خطبتان عن الإمام أحمد, مواقفه, ومحنتة والدروس منها

د. منصور الصقعوب
1433/05/19 - 2012/04/11 06:09AM
مواقف من حياة الإمام أحمد

الخطبة الأولى 6/5/1433هـ
معاشر المسلمين: يطيب الكلام حين يكون عن الأعلام الذين سطر التاريخ مآثرهم وبقيت على مر الأيام أخبارهم, وحديث اليوم هو عن السير التي تزخر بالدروس والعبر، وعن القدوات الذين حازوا قصب السبق في كثير من المجالات .
وكم نحتاج إلى ذكر أخبار الأعلام في زمن قلّت القدوات, ونبرز سير النجوم في زمن صرفت فيه النجومية لمن ليسوا أهلاً لها .
إنه حديث : عن علمٍ من أعلام المسلمين، عن إمامٍ إذا ذكر أهل السنة فهو إمامهم وإذا ذكر العلماء فهو في مقدمتهم .
إنه إمام أهل السنة والجماعة.
أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني.
ومن ذا الذي لا يعرفه وهو أحد الأئمة الأربعة وإليه ينسب المذهب الحنبلي، ومن ذا الذي لا يعرفه وهو أحد حفاظ المسلمين، والذي ألف للأمة كتابه العظيم الموسوم بالمسند، في ثلاثين ألف حديث.
ومن ذا الذي لا يعرفه وهو الذي ثبت يوم المحنة ثبات الجبال. يوم تساقط جل الناس، حتى قيل: نصر الله الدين برجلين، بأبي بكر يوم الردة وبأحمدَ بن حنبل يوم المحنة والفتنة.
عباد الله:وحياة كحياة ذلك الإمام أنى يحيط بها خطيب في خطبته، سيما وقد ألفت فيها المؤلفات، ولا يجد المتحدث عنها حينها إلا أن يذكر لمحات من هذه السيرة, ليدع ما سوى ذلك مودعاً في مظانة من كتب السيرة لمن رامه, فدعونا نعيش مع سيرته, ونقفُ مع بعض مواقفه
لقد عاش الإمام أحمد يتيماً ومات والده وعمرة ثلاث سنوات ولعمري فما ضر اليتم يوما من الأيام أحدا, بل لربما نشأ خيرا من غيره.
وهكذا كان الإمام أحمد: فقد بزّ أقرانه وفاق خلانه. وسبقهم في العلم والعبادة, وما كان لذلك الغرس أن ينمو إلا بتوفيق الله ثم عناية الأم, وكم للأم من دور في تربية الأجيال, كانت ترعاه وتحضره للمسجد في صغره, وتنتظره حتى يفرغ من صلاته فتعود به, وقال عن نفسه: ربما أردتُ الذهاب مبكراً في طلب الحديث قبل صلاة الفجر ، فتأخذ أمي بثوبي وتقول : حتى يؤذِّن المؤذِّن.
عباد الله: لقد كان الإمام أحمد فقيرا قليل ذات اليد, فربما ترك السفر لأنه لم يملك شيئاً, فإذا وجد مالاً خرج لطلب الحديث.
رهن نعله عند خباز باليمن, وأكرى نفسه من جمّالين عند خروجه, يحمل لهم بالأجرة, وكان أقرانه يعرضون عليه المال فيمتنع.
وما زال ذلك الشاب ساعيا في تحصيل العلم حتى سافر على الرواحل والأقدام إلى اليمن والحجاز وغيرها من بغداد في سبيل تحصيل الحديث وما تردد لأجل المشقة فأين همم طلاب العلم اليوم في زمن تيسرت فيه كل وسائل التحصيل, وربما رأيت مع قرب المنال الكسل والملال.
وفي خبر حفظه للقرآن يقول كنت أحفظ القرآن فلما بدأت بالحديث انشغلت عن القرآن فقلت متى أحفظه . فسألت الله أن يمن عليَّ بحفظه ولم أقل في عافية, فما حفظته إلا في السجن والقيود فإذا سألت الله حاجة فقل في عافية .
وإذا كان هذا هو الإمام أحمد فما أحرى شباب اليوم إلى أن يعتنوا بحفظ القرآن قبل أن تتشعب بهم المشاغل, ويشغلهم طلب الدنيا وطلب العلم عن حفظه .
