خطبة 4 - 12 - 1436 أيام المنافع
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1436/12/01 - 2015/09/14 06:07AM
أيام المنافع
4/12/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عِمْرَانَ:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الْأَحْزَاب:70- 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: لِرَبِّنَا جَلَّ فِي عُلَاهُ مَعَ عِبَادِهِ أَلْطَافٌ يَغْشَاهُمْ بِهَا، وَلَهُ سُبْحَانَهُ هِبَاتٌ يَمْنَحُهُمْ إِيَّاهَا، وَلَهُ عَزَّ وَجَلَّ مَوَاسِمُ يُجْزِلُ مَنَافِعَهُمْ فِيهَا، فَيَعْمَلُونَ فِيهَا مَا يُضَعَّفُ لَهُمْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً؛ لِفَضِيلَةٍ فِي الزَّمَانِ أَوِ المَكَانِ، أَوْ كِلَيْهِمَا.
وَالزَّمَنُ الْفَاضِلُ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَيَهْتَبِلُونَ فُرْصَتَهُ، وَيُضَاعِفُونَ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ، فَيَزْدَادُونَ صَلَاحًا وَاسْتِقَامَةً.
وَأَيَّامُ الْحَجِّ هِيَ أَيَّامُ المَنَافِعِ، يَنْتَفِعُ فِيهَا أَهْلُ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ المَنَاسِكِ؛ لِأَنَّ فَضِيلَتَهَا تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ. فَأَعْظَمُ مَنْفَعَةٍ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَنَّهَا أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَمَلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّـهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى...»، فَكُلُّ عَمَلٍ يُعْمَلُ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ دُونَ الْعَمَلِ فِيهَا، إِلَّا مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. فَالذِّكْرُ فِيهَا لَيْسَ كَالذِّكْرِ فِي غَيْرِهَا، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا لَيْسَتْ كَقِرَاءَتِهِ فِي غَيْرِهَا، وَنَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا لَيْسَتْ كَمِثْلِهَا فِي غَيْرِهَا، وَالصَّدَقَةُ فِيهَا لَيْسَتْ كَالصَّدَقَةِ فِي غَيْرِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَزِيَارَةُ المَرْضَى وَالْإِحْسَانُ لِلْجِيرَانِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ لَيْسَتْ كَمِثْلِهَا فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا أَعْظَمُ النَّفْعِ أَنْ يَفْضُلَ الْعَمَلُ بِفَضْلِ الزَّمَانِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: ظُهُورُ التَّوْحِيدِ فِيهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ؛ فَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ النُّسُكِ وَزِينَتُهُ، وَالتَّكْبِيرُ شِعَارُ هَذِهِ الْأَيَّامِ لِبَيَانِ عَظَمَتِهَا وَفَضْلِهَا؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ يَكُونُ فِي المَوَاطِنِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ. وَالتَّلْبِيَةُ تَوْحِيدٌ كَمَا أَنَّ التَّكْبِيرَ تَوْحِيدٌ، وَلَا مَنْفَعَةَ أَعْظَمُ مِنْ إِظْهَارِ تَوْحِيدِ اللَّـهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ، وَامْتِلَاءِ الْقُلُوبِ بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَلَا فَرَحَ عِنْدَ المُؤْمِنِ يَعْدِلُ فَرَحَهُ بِسَمَاعِ كَلِمَاتِ التَّوْحِيدِ يَعِجُّ النَّاسُ بِهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: الْحَجُّ، وَهُوَ رُكْنُ الْإِسْلَامِ الْخَامِسُ، وَهُوَ يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «...الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَجِّ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا مَنَافِعُ دِينِيَّةٌ فِي أَدَاءِ النُّسُكِ، وَإِرْضَاءِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَنَيْلِ ثَوَابِهِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ عِقَابِهِ، وَالْفَوْزِ بِجَنَّاتِهِ. وَمِنْهَا مَنَافِعُ دُنْيَوِيَّةٌ فِي اجْتِمَاعِ المُسْلِمِينَ وَتَآلُفِهِمْ وَتَعَارُفِهِمْ، وَتَبَادُلِ الْخِبْرَاتِ وَالتِّجَارَاتِ، وَقُرْبِ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنَافِعِ؛ وَلِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهُمْ﴾ [الحج: 27].
