خطبة "من جد وجد"

راكان المغربي
1440/12/29 - 2019/08/30 08:27AM

"كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درسًا على العلماء شرحًا وتصحيحًا في مختلف الفنون في الفقه والحديث والنحو والصرف وأصول الدين وأصول الفقه ، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة"

كان يتحدث عن فترة طلبه للعلم فيقول : "وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض". يعني: كان ينام وهو جالس، ثم لا يلبث أن يستيقظ للاستمرار في طلب العلم.

وكان يقول : "إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه".

ويتحدث تلميذه عنه فيقول : "وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكاناً أجلس فيه" ، فما كان الزائر يجد مكاناً يجلس فيه من كثرة الكتب التي يطالعها.

ذلكم هو الإمام محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله ، وهذه مقتطفات من سيرته في جده في طلب العلم..

همة عالية وصبر عظيم واجتهاد عجيب!

ثم ماذا؟! ما الثمرة التي جناها النووي بعد كل هذا التعب والجد في حياته؟!

قلب نظرك في رفوف المكتبات.. وأنصت سمعك لدروس المساجد.. وخذ جولة في حلقات العلم والمدارسة..

هل ستجدها تخلو من أحاديث الأربعين النووية؟! وأحاديث رياض الصالحين؟!

ستجدها محفوفة بشروح الإمام النووي وفقهه ومروياته ..

نعم لقد تعب الإمام النووي في طلبه للعلم وكان تعبه سنوات معدودة، والآن ونحن بعد ثمانية قرون من وفاته نرى ثمرة ذلك التعب..

لقد أعلى الله ذكره ، وسخر ألسنة المسلمين للدعاء له بالرحمة كلما ذكروه ، ولا يزال العلماء وطلبة العلم وعامة الناس ينهلون من علمه الذي تركه ، ونحسب أن الله يجري له من الأجور ما لا يحصيه إلا هو سبحانه..

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله*** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

ذلك أن "من جد وجد ، ومن زرع حصد"

هذا مثال واحد من آلاف النماذج التي تمتلئ بها كتب تاريخنا وسير رجال هذه الأمة الولود.. أولئك الذين رفعهم الله في الدنيا والآخرة ورأينا ثمار جهدهم وجدهم وتعبهم في الدنيا وما عند الله خير وأبقى..

وكما أن الدرجات العلى في الآخرة لا تحصل إلا بالجد والاجتهاد ، فكذلك هي معالي الأمور في الدنيا لا تنال إلا بشيء من التضحيات والبذل حتى تصل إلى المراد..

فهذا الطالب الياباني "أوساهير" ابتعثته دولته قبل نهضتها في مهمة صعبة شاقة وهي تعلم سر حضارة أوربا المادية ونقلها إلى اليابان ، وهذا الطالب له قصة طويلة يحكي فيها قصة كفاحه في تحقيق طموحه ولعلنا نقتبس شيئا منها فيقول : "قضيت في الدراسات والتدريبات ثماني سنوات, كنت أعمل خلالها ما بين عشرة وخمس عشرة ساعة في اليوم, وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة, وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة ، وعلم ((الميكادو))- الحاكم اليابانيّ – بأمري فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة, وأدوات وآلات, وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت, فوضعت راتبي وكل ما ادخرته"

ويمضي يحكي قصة كفاحه في كلام طويل لا يتسع المجال لذكره..

ثم ماذا كانت نتيجة هذا الكفاح وهذا التعب؟!

كانت النتيجة أن هذا الطالب هو أول من أنشأ مصنعا للمحركات اليابانية وكان هو أحد أهم أسباب نهضة اليابان الصناعية.. وما كانت لتحصل له هذه النتيجة إلا بالهمة العالية والجد في الطلب ..

وما نيل المطالب بالتمني**** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

ذلك أن "من جد وجد ، ومن زرع حصد"

معاشر المسلمين..

يقول النبي ﷺ : (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)

ومن معالي الأمور أن تعيش في هذه الدنيا ولك طموحات عالية تسعى إلى تحقيقها ، وأهداف سامية تبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليها ..

أما الحياة التي غاية طموحاتك فيها اللهو واللعب ، والطعام والشراب فهي حياة باهتة ، خالية من الإنجازات ، قاتلة للأوقات ، قاضية على بركة الأعمار..

وكلا الفريقين سيذوق ثمرة عمله ونتاج سعيه..

من كان سالفا في مقاعد الدراسة ينام ملء عينيه ، ويأكل ملء بطنه ، ويقضي كل وقته لهوا ولعبا وكسلا وإهمالا .. يا ترى أين سيكون الآن ؟!

لقد آثروا الراحة في سنوات التحصيل ففاتتهم الراحة اليوم ، تجد منهم من يعض أصابع الندم على كل ساعة فرطوا فيها وآثروا اللعب على الجد ، وقدموا الكسل على العمل.

وفي الطرف الآخر أولئك الذين كانوا يواصلون الليل بالنهار ، ويحرمون أنفسهم من بعض الملذات جدا واجتهادا وتحصيلا ، يا ترى أين هم اليوم ؟!

نعم لقد تعبوا قليلا ولكنهم ارتاحوا كثيرا ..

وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مُرادها الأجسامُ

يتحدث ابن القيم رحمه الله في كلام نفيس يلخص ما ذكرناه فيقول : "المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب و قد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم و أن من آثر الراحة فاتته الراحة ...وإذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان ولا قوة إلا بالله"

بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية

ساعات تفصلنا عن سنة جديدة وعام دراسي جديد..

وهذا الحدث فرصة مناسبة للبداية في الحياة الجادة التي تتزين بالإنجازات ، وتحلو بتحقيق الطموحات ، والعلو في الدرجات ..

من الجميل أخي المسلم أن تجلس جلسة تفكر فيها مع نفسك..

ما الأهداف التي أريد تحقيقها؟

ما الخطة التي أريد السير عليها؟

ما المشروع الذي أود إنجازه؟

تحقيق درجة عالية في الدراسة أم حفظ القرآن أم قراءة كتاب أم حضور دورات أم سماع محاضرات أم بناء مسجد أم كفالة يتيم أم القيام على أرملة أم تعلم علم أم تنمية الأبناء وتطويرهم...إلخ

المشاريع كثيرة والوقت متاح والإمكانات متوفرة..

لكن تحتاج أن توقد الهمة في داخلك ثم تتحلى بالعزيمة وتتقوى بالاستعانة بالله وإنما هي أيام وعند الصباح يحمد القوم السرى..

أمتنا اليوم تعاني الضعف في شتى المجالات ، وهي بحاجة إلى أقوياء من أبناءها يأخذونها بالجد وينقلونها إلى مقدمة مصاف الأمم كما كانت من قبل ، ومن للإسلام إن لم نكن نحن؟!

أخيرا خذ هذه الوصية من وصايا الحبيب الغالية واجتهد للعمل بها وضعها نصب عينيك دائما، قال ﷺ : (الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ)

اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد

اللهم وفقنا لما تحب وترضى وخذ بناصيتنا للبر والتقوى

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

من-جد-وجد

من-جد-وجد

المشاهدات 2203 | التعليقات 0