خطبة 3 في الحج : من فضائل مكة المكرمة والمسجد الحرام

جابر السيد الحناوي
1430/11/04 - 2009/10/23 19:46PM
[rainbow]من فضائل مكة المكرمة والمسجد الحرام [/rainbow]

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" ( آل عمران : 102 )
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ( النساء : 1 )
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " ( الأحزاب : 70 )
أما بعد ...
تناولنا في الخطبة الماضية فضائل المدينة المنورة والمسجد النبوي الشريف ، باعتبارها المحطة الأولي التي تبدأ بعدها أعمال الحج والعمرة لمن ينزل بها أو يمر عليها ، واليوم ـ إن شاء الله تعالي ـ نعيش مع بعضٍ من فضائل مكة المكرمة والبيت العتيق باعتبارها المحطة التي تنتهي فيها مناسك الحج والعمرة .
مكة ... أحب بلاد الله إلي قلب رسولنا صلي الله عليه وسلم وأكرم بلاد الله علي الله ، فهي مسقط رأس رسول الله صلي الله عليه وسلم قضي فيها طفولته وشبابه ، وشهدت مولد دين الله الإسلام ، حرمها الله سبحانه وتعالي علي لسان نبيه ابراهيم عليه السلام كما حرم المدينة علي لسان المصطفي صلي الله عليه وسلم .
ومكة كما هو معروف يوجد بها الكعبة المشرفة بيت الله العتيق ، يقول سبحانه وتعالي : " وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ... " ( [1] ) يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه " مَثَابَةً لِلنَّاسِ " ... " مَثَابَةً " مرجعا من التثويب والرجعة ، أي : جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ، ولا تقضي منه وطرًا ، ولو ترددَت إليه كلَّ عام ، لا ينصرف عنه زائر وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا ، يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه ، فهو " مَثَابَةً " وذلك استجابة من الله سبحانه وتعالي لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله سبحانه وتعالي : " فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ " ( [2] )
ويصفه سبحانه وتعالي أيضا بأنه جعله " أَمْنًا " " وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا... " ( [3] ) لو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا ، يأمن به كل أحد ، حتى الوحش و الصيد يأمن فيه من الاصطياد ، وحتى الجمادات كالنبات لا يمتهن فيه ؛ ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ، كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه في الحرم ، فلا يَعْرض له ولا يهيجه ، فلما جاء الإسلام ، زاد الكعبة .. زاد البيت حرمة وتعظيما ، وتشريفا وتكريما ، كما وصفها سبحانه وتعالي في سورة المائدة بقوله : " جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ " ( [4] )أي : يُرْفَع عنهم بسبب تعظيمها السوءُ .. قال ابن عباس رضي الله عنه : لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق الله السماءَ على الأرض ، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن .. ابراهيمعليه السلام ؛ وكل ذلك استجابة لدعوته عليه السلام :" ... رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا ... " ( [5] )
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه الله سبحانه وتعالي على َمقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده فقال سبحانه وتعالي : " ... وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ... " ( [6] ) وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو ؟ فيحتمل أن يكون المراد بذلك ، المقام المعروف الذي قد جعل الآن مقابل باب الكعبة ، وأن المراد بهذا ركعتا الطواف ، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم ، وعليه جمهور المفسرين ( [7] )
والجدير بالذكر أن الصلاة عند مقام ابراهيم من الأمور التي وافق فيها عمر بن الخطاب عليه السلام ربه فعن جابر عليه السلام يحدث عن حجة النبي صلي الله عليه وسلم قال : لما طاف النبي صلي الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال : نعم ، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالي : " ... وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ... " ( [8] )