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ الْعُمْرَةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَعْمَرَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي ذِي الْحِجَّةِ؛ مُخَالَفَةً لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِين كَانُوا يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «وَاللَّـهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «...صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّـهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ...» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: مُبَاهَاةُ اللَّـهِ تَعَالَى بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ، وَكَثْرَةُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِيهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: خُطْبَةُ عَرَفَةَ لِلْحُجَّاجِ، وَخُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَمَا فِي الخُطْبَتَيْنِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ مَنَافِعِ التَّوْجِيهِ وَالتَّعْلِيمِ وَالمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِيهِ، وَهِيَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَذَبْحُ الْهَدَايَا، وَحَلْقُ الرُّؤُوسِ، وَالْإِحْلَالُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّـهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِيهِ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَخُطْبَتُهَا، وَهُمَا شَعِيرَتَانِ مِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ وَأَكْبَرِهَا.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: التَّقَرُّبُ لِلَّـهِ تَعَالَى بِالْأَضَاحِي، وَنَيْلُ التَّقْوَى بِذَبْحِهَا، وَتَعْظِيمُ الشَّعَائِرِ بِهَا، فَهِيَ شَعِيرَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: 36].
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ المُسْلِمِينَ يَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي وَالْهَدَايَا، وَيَتَصَدَّقُونَ وَيُهْدُونَ وَيَدَّخِرُونَ، فَنَفَقَاتُهَا مَخْلُوفَةٌ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى، وَهِيَ تَعُودُ إِلَيْهِمْ كَامِلَةً يَنْتَفِعُونَ بِهَا، فَفِي ذَبْحِهَا أَجْرٌ، وَفِي إِطْعَامِ الْأَهْلِ مِنْهَا أَجْرٌ، وَفِي الْإِهْدَاءِ مِنْهَا أَجْرٌ، وَفِي الصَّدَقَةِ بِبَعْضِهَا أَجْرٌ؛ فتَتَابَعُ الْأُجُورُ لِلْمُضَحِّي وَالمُهْدِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ. ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 37].
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ الْفُقَرَاءَ يَشْبَعُونَ فِيهَا مِنَ اللَّحْمِ المُهْدَى لَهُمْ، أَوِ المُتَصَدَّقِ بِهِ عَلَيْهِمْ. بَلْ وَيَدَّخِرُونَ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ أَيَّامًا وَأَشْهُرًا؛ لِئَلَّا يُحْرَمُوا مِنَ اللَّحْمِ عَلَى الدَّوَامِ لِفَقْرِهِمْ، وَهَذَا مَظْهَرٌ عَظِيمٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّكَاتُفِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: مَا يَحْصُلُ مِنْ تَوَاصُلِ المُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ؛ فَأَهْلُ الْأَمْصَارِ يَجْمَعُهُمُ الْعِيدُ، وَأَهْلُ المَوْسِمِ مُقِيمُونَ فِي المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ الذِّكْرِ فِيهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّـهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَا».
وَمِنْ آكَدِ الذِّكْرِ فِيهَا التَّكْبِيرُ المُطْلَقُ مِنْ إِهْلَالِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالتَّكْبِيرُ المُقَيَّدُ بِأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَفَضِيلَةُ الذِّكْرِ فِيهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّـهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ عِيدَهَا أَكْبَرُ الْعِيدَيْنِ وَأَفْضَلُهُمَا؛ حَتَّى سُمِّيَ الْعِيدَ الْأَكْبَرَ، وَسَمَّاهُ النَّصَارَى عِيدَ "اللهُ أَكْبَرُ"؛ لِظُهُورِ التَّكْبِيرِ فِيهِ، وَمَا أَعْظَمَهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ أَنْ يُلْصَقَ الْعِيدُ بِشِعَارِهِ الَّذِي هُوَ التَّكْبِيرُ! وَهُوَ تَكْبِيرُ اللَّـهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعُبُودِيَّةَ وَالتَّكْبِيرَ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ عِيدَهَا يَمْتَدُّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهُنَّ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
تِلْكُمْ -عِبَادَ اللَّـهِ- جُمْلَةٌ مِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالنَّاسُ فِي الْأَخْذِ مِنْ مَنَافِعِهَا بَيْنَ مُقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ، فَمَنْ لَازَمَ المَسَاجِدَ وَالمَصَاحِفَ، وَنَوَّعَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَأَتَى بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ المَحْضَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَذِكْرٍ وَقُرْآنٍ، وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا مِنْ صَدَقَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَوَقْفٍ وَبِرٍّ وَصِلَةٍ وَإِحْسَانٍ فَقَدِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي أَيَّامٍ لَا يَفْضُلُ الْعَمَلُ فِي غَيْرِهَا عَلَيْهَا، بَلْ وَلَا يَعْدِلُهَا. وَمَنْ أَمْضَاهَا كَمَا يُمْضِي سَائِرَ أَيَّامِهِ فِي لَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وَتَكَاسُلٍ عَنِ الْفَرَائِضِ، وَتَرْكٍ لِلنَّوَافِلِ فَقَدْ ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْسِمًا عَظِيمًا. وَمَنْ كَانَ هَذَا دَيْدَنَهُ فِي كُلِّ المَوَاسِمِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي ضَاعَ كَثِيرٌ مِنْ حَيَاتِهِ سُدًى، وَيَقْدُمُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ فَرَّطَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ.
أَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 9-10].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمُرُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ بِطَاعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: 27].
أَيُّهَا النَّاسُ: يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ فَضِيلَةَ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي نَهَارِهَا دُونَ لَيْلِهَا؛ لِأَنَّ فَضْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي عَشِيَّتِهِ، وَأَعْمَالَ النَّحْرِ فِي نَهَارِهِ، وَبِسَبَبِ هَذَا الظَّنِّ يَتْرُكُ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْعَمَلَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي.
وَالصَّوَابُ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَمَنَافِعَهَا الدِّينِيَّةَ تَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَكَمَا يُشْرَعُ تَخْصِيص نَهَارِهَا بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَكَذَلِكَ يُشْرَعُ تَخْصِيصُ لَيْلِهَا بِالْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ المَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقَائِمُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي لَا يَقُومُ فِي غَيْرِهَا. كَمَا خُصَّ رَمَضَانُ لِفَضْلِهِ بِقِيَامِ لَيْلِهِ، إِلَّا أَنَّ لَيَالِيَ رَمَضَانَ تُشْرَعُ صَلَاةُ اللَّيْلِ فِيهَا جَمَاعَةً دُونَ هَذِهِ اللَّيَالِي الَّتِي لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقْصِدَ الْقَائِمُونَ فِيهَا الِاجْتِمَاعَ عَلَى إِمَامٍ لِلصَّلَاةِ سَوَاءً فِي المَسَاجِدِ أَوِ الْبُيُوتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يُصَلُّونَ فُرَادَى.
وَهَكَذَا كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، سَوَاءً فِي نَهَارِهَا أَوْ لَيْلِهَا، وَأَنْ تُخَصَّ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَضَّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا بِبَيَانِ فَضْلِهِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا. فَقَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّـهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ» وَالْيَوْمُ يَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَلَوْ فَرَّغَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَكَانَ مُحْسِنًا غَايَةَ الْإِحْسَانِ. فَالْعَمَلَ الْعَمَلَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا المَوْسِمِ الْكَرِيمِ، وَالسَّعْيَ السَّعْيَ فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ.
عِبَادَ اللَّـهِ: لِنَأْخُذْ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنَافِعَهَا، وَلْنُجَانِبِ المَعَاصِيَ وَمَجَالِسَهَا؛ فَمَا فَازَ إِلَّا المُشَمِّرُونَ، وَلَا خَسِرَ إِلَّا المُفَرِّطُونَ المُسَوِّفُونَ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «ابْنَ آدَمَ، إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ؛ فَإِنَّكَ بِيَوْمِكَ وَلَسْتَ بِغَدٍ، فَإِنْ يَكُنْ غَدٌ لَكَ فَكِسْ فِي غَدٍ كَمَا كِسْتَ فِي الْيَوْمِ، وَإِلَّا يَكُنْ لَكَ لَمْ تَنْدَمْ عَلَى مَا فَرَّطْتَ فِي الْيَوْمِ»، وَأَوْصَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ ابْنَهُ، فَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ! إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ لِمَا تَهِمُّ بِهِ مِنْ فِعَلِ الْخَيْرِ، فَإِنَّ وَقْتَهُ إِذَا زَالَ لَمْ يَعُدْ إِلَيْكَ، وَاحْذَرْ طُولَ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ هَلَاكُ الْأُمَمِ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
4/12/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عِمْرَانَ:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الْأَحْزَاب:70- 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: لِرَبِّنَا جَلَّ فِي عُلَاهُ مَعَ عِبَادِهِ أَلْطَافٌ يَغْشَاهُمْ بِهَا، وَلَهُ سُبْحَانَهُ هِبَاتٌ يَمْنَحُهُمْ إِيَّاهَا، وَلَهُ عَزَّ وَجَلَّ مَوَاسِمُ يُجْزِلُ مَنَافِعَهُمْ فِيهَا، فَيَعْمَلُونَ فِيهَا مَا يُضَعَّفُ لَهُمْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً؛ لِفَضِيلَةٍ فِي الزَّمَانِ أَوِ المَكَانِ، أَوْ كِلَيْهِمَا.