أيها الكرام: لقد كان الإمام متورعاً عن المال الحرام وما فيه أدنى شبهة, رهن سطلاً له عند صاحب خضار، ولما جاء يطلب سطله أخرج إليه سطلين، فقال: انظر أيهما سطلك ؟ فقال: لا أدري أنت في حل منه، وخذهما لك, كل ذلك خشية أن يأخذ بالخطأ سطلاً غير سطله, تركهما تورعاً وتعففاً.
وحين ذاع صيت الإمام وعلا ذكره وطار خبر علمه وكثر الثناء عليه زمن المحنة, جاء إليه المروزي فقال : يا أبا عبد الله إن رجلاَ قال لي إنه من بلاد الترك إلى ها هنا يدعون لك، فكيف تؤدي شكر ما أنعم الله عليك، وما بث لك في الناس، وإن الجنود في المعركة إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء أدعوا الله لأبي عبد الله فقال : ليته لا يكون استدراجا أسأل الله أن لا يجعلنا مرائين, يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه، فما ينفعه كلام الناس, وكان إذا أثني عليه قال: ليس يحرز الرجلَ المؤمن إلا حفرتُه، الأعمال بخواتيمها .
ودخل عليه أحد الصالحين فقال : إنَّ أمي رأتلك مناماً هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال : يا أخي إنَّ سهل بن سلامة كان الناسيخبرونه بمثل هذا ، وخرج في سفك الدماء، الرؤيا تسرُّ المؤمن ولاتغره, نحن أدرى بأنفسنا من أصحاب المنامات.
أيها الكرام: ولقد كان الإمام أحمد من أفاضل الناس نسباً، ومع هذا فإذا ذكرت الأنساب عنده لا يأبه بها, قال أحد تلاميذه: قلت له يوما يا أبا عبد الله، بلغني أنك من العرب فقال: يا أبا النعمان، نحن قوم مساكين, فلم يزل يدافعني حتى خرج، ولم يقل لي شيئا.
رسالة تهدى لأقوام لا تحلو مجالسهم إلا بالحديث عن الانساب والفخر بالأحساب .
وكان لا يرى لنفسه على الناس قدراً قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشئ مما كان فيه من الخير, وقال أحد تلاميذه: قلت له يوماً إن فلانا، قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، بل زهد في الناس, فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس ؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيّ.
وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله عن الاسلام خيراً, قال: بل جزى الله الاسلام عني خيراً, من أنا وما أنا ؟
عباد الله: ولقد كان الإمام أحمد على ما ناله من الشهرة إلا أنه من أشد الناس بعداً عنها, هذه الشهرة التي ينالها من لا يريدها’ وقد لا ينالها من يطلبها, وقد قيل لأحمد مالشهرة ؟ فقال لا أدري إلا أنها طيلسانات تسقط من السماء على رؤوس أقوامٍ يقولون برؤوسهم عنها هكذا وهكذا, أي هم لا يريدونها وهي تلحقهم.
قال المروزي : سمعته يقول: والله لو وجدت السبيل إلى الخروج لم أقم في هذه المدينة، ولخرجت منها حتى لا أُذكر عند هؤلاء ولا يذكروني.
وقال: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحا ومساء.
فماذا نقول في زمن أصبحت الشهرة مطلبا ومرادا بعد أن كانت عند الإمام أحمد بلية .
عباد الله: ومن عجيب أمر الإمام أنه كان يحفظ من الأحاديث والأسانيد ما يبلغ مئات الآلاف
وقال الوراق: ما رأيت مثل أحمد، سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب، فيها بحدثنا وأخبرنا أي بالحديث، ولعمري ما نال هؤلاء العلم بالدعة والكسل، بل بصبر وجلد وعزمية لا تُفلّ، وطلب متواصل, حتى قال عن نفسه وقد عوتب في ملاحقته للدروس والأئمة " مع المحبرة إلى المقبرة" فما أحرى طلاب اليوم إلى أن يقتدوا بأولئك الرعيل ويعلموا أن العلم لا ينال براحة الجسم ويعرفوا لأولئك الأئمة قدرهم في زمن أصبح التطاول على هؤلاء الكبار فرصة سريعة لمن أراد الظهور والبروز.
وحينما يذكر الزهد فالإمام أحمد إمام فيه فلقد أتته الدنيا فأباها والرياسة فنفاها, عرضت عليه الأموال وفرضت إليه الأحوال وهو يرد ذلك بتعفف وتعلل ويقول : قليل الدنيا يجزيء وكثيرها لا يجزيء, وما قل من الدنيا كان أقل للحساب, ويقول : إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وأيام قلائل, ولقد ذكرت ببعض كتب التراجم عنه أنه مكث في حذائه ثمانية عشر عاماً .
