خطبتان عن غزوة بني المصطلق مع الدروس والعبر

د مراد باخريصة
1432/08/21 - 2011/07/22 13:39PM
حديثنا اليوم عن غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر شعبان في مثل هذا الشهر من السنة السادسة للهجرة.
غزوة لم تكن طويلة الذيل ولاعريضة الأطراف من الناحية العسكرية إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والاضطراب في المجتمع الإسلامي وأظهر فيها المنافقون صوراً خطيرة من صور الخبث والتمرد والنفاق إنها غزوة بني المصطلق.

وسبب الغزوة أن رئيس بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول اله صلى الله عليه وسلم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بريدة الأسلمي رضي الله عنه ليتحقق من الخبر فانطلق بريدة إلى الحارث بن أبي الضرار رئيس بني المصطلق فكلمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤكد له صحة الخبر وعزم القوم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين فندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأسرع في الخروج فخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها فلما بلغ الخبر إلى بني المصطلق وتأكد لديهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحرك بجيشه إليهم وكانوا قد أرسلوا جاسوساً ليأتيهم بخبر الجيش الإسلامي فألقى المسلمون عليه القبض وقتلوه خافوا خوفاً شديداً وتفرق عنهم من كان معهم من العرب وأصابهم الرعب ودب في قلوبهم الخوف من تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه إليهم فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان يقال له المريسيع فيه ماء من مياههم تهيأ للقتال وصف صلى الله عليه وسلم أصحابه وأعطى الراية لأبي بكر الصديق وراية الأنصار لسعد بن عبادة
فبدأت المعركة بالترامي بالنبل فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل المسلمون على المشركين حملة رجل واحد فحملوا عليهم حملة رجل واحد فانهزم المشركون وقتل منهم من قتل وأسر منهم من أسر وسبى المسلمون نسائهم وذراريهم وأموالهم ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد قتله رجل من الأنصار ظناً منه أنه من العدو وكان من جملة نساء السبي بنت الرئيس رئيس بني المصطلق جويرية بنت الحارث وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة من بني المصطلق وقالوا أصهار الرسول صلى الله عليه وسلم ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزوة بقي مقيماً على ماء المريسيع وفي يوم من الأيام ازدحم رجل من المهاجرين مع رجل من الأنصار على الماء فاقتتلا فصرخ الأنصاري يامعشر الأنصار وصرخ المهاجري يامعشر المهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة فلما وصل الخبر إلى عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين غضب غضباً شديداً على المهاجرين وقال‏:‏ أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول‏:‏ سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على الحاضرين حوله فقال لهم‏:‏ هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير دياركم‏ فأخبر زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قاله عبدالله بن أبي بن سلول وكان زيد ممن حضر وسمع مقالة ابن أبي سلول فقال عمر‏ بن الخطاب يارسول الله:‏ مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله‏ فقال‏ النبي صلى الله عليه وسلم:‏ ‏(‏فكيف يا عمر بن إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه‏؟‏ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل‏)‏، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس وانطلقوا، فقال أسيد بن حضير يارسول الله ‏:‏ لقد رحت في ساعة منكرة‏؟‏ فقال له‏:‏ ‏(‏أو ما بلغك ما قال صاحبكم‏؟‏‏)‏ يريد ابن أبي، فقال‏:‏ وما قال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏)‏ قال‏:‏ فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال‏:‏ يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه – يعني ليجعلوه ملكاً عليهم- فإنه يري أنك استلبته ملكاً‏.‏
ثم مشى صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً‏.‏ فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث‏ ويصرفهم عن الافتتان والبلبلة والاضطراب.‏
أما ابن أبي فإنه لما علم أن زيد بن أرقم قد أوصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف بالله أنه ماقال هذا الكلام ولا تكلم به فلما حلف أنه ماقال قال بعض الأنصار يارسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله الرجل قال زيد فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في بيتي فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ إلى قوله‏:‏ {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ‏فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى زيد ليقرأ عليه هذه الآيات فقرأها عليه وقال إن الله قد صدقك.
وكان ابن هذا المنافق وهو عبدالله بن عبد اللة بن أبي بن سلول رجلاً صالحاً فتبرأ من أبيه ووقف له على باب المدينة واستل سيفه وقال والله لاتجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له وخلى سبيله وقال يارسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه.
