خطبة 3-4-1444هـ أين المصير ؟
محمد آل مداوي
الحمدُ لله، يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعَاه، ويَكْشِفُ السُّوء، سُبحَانَهُ وبحمدِه، مَنْ توكَّلَ عليهِ كَفَاه، ومَنِ اسْتَجَارَ بهِ أجَارَه، ومَنِ اسْتَغَاثَ بهِ أغَاثَه، ومَنِ اهْتَدَى بهِ هَدَاه، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، لا يُخيِّبُ مَنْ رجَاه، وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وخَليلُه ومُصطفَاه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحَابهِ ومَنْ والاه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرا.. أَمَّا بَعْدُ عِبادَ الله: فَأُوصِي نَفْسِي وإيَّاكم بتقوَى اللهِ عزَّ وجَلّ، اتَّقوا اللهَ رَحِمَكُمُ الله؛ التَّقوَى أمَانٌ عِندَ البَلايا، وذُخْرٌ عِندَ الرَّزَايا، وعِصْمَةٌ مِنَ الدَّنايَا، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
الدُّنيا إلى زوَال، مَهْمَا طَالَتْ أيَّامُها فهِيَ قَصِيرة، ومَهْمَا عَظُمَتْ في أَعْيُنِ أَهْلِهَا فهِيَ حَقِيرَة.. والمَوت؛ يَأْتي بَغْتَة، وكلُّ مَا هو آتٍ قَرِيب: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ)، (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
أيُّها المُسلِمون: مِنْ هِدَايَاتِ القُرْآنِ وبيَانِهِ العَظِيم: ذِكْرُ المَآلَات، وتَجْلِيَةُ المَصِير، وتَوضِيحُ النِّهَايَة، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). إنَّهُ -يا عِبَادَ الله- مَآلٌ جَدِيرٌ بالتَّأمُّل: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) نجَّاهُمُ اللهُ مِنَ النَّار، وكَتَبَ لهمُ الفَوْزَ والنَّجَاة، والسَّعَادَةَ الأبَدِيَّة، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).. وفَرِيقٌ آخَر؛ في غَيِّهِمْ في الدُّنيا يَعْمَهُون، وفي الجَحِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُون.
ومِنْ أَعْظَمِ العِظَات: اسْتِحْضَارُ المَصِير، وتَذَكُّرُ هَوْلِ المَطْلَع، وبَعْثَرةِ القُبُور، ومَشْهَدِ البَعْثِ والنُّشُور.. يَوْمٌ تَذُوبُ فيهِ الفَوَارِق، وتَبِينُ فيهِ الحَقَائِق.. يَوْمٌ يُعرَضُ فيهِ العَبْدُ علَى ربِّهِ ليسَ مَعَهُ أَحَد: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)، لَا تَخفَى علَى اللهِ مِنهُ خَافِيَة، والأَسْرَارُ في عِلْمِهِ سُبحَانَهُ ظَاهِرَةٌ عَلَانِيَة.
يَوْمٌ عَظِيم؛ تَجْتَمِعُ فيهِ الخَلَائِق، ويَتَحَدَّدُ فيهِ المَصِير؛ إمَّا فَوْزٌ وسَعَادَة، أو خَيْبَةٌ وشَقَاء: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).
فَرِيقٌ مَنَّ اللهُ عَليهِمْ بالهِدَايَة، وشَرَحَ صُدُورَهُمْ للإسلام، ووَفَّقَهُمْ لِطَاعَةِ الرَّحمن، وفَرِيقٌ في البَاطِلِ يَتَقَلَّب، وعَنْ عِبَادَةِ ربِّهِ مُعرِض، (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ).