أما والله ليس ذلك بخلاً وليس كل ذلك فقراً لكنه معنى من معاني الزهد وأن الدنيا متاع يكفيك منها القليل وأن القضية ليست بالمظاهر بل بالمخابر فأين هذا من حال بعض شباب اليوم ممن لا هم له إلا مظهره, وليست العناية بالمظهر مذمومة لكن الإشكال حين تلهي وتكون الغاية وتكون بالسرف والتبذير.
وأما عن عبادته فقد كان يمضى كثيراً من يومه في الصلاة, وكان يصلى العشاء فينام بعدها نومة خفيفة ليقوم بعد ذلك يصلي ويدعوا إلى الصباح, ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض, وبالتعبد والعمل بالعلم ينال العلم .
وكم ترى من امريء يطلب العلم فلا يوفق له وما علم أن ذلك ليس بكثرة الحضور والقراءة بل لا بد لذلك من وقود العبادة والعلاقة مع الله, وماذا يغني علم وصاحبه لا يعمل به .
أتى بعض طلاب الحديث إلى الإمام أحمد فنام عنده فوضع عنده ماء ليتطهر به ولما أتى لإيقاظه للفجر وإذا الماء على حاله لم يُمس فقال له أبو عبد الله سبحان الله طالب حديث وليس له حظ من قيام الليل ؟.
اللهم علمنا وارزقنا العمل بالعلم, أستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية:
تذكر كتب السير أن الإمام حين مرض مرض الوفاة طرق الباب عليه رجل قد شابت لحيته, وتقاطرت دمعاته, وحين فتح الباب له ألقى بنفسه على الإمام وقال له متوسلاً: أعف عني أبا عبد الله فأنا ممن جلدك عند الخليفة, أتدري كيف جلد, لقد جلد جلداً أغمي من شدته مرات, قال أحد جلاديه: جلدته جلداً لو وقع على فيل لمات.
هنا؛ أريد منك أن تقف وتتذكر من ظلموك, وكيف تعاملت معهم, كيف كان أذاهم لك, وظلمهم إياك, هل عفوت عنهم ؟ وتعال بعد ذلك وانظر كيف تعامل الإمام مع هذا الذي جلده.
لقد التفت إليه الإمام أحمد وقال له: والله ما خرجت من ذلك المكان إلا وقد عفوت عن كل من ظلمني إلا صاحب بدعة, ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال:يا بني إني قرأت القرآن فإذا فيه أن الله يقول ( فمن عفا وأًلح فأجره على الله) وإني نظرت في تفسيرها فإذا فيها أن الله يقول يوم القيامة أين من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا عن غيره, يا بين وما يضرك ألا يعذب مسلمٌ بسببك
فما أسماها من نفوس وما أعظمه من عفو لا يقدر عليه إلا الكرام.
وأما حاله مع أهل بيته فقد كان يكثر أن يترحم على زوجته ويتصدق عنها كثيراً وقال: أقامت معي زوجتي أم صالح ثلاثين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة, وبالوفاء يدوم الصفاء .
ولفته من لفتات التربية عند الإمام أحمد تبين لك حين نصب ابنه صالح للقضاء، فقريء الكتاب بذلك وألبس السواد وعنده المشائخ وهم يدعون له وإذا صالح ابن الإمام يبكي بكاء شديداً فسألوه عن ذلك فقال: ذكرت أبي أن يراني في مثل هذه الحال وكان أبي يبعث خلفي إذا جاءه رجل زاهد أو متقشف لأنظر إليه ويقول أين صالحٌ يرى هذا يحب أن أكون مثله, ولكن الله يعلم ما دخلت في هذا الأمر إلا لدَين غلبني وكثرة عيال.
أيها الكرام: وفي زمن تساهل البعض مخالطة الكفار ومحبتهم وإكرامهم, وميّع البعض عقيدة البغض للكافر, مهمٌ أن يذكر بقوله الإمام أحمد حين قال : لا أطيق أن أنظر إلى نصراني, وكيف أنظر إلى من يقول إن لله ولداً, ليس يعني بذلك التعدي عليه, لكن قلب المؤمن لا بد أن ينطوي على بغض الكافر الذي يجاهر الله بكفره.
عباد الله: ولم ينتهي الحديث عن سيرة هذا العلم, فقد بقي من حياته أشد مراحلها, وذاك حديث نحتاجه في زمن الفتن والمحن, حين تعرض الإمام للفتنة فثبت, ومواقف أخرى فيها عبرة, وذاك مما نشير له في الخطبة القادمة.



