مُستَقِيمٍ ، فَكَانَ أَحَدُهُم يداوم على العمل مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ مَدَى عُمرِهِ كُلِّهِ لا يَترُكُهُ وَلا يُفرِّطُ فِيهِ ، كَانَ مِنهُم مَن لم تَفُتْهُ تَكبِيرَةُ الإِحرَامِ مَعَ الجَمَاعَةِ في المَسجِدِ أَربَعِينَ سَنَةً ، وَكَانَ مِنهُم مَن خَتَمَ القُرآنَ في بَيتِهِ آلافَ المَرَّاتِ ، وَمِنهُم مَن كَانَ يَحُجُّ كُلَّ عَامٍ ، وَمِنهُم مَن أَدَامَ الصِّيَامَ ، وَمَا زِلنَا نَرَى تِلكَ السِّمَةَ في قَلِيلٍ مِن عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ في زَمَانِنَا هَذَا ، فَتَجِدُ أَحَدَهُم عَلَى جَادَّةِ الحَقِّ مُستَقِيمًا عُقُودًا مِنَ الزَّمَانِ ، مُوَلِّيًا وَجهَهُ صَوبَ آخِرَتِهِ مُنذُ عَشَرَاتِ السِّنِينَ ، صَامِدًا عَلَى الحَقِّ ثَابِتًا ، وَمِن هُنَا كَانَ ممَّا لا بُدَّ مِنهُ أَن يُحَاسِبَ كُلٌّ مِنَّا نَفسَهُ وَيُجَاهِدَهَا وَيُؤَدِّبَهَا ، فَلا يَترُكَ عَمَلاً صَالِحًا فَعَلَهُ وَبَدَأَ بِهِ ، وَلا يَقطَعَ خَيرًا ذَاقَ لَذَّتَهُ وَحَلاوَتَهُ ؛ بَل عَلَيهِ أَن يُدَاوِمَ وَلَو عَلَى القَلِيلِ , مَاشِيًا عَلَى تِلكَ القَاعِدَةِ النَّبَوِيَّةِ الذَّهَبِيَّةِ : " أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ " أقول ما تسمعون وأستغفر الله ....
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.. صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلَّمَ تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه.. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾ ، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾.
أيها المسلمون: تقربوا إلى الله -جل ثناؤه- بطاعته وعبادته، وأداء مفترضاته ونوافله؛ فكلما تقربتم إليه قربتم من داره ودنوتم من جواره ونجوتم من ناره.. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " قال الله -عز وجل-: إذا تقرب العبد مني شبراً تقربت منه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة " متفق عليه
فاستكثِروا يا مسلمون من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ والأوزار.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جنه وأنسه، فقال قولًا كريما: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)..
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أصحاب السنة المتبعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق إمامنا ووليَّ أمرنا لما تحب وترضى ، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأصلح بطانته يارب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اشفِ مرضانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وعافِ مبتلانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
ربحت البضاعة يا أهل الجماعة.doc
ربحت البضاعة يا أهل الجماعة.doc
المداومة على الطاعة بعد رمضان.docx
المداومة على الطاعة بعد رمضان.docx