وما إن انتهت هذه الواقعة الأليمة والصور المشينة من صور الزندقة والنفاق حتى وقعت واقعة أخرى أشد منها وأخطر إنها واقعة الإفك وحديث الإفك وقصة الإفك التي أربكت المدينة شهراً كاملاً وأفشت فيها سحب الشك والارتياب والاضطراب والبلبلة في عرض أم المؤمنين الطاهرة المطهرة الصديقة بنت الصديقة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها وعن أبيها.
الخطبة الثانية
ملخص هذه القصة أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة – غزوة بني المصطلق- بقرعة أصابتها فخرجت عائشة لقضاء لحاجتها ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه فرجعت تبحث عنه في الموضع الذي فقدته فيه فجاء النفر الذين كانوا يحملون هَوْدَجَها- وهو البيت الصغير الذي يصنع من الحطب ويغطى بقطع من القماش ويوضع فوق الجمل - فظنوها فيه فحملوا الهودج ولم ينكروا خِفَّتَه لأنها رضي الله عنها كانت خفيفة اللحم وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال فلما رجعت إلى مكان الجيش بعد أو وجدت عقدها إذا بالمكان ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المكان وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها فغلبتها عيناها فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ وكان صفوان في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم، فأناخ لها راحلته وما كلمها كلمة واحدة ولم تسمع منه إلا استرجاعه ثم سار بها يقودها حتى قدم بها فلحق الجيش فلما رأى الناس ذلك تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به فوجد الخبيث عبدالله ابن أبي بن سلول متنفساً له فأظهر سمومه ونفاقه وحقده فجعل يستجلي الأمر ويستوشيه ويشيعه ويذيعه وينشره بين الناس فلما قدموا المدينة أفاضوا في الإفك والكذب والبهتان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لايتكلم فلما كثرت الأقاويل والأراجيف أشار عليه بعض بأن يفارقها ويأخذ غيرها وأشار عليه بعضهم بإمساكها فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يستعذر من عبد الله ابن أبي ويقول من يعذرني في رجل بلغ أذاه في أهل بيتي فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت‏.‏
أما عائشة رضي الله عنها فقد مرضت بعد رجوعها شهرا كاملاً ولم تعلم عن حديث الإفك شيئاً ولم يخبرها رسول الله صلى الله ليه وسلم بشي، سوي أنها كانت لا تعرف اللطف الذي كانت تعرفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نَقِهَتْ من مرضها خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها فاستنكرت ذلك عائشة منها فأخبرتها بالخبر وقصت عليها القصة وأعلمتها بما يدور بين الناس من الحديث عنها رضي الله عنها فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتي أبويها فتستيقن الخبر فعرفت جلية الأمر فجعلت تبكي، فبكت لليلتين ويوماً لم تكن تكتحل بنوم ولا يرقأ لها دمع حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم إلى بيت أهلها، فتشهد ثم قال‏:‏ ‏(‏أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه‏)‏‏ فقالت عائشة رضي الله عنها لأبيها أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال فقال أبوبكر والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لأمها أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال فقالت أمها والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة:‏ والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم‏:‏ إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏}‏‏‏.‏
ثم تحولت فاضطجعت على فراشها، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك‏ فكانت أول كلمة تكلم بها‏ أن قال:‏ ‏(‏يا عائشة، أما الله فقد برأك‏)‏، قالت فقالت لي أمي‏:‏ قومي إليه‏.‏‏.‏ فقالت عائشة والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل‏.‏
و أنزل الله بشأن الإفك عشر آيات بدأها بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}>>>



__________________
كان الحديث في الجمعة الماضية عن غزوة بني المصطلق التي وقعت في شهر شعبان من السنة السادسة للهجرة ونريد اليوم أن نستلهم من هذه الغزوة بعض الدروس والفوائد والعبر فالسيرة ليست قصصاً تروى ولا أخباراً تذكر وإنما هي دروس وعبر يقول الله سبحانه وتعالى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}.