الإمام أحمد والدروس من المحنة

الخطبة الأولى 14/5/1433هـ
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهرَه على الدين كله وكفى بالله شهيداً. أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصرَّ به من العمى، وأرشد به من الغيّ، وفتح به أعيناً عميًا، وآذاناً صمًّا، وقلوباً غلفًا، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعَبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
ما زال حديثنا أيها الكرام عن الإمام أحمدَ بنِ حنبلٍ ومواقفه, وليس بكثير على إمام أهل السنة أن يتحدث عنه في خطبتين وأكثر.
معاشر المسلمين : في زمن مُليء بالفتن, ووقت يعج بالتقلبات والتغيرات, مُهم أن يذكّر بفتنة الإمام أحمد ومحنته, تلك التي دخل فيها فنجح بامتحان, نُذكِّر بها في وقتٍ قد تُعرض الفتنُ على العالم أو الداعية أو المؤمن أياً كان, تُعرض ليُفتن عن دينه, أو ليُزحزح عن تمسكه, أو لتُشترى ذمتُه, وهنا فربما تساقط أقوامٌ, وتغيرت ذمم, وقليل من يوفق للثبات أمام الشدائد
لقد ابتلي الإمام بالشدة والرخاء, بالسراء والضراء, بالدين والدنيا.
فأما فتنة الدين فمحنة القول بخلق القرآن, تلك المحنة التي امتُحن على القول بها العلماء, وأوذي لأجلها الفضلاء, ذلك أن الناس كانوا على منهج السلف من القول بأن القرآن كلام الله, مُنزٌّل غير مخلوق, وأن الله يتكلم متى شاء بما شاء, حتى ظهرت المعتزلة القائلين بتأويل الصفات, وترتب على ذلك تأويلهم لصفة الكلام لله, وقولهم أن القرآن لم يتكلم به الله بل خلقه, وكان هذا الاعتقاد مؤداه تعطيل الله عن صفاته, ولم يكن لهؤلاء المعتزلة كلمة بل كانوا يستترون ببدعتهم زمن هارون الرشيد, الذي أقسم ليقتلن من قال بذلك, حتى جاء الخليفة المأمون فأثّر عليه هؤلاء وخالطوه, وحسنوا له القول بالبدعة وعاضدوه, وحينها تكلموا عن قوة إذ الخليفة بأيديهم, فصار الخليفة يمتحن الناس بهذه المقولة, ويستجوبُ العلماء في الأمصار, فمن أبى جُلد وسُجن, فإن أبي قُتل, فتساقط العلماء متأولين, ولكن بقي من العلماء اثنان الإمام أحمد, ومحمد بن نوح, فقيدا وارتحل بهما إلى الخليفة, فدعا الأمام أحمدُ أن لا يريه الله المأمون فمات المأمون وهم في الطريق.
وحينها أُرجع الإمام لبغداد, وتولى الخلافةَ المعتصم, وصار رئيس القضاة عنده رأس المعتزلة ابن أبي دؤاد, فاشتد الأمر بأهل السنة, وسُجن الإمام أحمد وهو مريضٌ, ثم حُمل إلى الخليفة, فجُمع له رؤوس المبتدعة يناظرونه, فيغلبهم, وحين أصر على موقفه أَمرَ الخليفةُ بجلده فضربوه حتى أغميَ عليه، فقال له المعتصم بعد أن أفاق: يا أحمد، ويلك تقتل نفسك، ويحك أجبني حتى أُطلق عنك بيدي، والإمام أحمد لا يجيب، والفقهاء المبتدعة يُحرضون المعتصم على قتل الإمام أحمد ويقولون: هو شيخ ضال مبتدع! اقتله ودمه في رقابنا, والمعتصم يقول لئن أجبت لأطلقن قيدك بيدي ولأركبن إليك بجندي ولأكرمنك, وهو ثابت أمام كل تلك الأحوال, عندها أمر المعتصم جنوده بضربه بالسياط، وهو يقول لكل واحد منهم: أوجع قطع الله يدك, حتى أُغمي على الإمام أحمد، ثم رموه على حصيرٍ، وكبُّوه على وجهه وداسوه .
عندها ثار الناس واجتمع الألوف بباب الخليفة, فخشي الخليفة من الفتنة, ومِن أن يموت الإمام من التعذيب فأمر بإخراجه من السجن, وإرجاعه لبلده ففرح الناس بالفرج له.