ومَنْ نَسِيَ لِقَاءَ الله، ورَضِيَ بالدُّنيا، واطْمَأنَّ بها، ورَكَنَ إليها، وانْشَغَلَ بِمَلَذَّاتِها عَنِ الحَيَاةِ البَاقِيَة، والمَصِيرِ الحَقِيقي؛ فهُوَ في غَفْلَة، ومَآلُهُ إلى خَسَارَة، (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ* أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، رَضُوا بالدُّنيَا بَدَلاً عَنِ الآخِرَة، وجَعَلُوهَا غَايَةَ سَعْيِهِم، ونِهَايَةَ قَصْدِهِم، فأَكَبُّوا علَى لَذَّاتِها وشَهَوَاتِها، وبَأيِّ طَرِيقٍ حَصَلَتْ حَصَّلُوهَا، ومِنْ أيِّ وَجْهٍ لاحَتْ ابْتَدَرُوهَا، فكأنَّهُمْ خُلِقُوا لِلْبَقَاءِ فيهَا، ونَسُوا أنَّ مَآلَهُمُ الرَّحِيل، ولِقَاءُ رَبِّ العَالَمِين.
والنَّجَاةُ -عِبَادَ الله- هِيَ في صَلَاحِ العَمَل، والقَلْبِ السَّلِيم، وحُسْنِ العِبَادَة، والخُلُقِ الكَرِيم، وحُسْنِ السِّيرَة، وصَفَاءِ السَّرِيرَة، ونَفْعِ الخَلْق، والصَّبْرِ علَى كُلِّ ذلك: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
نفعني اللهُ وإيَّاكم بهَدي كتابِه وبسنة نبيِّه r، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين، والعَاقِبَةُ للمُتَّقين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَرِيك، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورَسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلهِ وأصحَابِه أجمعين.
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
الفَرَاغُ يَعْقُبُهُ شُغْلٌ، والصِّحَّةُ يَعْقُبُهَا سَقَمٌ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) فتُجَازَوْنَ بأعمَالِكُم، حَسَنِهَا وسيِّئِها، في يَومٍ عَظِيم، ومَوْقِفٍ مَهِيب، يَقولُ النبيُّ r: (اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيْقِ المُقَامِ يَوْمَ القِيَامَة).
والحَيُّ اليومَ؛ لم يزَلْ في زَمَنِ المُهْلَة، فإذَا حَانَتْ سَاعَةُ الفِرَاق، ولَاحَ المَصِير، وأَصْبَحَ الغَيْبُ شَهَادَة؛ لم يَنْفَعْ نَفْسًا إيمَانُها، (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ* وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ).
ألَا فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، حَاسِبُوا أَنْفُسَكُم، واعْرِفُوا حَقِيقَةَ دُنْيَاكُم، وتَأمَّلُوا في حَالِكُمْ ومَآلِكُم.. واعْلَمُوا أنَّ الأَعْمَارَ قَصِيرَة، والدُّنيَا حَقِيرَة، (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ). كُلُّ مُتْعَةٍ يَعْقُبُهَا مَوْتٌ؛ فهِيَ هَبَاء، (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).. وأيَّامُكُمْ خَزَائِن، مَا مَضَى مِنهَا فإنَّهُ لا يَعُود، (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).
اللهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنا في الأمُورِ كُلِّها، وأَجِرْنا مِنْ خِزْيِ الدُّنيا وعَذَابِ الآخِرَة، اللهُمَّ اجْعَلنا ممَّن يَفْرَحُ بلِقَائك، ويَنْعَمُ بعَفْوِكَ وعَطائك، واجعلنا مِنْ حِزبِكَ وأوليَائك، اللهُمَّ هَوِّنْ علينا سَكَرَاتِ الموت، وتوَفَّنا وأنتَ رَاضٍ عنَّا، يا أرحم الراحمين.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرَّحمةِ المُهدَاة، والنِّعمَةِ المُسدَاة، نبيِّكم محمدٍ رسولِ الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم فقال عزَّ مِنْ قائلٍ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك، نبيك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن بقيةِ الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيقِ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفّقه وولي عهده لهداك، واجعلْ أعمالهما في رضاك، أعزَّ بهم دينَك، وأعل بهم كلمتك، واجمع بهم كلمة المسلمينَ يا رب العالمين.
اللهم أنتَ الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزلْ علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا غدقًا، نافعًا غيرَ ضار، اللهم سُقيا رحمة، لا سقيا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1666852991_خطب ربيع الآخر (1) أين المصير؟.docx
1666852992_خطبة اين المصير ؟ 3-4-1444.pdf
1666852992_خطبة أين المصير نسخة جوال.pdf