من الفوائد العظيمة التي نستفيدها من هذه الغزوة أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مليئة بالبلاء والشدة والمشاق والتحمل والجهاد والمجاهدة والصبر والمصابرة والأثقال والمتاعب فدولة الإسلام التي أقامها الرسول عليه الصلاة والسلام ماقامت إلا بأنهار من الدماء وأعداد من الشهداء وبما لايوصف من الجهد والبذل والعطاء هكذا قامت دولة الإسلام في البداية ولن تقوم في النهاية إلا بماقامت به في البداية فمن ظن أن الدولة الإسلامية ستقوم عبر مايسمى بالانتخابات الديمقراطية أوالطرق السلمية فهو واهم مخالف لأمر الله سبحانه وتعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته ومخالف للواقع.
إن من مكر بعض وسائل الإعلام اليوم أنها تشيع في أذهان المسلمين مايسمى بالدولة المدنية والثورة السلمية ليجعلوها بديلاً عن الجهاد المقدس الذي أمر الله سبحانه وتعالى به وهذا المكر الرخيص قد ينطلي على بعض أبناء المسلمين الذين لم يفقهوا النصوص الصريحة التي تدعوا إلى جهاد الكفار وقتلهم وقتالهم ولم يتأملوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت مليئة بالوقائع والمعارك فكانت واقعاً عملياً لتطبيق هذه النصوص وإنزالها على أرض الواقع.
فمن العبث إذاً ياعباد الله أن يعتقد المسلم هذا الاعتقاد أو يتصور هذا التصور أو يسمع لمثل هذه الأراجيف والأقاويل التي يبثها هؤلاء ويريدون من خلالها تثبيط المسلمين عن الجهاد الشرعي بحجة أن هذا العصر هو عصر الثورات السلمية والطرق الدبلوماسية وأن هذه النصوص الشرعية التي تدعوا إلى قتال الكفار ومجالدتهم لا تناسب عصرنا هذا ولاتصلح لهذا العصر.
إن هذه الأراجيف التي يبثها هؤلاء المرجفون ليست بالجديدة فقد بثها المرجفون من قبلهم يقول سلمة بن نفيل رضي الله عنه كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل يارسول الله أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا لاجهاد قد وضعت الحرب أوزارها فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال كذبوا الآن جاء القتال رواه النسائي وصححه الألباني في السلسة الصحيحة.
فيجب على المسلم أن يرجع إلى القواعد الثابتة والأصول الشرعية لا أن يستمع إلى الإعلام المنحرف الذي يروج لهذه الأكاذيب الكبيرة والنظريات الفاسدة التي خدعت الناس وعقدّتهم من مجرد الكلام عن الحكم الإسلامي وجعلتهم يخافون من تطبيق الشريعة الإسلامية يقول الله سبحانه وتعالى {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.
نسي الناس طريق النصر حسبوه يأتي باليسر
أو من غير دماء تجري أين جهاد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلا يجوز إذاً لأصحاب هذه الثورات أو لشباب الثورة أن يّدعوا أن هذه الثورات قضت على الجهاد أو أنها تحل محل الجهاد في هذا العصر أو أن هذا العصر هو عصر الثورات السلمية وليس عصر الجهاد. فالجهاد باق إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ولإقامة شرع الله شيء والثورات السلمية التي تدعوا إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية شيء آخر.
من العبر التي نستفيدها من هذه الغزوة ضرورة الحفاظ على السمعة السياسية ووحدة الصف الداخلية وهذا الدرس يظهر في قوله صلى الله عليه وسلم عندما قال له عمر في شأن عبدالله بن أبي بن سلول يارسول الله مر عباد بن بشر فليقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ياعمر فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
إنها المحافظة التامة على وحدة الصف وتحسين السمعة فهناك فرق كبير بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم وبين أن يتحدثوا أن محمداً يقتل أصحابه ولهذا لم يواجه النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي بن سلول بالقوة واستعمال السلاح مع أنه قال " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على وحدة الصف والحفاظ على المجتمع الإسلامي من التشقق والانقسام لأن لابن أبي أتباعاً مغرورين به منفذين لأمره فلو فتك به النبي صلى الله عليه وسلم لارتعدت له أنوف واحمرت له وجوه وثارت له نفوس فتركه النبي صلى الله عليه وسلم فكان لتركه أبعد الآثار فيما بعد فكان أصحابه أنفسهم هم من يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله حتى أن ابنه عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال لرسول الله يارسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه وقال أسيد بن حضير أنت يارسول الله تخرجه من المدينة إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز.