ثم ندم الخليفة المعتصم بعد ذلك على ما فعله بالإمام أحمد, وفتح المجال لأحمد فأفتى وحدث، حتى مات المعتصم، وتولى ابنه الواثق، وعندها عظُم البلاء والكرب، فقد أظهر الواثق هذه المقالة أيضاً، ومال إلى المبتدعة وكان أطوع لهم من سابقه، وضرب عليها وحَبس، وآذى أهل السنة، واشتد الأمر على أهل بغداد، فجاء نفر إلى الإمام أحمد يسألونه الخروج على الخليفة الواثق، فنهاهم عن ذلك
وطلبه الواثق فاختفى الإمام أحمد في بيوت أصحابه ثم بيته بقية حياة الواثق وولايته لا يخرج إلى الصلاة ولا غيرها حتى مات الخليفة
ولشدة اتباع الإمام للسنة أنه حين كان مختبئاً في بيت أحد تلاميذه فبقي في بيته ثلاثة أيام, ثم قال: اطلب لي موضعا، فقال له: لا آمن عليك، والناس يبحثون عنك, فلما أًصر على بقائه قال له أحمد: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول, وليس ينبغي أن تُتّبع سنة رسول الله في الرخاء، وتُترك في الشدة .
وحين أذن الله للمحنة أن تزول جاء الخليفة المتوكل, وعندها بدأ فتنة الدنيا, فألغى الخليفة الحظر عن الإمام أحمد وأحسن إليه ورفع شعار السنة ودحر البدعة, وكان الإمام أحمد عنده مقدَّراً مكرماً, فصار يتمكن من الخروج للصلاة والتحديث, وما زال الخليفة يرسل له بالعطايا والأموال وهو يرفضها, وإن أخذ فعلى مضض, ويطلب الخليفة قربه وهو يتباعد, ووقعت بينه وبين ابنه صالح جفوة حين قبل تلك العطايا
قال ابنه صالح : وكان رسول المتوكل يأتي أبي يبلغه السلام، ويسأله عن حاله فنسر نحن بذلك, وأما أبي فتأخذه قشعريرة حتى ندثره، ثم يقول: والله لو أن نفسي في يدي، لأرسلتهاويضم أصابعه ويفتحها.
وكان يقول بعد ذلك: هذه الفتنة بالسراء أشد من فتنة الضراء, والله إني لأتمنى الموت صباحا ومساء.
وأخيراً حضرت الإمامَ أحمدٌ الوفاة فمات في ضحى الجمعة, واجتمع لجنازته جموع لم تشهد بغداد مثلها, وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب، ينادون من أراد الوضوء, وحينها تذكر الناس مقولةً كان الإمام أحمد نفسه يرددها ويقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز, نعم فالناس في الجنائز لا يأتون إلا لمن يحبون ويعظمون, ولذا فجنائز الصالحين مشهودة, وجنائز الظالمين مهجورة, فاللهم اغفر للإمام, واللهم صل على محمد
الخطبة الثانية:
عباد الله: تتجلى في تلكم الأحداث عدة دروس :
فمنها: أن المؤمن على يقين أن الابتلاء لا يدوم وأن الشدائد لا بد أن تزول وأن الليل البهيم لا بد أن يعقبه الصباح, لقد طالَ الإمامَ من الابتلاء ما استمر سنين, ثم رفع الله الشدة بعد ذلك, فأين هذا ممن يتضايق من الابتلاء أو يتبرم من الامتحان أو يتأفف من الضراء, فالفرج يأتي مع الكرب, والصبح يطلع حين تشتد الظلمة.
ومن دروس المحنة أن الابتلاء هو درب الصالحين, فكم أوذي العلماء وسجنوا, بل وكم قتل منهم وكم ظُلِم, ولا جرم فالله يريد لهم الأجر والتمكين, ولا يمكن المرء حتى يبتلى, وها قد مضى شانئوهم بلا ذكر حسن, وبقي ذكر الإمام على كل لسان.
ومن هذه الدروس أن الناس في الفتن والشدائد يقتدون بالعلماء, وينتظرون منهم الموقف ليعرفوا الحق من غيره, وحين يغيب العالمُ عن أوقات الفتن تضطرب الأمور, ويتصدى لها النكرات, فيَضِلّون ويُضِلّون, وهذا ما وعاه أحمد.