وَالزَّمَنُ الْفَاضِلُ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَيَهْتَبِلُونَ فُرْصَتَهُ، وَيُضَاعِفُونَ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ، فَيَزْدَادُونَ صَلَاحًا وَاسْتِقَامَةً.
وَأَيَّامُ الْحَجِّ هِيَ أَيَّامُ المَنَافِعِ، يَنْتَفِعُ فِيهَا أَهْلُ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ المَنَاسِكِ؛ لِأَنَّ فَضِيلَتَهَا تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ. فَأَعْظَمُ مَنْفَعَةٍ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَنَّهَا أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَمَلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّـهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى...»، فَكُلُّ عَمَلٍ يُعْمَلُ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ دُونَ الْعَمَلِ فِيهَا، إِلَّا مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. فَالذِّكْرُ فِيهَا لَيْسَ كَالذِّكْرِ فِي غَيْرِهَا، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا لَيْسَتْ كَقِرَاءَتِهِ فِي غَيْرِهَا، وَنَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا لَيْسَتْ كَمِثْلِهَا فِي غَيْرِهَا، وَالصَّدَقَةُ فِيهَا لَيْسَتْ كَالصَّدَقَةِ فِي غَيْرِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَزِيَارَةُ المَرْضَى وَالْإِحْسَانُ لِلْجِيرَانِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ لَيْسَتْ كَمِثْلِهَا فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا أَعْظَمُ النَّفْعِ أَنْ يَفْضُلَ الْعَمَلُ بِفَضْلِ الزَّمَانِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: ظُهُورُ التَّوْحِيدِ فِيهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ؛ فَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ النُّسُكِ وَزِينَتُهُ، وَالتَّكْبِيرُ شِعَارُ هَذِهِ الْأَيَّامِ لِبَيَانِ عَظَمَتِهَا وَفَضْلِهَا؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ يَكُونُ فِي المَوَاطِنِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ. وَالتَّلْبِيَةُ تَوْحِيدٌ كَمَا أَنَّ التَّكْبِيرَ تَوْحِيدٌ، وَلَا مَنْفَعَةَ أَعْظَمُ مِنْ إِظْهَارِ تَوْحِيدِ اللَّـهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ، وَامْتِلَاءِ الْقُلُوبِ بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَلَا فَرَحَ عِنْدَ المُؤْمِنِ يَعْدِلُ فَرَحَهُ بِسَمَاعِ كَلِمَاتِ التَّوْحِيدِ يَعِجُّ النَّاسُ بِهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: الْحَجُّ، وَهُوَ رُكْنُ الْإِسْلَامِ الْخَامِسُ، وَهُوَ يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «...الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَجِّ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا مَنَافِعُ دِينِيَّةٌ فِي أَدَاءِ النُّسُكِ، وَإِرْضَاءِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَنَيْلِ ثَوَابِهِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ عِقَابِهِ، وَالْفَوْزِ بِجَنَّاتِهِ. وَمِنْهَا مَنَافِعُ دُنْيَوِيَّةٌ فِي اجْتِمَاعِ المُسْلِمِينَ وَتَآلُفِهِمْ وَتَعَارُفِهِمْ، وَتَبَادُلِ الْخِبْرَاتِ وَالتِّجَارَاتِ، وَقُرْبِ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنَافِعِ؛ وَلِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهُمْ﴾ [الحج: 27].