كما أن في قوله صلى الله عليه وسلم ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم … ) عندما اقتتل رجل من الأنصار مع رجل من المهاجرين على الماء درس واضح في المحافظة على وحدة الصف ورأب الصدع ومعالجة كل ما من شأنه أن يعكر الصف ويحدث الانقسام والافتتان ولذلك قال صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها منتنة.
كذلك مشيه صلى الله عليه وسلم بالجيش والرحيل به يومهم ذلك حتى المساء وليلتهم حتى الصباح وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس من أجل الحفاظ على المجتمع الإسلامي والجيش الإسلامي من الخوض في البلبلة والفتنة والقيل والقال التي حدثت بعد واقعة الاقتتال على الماء فصرف الناس بالمسير والمشي هذه الأوقات الطويلة حتى يصرفهم بهذا المشي عن الافتتان والاقتتال.
كذلك عندما أظهر أسيد بن خضير رغبته في قتل عبدالله بن أبي عندما اتهم زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإفك والبهتان فأخذت سعد بن عبادة الحمية القبلية فجرى بينهم كلام فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخفضهم حتى سكتوا وسكت كل هذا فيه دلالة واضحة على أن المحافظة على السمعة ووحدة الصف وجمع الكلمة أمر مهم جداً يقول الله سبحانه وتعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
ويقول سبحانه وتعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
الخطبة الثانية
من فوائد هذه المعركة أن الأسماء الشريفة إذا قصد بها تفريق المسلمين وتفتيت جماعتهم تصير من دعوى الجاهلية فمع أن اسم المهاجرين واسم الأنصار من الأسماء الشريفة التي ذكرت في القرآن إلا أن الأنصاري حينما قال ياللأنصار وقال المهاجري ياللمهاجرين قال النبي صلى الله " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء مع شرفها من دعوى الجاهلية لأنها استعملت استعمالاً خاطئاً لتفريق المسلمين وإحياء العصبيات الجاهلية والعنصرية بينهم فصارت من دعوى الجاهلية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها منتنة وهكذا إذا تعصب الإنسان اليوم لبعض الأسماء الشريفة مثل أهل السنة أو السلفية أو أنصار الشريعة أو السنة فإذا تعصب أصحاب هذه الأسماء لها ولم يكن ولاؤهم للمنهج كان هذا من التعصب المذموم.
في هذه المعركة فائدة عظيمة وهي أن العزة والرفعة لأهل الإيمان والذلة والمهانة لأهل النفاق والعصيان {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فأهل الإيمان هم أهل العزة والرفعة وإن قل عددهم وصاروا غرباء بين الناس وأهل النفاق أذلة أقلة وإن كثر عددهم وقويت شوكتهم لأن الغلبة في النهاية ليست لهم وإنما لأهل الإيمان كما قال الله جل جلاله وعز كماله {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ويقول {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
من الفوائد أيضاً منزلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفضلها حيث أنزل الله في براءتها آيات تتلى إلى يوم القيامة حتى قالت رضي الله عنها ( ولكن والله ماكنت أظن أن الله سبحانه وتعالى منزل في شأني وحياً يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ولكن كنت أرجوا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك وقال ياعائشة أما الله فقد برأك)
برأها الله من تهمة المنافقين لها الذين اتهموها في تلك الغزوة وإلى اليوم لازال أهل النفاق من الشيعة الروافض يطعنون في عرضها ويتهمونها ولكنه ابتلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابتلاء لأبيها أبي بكر الصديق وابتلاء لها رضي الله عنها أراد الله أن يستمر أجرها بطعنهم فيها إلى يوم القيامة.
ومن الإشارات والفوائد في الغزوة المثل الأعلى في الولاء والبراء الذي ضربه عبدالله بن عبدالله بن أبي حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "يارسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه" مستعد رضي الله عنه أن يقتل والده دفاعاً عن رسول الله وانتصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا قمة الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين يقول الله سبحانه وتعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بينت الغزوة أن خطر المنافقين أشد وأعظم من خطر الكافرين لأن عداوة الكافرين جلية وعداوة المنافين خفية فهم من المسلمين وأسماؤهم كأسماء المسلمين ويصلون ويصومون كالمسلمين ولكنهم يكيدون للإسلام ولأهل الإسلام ولهذا قال الله عنهم في سورة " المنافقون" التي أنزلها في هذه الغزوة غزوة بني المصطلق {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
المشاهدات 5048 | التعليقات 0