قال المروذيّ للإمام أحمد وهو يقدم للجلد والعذاب: "يا أبا عبدالله، قال الله جل وعلا: ((ولا تقتلوا أنفسكم))، فقال الإمام أحمد: يا مروذي أخرج فانظر أي شيء ترى، قال: فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أدرعتهم، فقال لهم المروذي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أبو عبدالله فنكتبه، فدخل إلى الإمام أحمد فقال: لقد رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه، فقال الإمام أحمد: يا مروذي، أُضِلُ هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء
وقال إسحاق بن حنبل-عم الإمام أحمد-: "دخلت على أبي عبدالله وهو في السجن، فقلت: يا أبا عبدالله قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين الله عز وجل، وقد أجاب القوم، وبقيت أنت في الحبس والضيق، فقال الإمام أحمد: يا عم، إذا أجاب العالم تقيّة والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟"
ولئن كان هذا ثبات الإمام فإن شرارة الفتنة بدأت حين تنازل بعض العلماء واستجابوا للخليفة, وهم محدثو بغداد السبعة حين استجوبوا فأجابوا تقية, فكان الإمام أحمد يقول بعد ذلك: هم أول من ثلموا هذه الثلمة.
فهل يعي طالب العلم هذا الكلام, ويستشعر أن أهل الشر قد يفرحون منه بأدنى تنازل في المواقف, فما أعظم التبعة
ومن الدروس أيضاً أيها الكرام: أن العلماء يحتاجون إلى من يشد من عزمهم وقت الفتن, فالعالم بشر, وربما يتأثر بتخاذل الناس, وهنا فالكلمة الصادقة من التثبيت لها شأن في ثبات المؤمن على الحق, قال الإمام أحمد بن حنبل: "ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحَبة قوم، قال: "يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا فقوىّ قلبي"
ما أحوجنا ونحن في زمن فتن, ووقتٍ قد ترى أهل الشر يوجهون سهامهم لداعية أو لعالمٍ أن نشد من عزم العالم والداعية الذي يقف في وجه المفسدين, ويثبت أمام فتن الدين, ليقوى قلبه, وينشط من العلماء غيرُه .
عباد الله: ومن روائع مواقف الإمام في المحنة العفو عن من آذاه, فلقد تولى كبر أذاه أحمد بن أبي داود, ومرت الأيام وتدور الأمور بالرجلين فيصير أحمد بن حنبل مكرماً عند الخليفة, وابن أبي دؤاد منبوذاً منه, ويتهيأ لابن حنبل الانتقام من خصومه, فيطلب منه وزير الخليفة أن يطلب من المتوكل ما يريد في شأن ابن أبي دؤاد, وهنا تتبين معادن الأخلاق, فلقد عفا عنه وعن كل من ظلمه, وقال معاذ الله أن أنتقم منه
عباد الله: والحرص على دفع الضرر عن المسلمين، ولو أدّى ذلك إلى الإمساك عن بعض طرق الخير، يقول حنبل: "لما مات المعتصم وولي ابنه الواثق، أكثر الناس من الأخذ عن الإمام أحمد، فشق ذلك على أهل البدع، فكتب قاضي بغداد إلى ابن أبي دؤاد: أن أحمد قد انبسط في الحديث، فلما بلغ أبا عبدالله أمسك عن التحديث من نفسه من غير أن يمنع"، وهذا من فقه وحكمته، خوفا من حصول فتنة تسلط أهل الأهواء ثانية.
أيها المسلمون: وتحري العالم السنة والحرص على حقن الدماء حتى وهو مظلوم ومؤذى درس من دروس المحنة, لقد جاءت الجموع إلى أحمد يطلبون منه أن ينزع يد الطاعة من الخليفة وذكروا ظلمه وبدعته فقال: عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر, هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر. (السنة للخلال)
إنه موقف من عالمٍ يبين قدر العلماء في زمن الفتن, وأنهم بعد توفيق الله صمام الأمان للمجتمع المسلم.
وبعد فتلك إشارات ولمحات, لبعض ما وقع في حياة إمام أهل السنة, والدروس التي ينبغي أن يعيها الناس في وقت الفتنة والمحنة, سيرة حرية بالعناية, ومواقف جديرة أن تذكر, وما تركت أكثر مما ذكرت, فليتنا نعود لسير أولئك الأعلام حقاً, وليت سير هؤلاء تدرس في مناهجنا, فهؤلاء هم النجوم حقاً في زمنٍ غارت فيه النجوم.
غفر الله للإمام, وصلى الله وسلم على محمد وصحبه الكرام
المشاهدات 3615 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا


وفيك الله بارك أخي شبيب


بارك الله فيكم