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ الْعُمْرَةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَعْمَرَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي ذِي الْحِجَّةِ؛ مُخَالَفَةً لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِين كَانُوا يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «وَاللَّـهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «...صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّـهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ...» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: مُبَاهَاةُ اللَّـهِ تَعَالَى بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ، وَكَثْرَةُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِيهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: خُطْبَةُ عَرَفَةَ لِلْحُجَّاجِ، وَخُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَمَا فِي الخُطْبَتَيْنِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ مَنَافِعِ التَّوْجِيهِ وَالتَّعْلِيمِ وَالمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِيهِ، وَهِيَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَذَبْحُ الْهَدَايَا، وَحَلْقُ الرُّؤُوسِ، وَالْإِحْلَالُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّـهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِيهِ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَخُطْبَتُهَا، وَهُمَا شَعِيرَتَانِ مِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ وَأَكْبَرِهَا.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: التَّقَرُّبُ لِلَّـهِ تَعَالَى بِالْأَضَاحِي، وَنَيْلُ التَّقْوَى بِذَبْحِهَا، وَتَعْظِيمُ الشَّعَائِرِ بِهَا، فَهِيَ شَعِيرَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: 36].
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ المُسْلِمِينَ يَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي وَالْهَدَايَا، وَيَتَصَدَّقُونَ وَيُهْدُونَ وَيَدَّخِرُونَ، فَنَفَقَاتُهَا مَخْلُوفَةٌ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى، وَهِيَ تَعُودُ إِلَيْهِمْ كَامِلَةً يَنْتَفِعُونَ بِهَا، فَفِي ذَبْحِهَا أَجْرٌ، وَفِي إِطْعَامِ الْأَهْلِ مِنْهَا أَجْرٌ، وَفِي الْإِهْدَاءِ مِنْهَا أَجْرٌ، وَفِي الصَّدَقَةِ بِبَعْضِهَا أَجْرٌ؛ فتَتَابَعُ الْأُجُورُ لِلْمُضَحِّي وَالمُهْدِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ. ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 37].
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ الْفُقَرَاءَ يَشْبَعُونَ فِيهَا مِنَ اللَّحْمِ المُهْدَى لَهُمْ، أَوِ المُتَصَدَّقِ بِهِ عَلَيْهِمْ. بَلْ وَيَدَّخِرُونَ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ أَيَّامًا وَأَشْهُرًا؛ لِئَلَّا يُحْرَمُوا مِنَ اللَّحْمِ عَلَى الدَّوَامِ لِفَقْرِهِمْ، وَهَذَا مَظْهَرٌ عَظِيمٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّكَاتُفِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: مَا يَحْصُلُ مِنْ تَوَاصُلِ المُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ؛ فَأَهْلُ الْأَمْصَارِ يَجْمَعُهُمُ الْعِيدُ، وَأَهْلُ المَوْسِمِ مُقِيمُونَ فِي المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ الذِّكْرِ فِيهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّـهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَا».
وَمِنْ آكَدِ الذِّكْرِ فِيهَا التَّكْبِيرُ المُطْلَقُ مِنْ إِهْلَالِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالتَّكْبِيرُ المُقَيَّدُ بِأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: فَضِيلَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَفَضِيلَةُ الذِّكْرِ فِيهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّـهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ عِيدَهَا أَكْبَرُ الْعِيدَيْنِ وَأَفْضَلُهُمَا؛ حَتَّى سُمِّيَ الْعِيدَ الْأَكْبَرَ، وَسَمَّاهُ النَّصَارَى عِيدَ "اللهُ أَكْبَرُ"؛ لِظُهُورِ التَّكْبِيرِ فِيهِ، وَمَا أَعْظَمَهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ أَنْ يُلْصَقَ الْعِيدُ بِشِعَارِهِ الَّذِي هُوَ التَّكْبِيرُ! وَهُوَ تَكْبِيرُ اللَّـهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعُبُودِيَّةَ وَالتَّكْبِيرَ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ: أَنَّ عِيدَهَا يَمْتَدُّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهُنَّ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
تِلْكُمْ -عِبَادَ اللَّـهِ- جُمْلَةٌ مِنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالنَّاسُ فِي الْأَخْذِ مِنْ مَنَافِعِهَا بَيْنَ مُقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ، فَمَنْ لَازَمَ المَسَاجِدَ وَالمَصَاحِفَ، وَنَوَّعَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَأَتَى بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ المَحْضَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَذِكْرٍ وَقُرْآنٍ، وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا مِنْ صَدَقَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَوَقْفٍ وَبِرٍّ وَصِلَةٍ وَإِحْسَانٍ فَقَدِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي أَيَّامٍ لَا يَفْضُلُ الْعَمَلُ فِي غَيْرِهَا عَلَيْهَا، بَلْ وَلَا يَعْدِلُهَا. وَمَنْ أَمْضَاهَا كَمَا يُمْضِي سَائِرَ أَيَّامِهِ فِي لَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وَتَكَاسُلٍ عَنِ الْفَرَائِضِ، وَتَرْكٍ لِلنَّوَافِلِ فَقَدْ ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْسِمًا عَظِيمًا. وَمَنْ كَانَ هَذَا دَيْدَنَهُ فِي كُلِّ المَوَاسِمِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي ضَاعَ كَثِيرٌ مِنْ حَيَاتِهِ سُدًى، وَيَقْدُمُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ فَرَّطَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ.
أَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 9-10].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمُرُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ بِطَاعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: 27].
أَيُّهَا النَّاسُ: يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ فَضِيلَةَ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي نَهَارِهَا دُونَ لَيْلِهَا؛ لِأَنَّ فَضْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي عَشِيَّتِهِ، وَأَعْمَالَ النَّحْرِ فِي نَهَارِهِ، وَبِسَبَبِ هَذَا الظَّنِّ يَتْرُكُ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْعَمَلَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي.
وَالصَّوَابُ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَمَنَافِعَهَا الدِّينِيَّةَ تَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَكَمَا يُشْرَعُ تَخْصِيص نَهَارِهَا بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَكَذَلِكَ يُشْرَعُ تَخْصِيصُ لَيْلِهَا بِالْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ المَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقَائِمُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي لَا يَقُومُ فِي غَيْرِهَا. كَمَا خُصَّ رَمَضَانُ لِفَضْلِهِ بِقِيَامِ لَيْلِهِ، إِلَّا أَنَّ لَيَالِيَ رَمَضَانَ تُشْرَعُ صَلَاةُ اللَّيْلِ فِيهَا جَمَاعَةً دُونَ هَذِهِ اللَّيَالِي الَّتِي لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقْصِدَ الْقَائِمُونَ فِيهَا الِاجْتِمَاعَ عَلَى إِمَامٍ لِلصَّلَاةِ سَوَاءً فِي المَسَاجِدِ أَوِ الْبُيُوتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يُصَلُّونَ فُرَادَى.
وَهَكَذَا كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، سَوَاءً فِي نَهَارِهَا أَوْ لَيْلِهَا، وَأَنْ تُخَصَّ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَضَّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا بِبَيَانِ فَضْلِهِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا. فَقَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّـهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ» وَالْيَوْمُ يَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَلَوْ فَرَّغَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَكَانَ مُحْسِنًا غَايَةَ الْإِحْسَانِ. فَالْعَمَلَ الْعَمَلَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا المَوْسِمِ الْكَرِيمِ، وَالسَّعْيَ السَّعْيَ فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ.
عِبَادَ اللَّـهِ: لِنَأْخُذْ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنَافِعَهَا، وَلْنُجَانِبِ المَعَاصِيَ وَمَجَالِسَهَا؛ فَمَا فَازَ إِلَّا المُشَمِّرُونَ، وَلَا خَسِرَ إِلَّا المُفَرِّطُونَ المُسَوِّفُونَ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «ابْنَ آدَمَ، إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ؛ فَإِنَّكَ بِيَوْمِكَ وَلَسْتَ بِغَدٍ، فَإِنْ يَكُنْ غَدٌ لَكَ فَكِسْ فِي غَدٍ كَمَا كِسْتَ فِي الْيَوْمِ، وَإِلَّا يَكُنْ لَكَ لَمْ تَنْدَمْ عَلَى مَا فَرَّطْتَ فِي الْيَوْمِ»، وَأَوْصَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ ابْنَهُ، فَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ! إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ لِمَا تَهِمُّ بِهِ مِنْ فِعَلِ الْخَيْرِ، فَإِنَّ وَقْتَهُ إِذَا زَالَ لَمْ يَعُدْ إِلَيْكَ، وَاحْذَرْ طُولَ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ هَلَاكُ الْأُمَمِ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
أيام المنافع مشكولة.doc
أيام المنافع مشكولة.doc
أيام المنافع.doc
أيام المنافع.doc
المشاهدات 4677 | التعليقات 5
جزاك الله خير الجزاء فيما تقدم ونفع بك
صحيفة سبق الإلكترونية | تخصيص خطب الجمعة في كل المناطق للحديث عن "كورونا" - http://sabq.org/0jHgde
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
جزاكم الله تعالى خيرا أيها الإخوة الفضلاء على مروركم وتعليقكم وأسأل الله تعالى أن يفع بكم وأن يستجيب دعواتكم
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
نفع الله بك وجزاك الله خيرا .
تعديل التعليق