ويحتمل أن يكون المقصود بالمقام جميع مقامات إبراهيم في الحج ، وهي المشاعر كلها : من الطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة ، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر، وغير ذلك من أفعال الحج ، فيكون معنى قوله سبحانه وتعالي: " مُصَلًّى " أي : معبدا ، أي : اقتدوا بابراهيم عليه السلام في شعائر الحج ، يقول الإمام السعدي في تفسيره : ولعل هذا المعنى أولى ، لدخول المعنى الأول فيه ، واحتمال اللفظ له. ( [9] )
" ... وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ... " ( [10] ) أمروا أن يتخذوا من مَقام إبراهيم مصلى - وَمقام إبراهيم يشير هنا إلى البيت كله وهذا رأي آخر وجيه في تفسيره - فاتخاذ البيت قبلة للمسلمين هو الأمر الطبيعي ، وهو أََوْلَىَ قبلة يتوجه إليها المسلمون ، ورثة إبراهيم بالإيمان والتوحيد الصحيح ، بما أنه بيت الله ، لا بيت أحد من الناس . وقد عهد اللهُ - صاحبُ البيت - إلى عبدين من عباده صالحين" إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ " عليهما السلام عهد إليهما أن يقوما بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود - أي للحجاج الوافدين عليه ، و للعاكفين فيه ، والذين يصلون فيه ويركعون ويسجدون ، " ... وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" ( [11] ) فحتى إبراهيم وإسماعيل لم يكن البيت ملكاً لهما ، فيكون مصدر ثراء لهما ، أو حتي مجرد مصدر للرزق من خدمة الحجاجوالمعتمرين ، إنما كانا سادنين له بأمر ربهما ، لإعداده لِقُصَّاده من المؤمنين .
وقد شهد اللهسبحانه وتعاليلإبراهيمعليه السلام بالوفاء بالتزاماته هذه على النحو الذي يُرضى الله عنه فاستحق لذلك شهادته الجليلة فقال سبحانه وتعالي: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى"( [12] )وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم ــ بشهادة الله سبحانه وتعالي ــ مقام الوفاء والتوفية.
والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم ! لهذا استحق إبراهيم تلك الثقة ، فبوأه الله سبحانه وتعالي مكان القيادة : " قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا "( [13] ) إماماً يتخذونه قدوة ، ويقودهم إلى الله ، ويقدُمُهم إلى الخير ، ويكونون له تبعاً ، وتكون له فيهم قيادة ، فعهد إليه بإعداد بيته لمن يقصده من عباده المؤمنين ، وحَرَمَ الظالمين من هذا الشرف العظيم " قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "( [14] )
والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس بالبغي . . والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة : إمامة الرسالة ، وإمامة الخلافة ، وإمامة الصلاة . . وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة
وهذا الذي قيل لإبراهيم عليه السلام وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض .. قاطع في تنحية من يَدَّعون أن خدمة الحجاج شرفٌ لهم ، سواء علي الجانب السعودي أو الجانب المصري ، لأنهم هنا وهناك أحالوا موسم الحج إلي موسم سياحي ، يستغلون فيه الحجيج أسوأ استغلال ، يمتصون دماءهم فيه بغير رحمة ، لهذا يجب تنحية هذه المؤسسات والشركات التي تعمل حاليا في خدمة الحجاج واستبدالها بأخري تتقي الله في حجاج بيت الله ، وتقدم الحج لهم بتكاليفه الفعلية دون لف أو دوران ، فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق إمامة ابراهيم عليه السلام في أية صورة من صورها . ومَنْ ظَلَمَ - أي لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها ؛ بكل معنى من معانيها ، هذا علي الجانب المصري .
أما علي الجانب السعودي ... فمعظمهم أيضا قد أسقطوا حقهم في إمامة ابراهيم عليه السلام وجردوا أنفسهم من حقها ، رغم ادعائهم خدمة الحرمين الشريفين وخدمة قصاده ، فالواقع يصرخ بأنها دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله ، وإلا فلماذا لا تتدخل الحكومة للحد من الاستغلال الرهيب للحجاج في السكن والمواصلات والتأشيرات وغيرها ، المفروض أن ترفع هذه المؤسسات يدها عن عملية الحج ، ويقتصر دورها علي التنظيم وإعداد البيت " لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" ؛ فالحج عبادة وأداء لركن من أركان الإسلام ، وليس موسما للسياحة واستغلال الأنام .

" وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " ( [15] ) حرمان الظالمين من شرف الإمامة علي مستوي الحج ، ينسحب علي الوضع العالمي بصفة عامة ؛ فهذا الذي قيل لإبراهيمعليه السلام وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض .. قاطع في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم عن قيادة العالم ؛ بما ظلموا ، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله ، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم . .
فدعواهم الإسلام وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة ، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله ، فكانت النتيجة الحتمية لذلك هي تخلف دول العالم الإسلامي عن الإمامة والقيادة للعالم ، بل وقعت في براثن الدول الكافرة التي فرضت سيطرتها عليها ، وأوقعتها في التبعية المهينة ، واستغلت إمكاناتها أسوأ استغلا ل ، وأكلت ثرواتها بغير ثمن ، والذي يسمونه الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية لهي خير دليل علي ذلك ، فهي أزمة مصطنعة ومدبرة ، دبرها الصهاينة... في غيبة النظام الإسلامي .. هم ملوك المال ، فدبروها لتحقيق هدفين :
الأول : أكل أموال الدول الإسلامية ، والاستيلاء علي المليارات التي سرقها الحكام من شعوبهم وأودعوها عندهم ، ولذا لا يستطيعون أن يتفوهوا ببنت شفة.
الثاني : إحكام قبضة الصهيونية العالمية علي دول العالم .
وبنظرة متأنية وفاحصة لتلك االكارثة الاقتصادية ، لاحظ الكثير من الاقتصاديين والمحللين ، بل جزموا بأن التعاملات الربوية للبنوك والبورصات العالمية هي السبب الأساس في وقوع الأزمة ، وأن الفكر الغربي الصهيوني البعيد كل البعد عن الهدي الرباني لايعرف إلا فتح الأسواق لكل أنواع المعاملات المحرمة ، علي عكس المنهج الإسلامي المتمثل في أن الأصل حرية التعامل في حدود المشروع ومنع كافة أشكال الاحتيال والعبث بالسوق ، والبعد عن كافة أنواع المعاملات الربوية .
إن هذه الكارثة الاقتصاية ما هي إلا نتاج خبيث ونهاية مؤلمة للتعامل بالربا ، عندما دارت عجلة الرهن العقاري الأمريكي ، وانتقلت إلي باقي التعاملات ، ومنها إلي خارج الولايات المتحدة ، لتلحق الأذي بكل البورصات العالمية .
لا شك أن هذه الكارثة الاقتصاية دليل واقعي علي محاربة الله لمن يتعاطون الربا ويحلونه تحت مسميات كاذبة ، فهل يرتدع بها هؤلاء الذين لم تردعهم النصوص الشرعية والتحذيرات الربانية ؟؟ وهل يصدقوا تحذير ربهم عز وجل : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ "( [16] )
*** *** ***

والكعبة بيت الله الحرام طهرها أيضا رسولناصلي الله عليه وسلم من الأصنام والأوثان عند فتح مكة ، بل وطهرها أيضا من الصور التي كانت مرسومة علي جدرانها ، عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم الكعبة فرأى فيها صورا ، فأمرني أن آتيه في الدلو بماء فيبل الثوب ويضرب به الصور ويقول:" قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون " ( [17] )
فهذا الحديث يرد علي المترخصين الذين يحلون التصوير بغير ضرورة ، ويدعون أن المحرم هو فقط التماثيل والصور البارزة وما له ظل ، وأما غيرها فليس بمحرم .
أخي المسلم : يامن كتب الله له الحج هذا العام ، اعلم أن الحرم المكي تتضاعف فيه الحسنات والسيئات ، فالله عز وجل قد عظم فيه الذنب ، فالمعصي تضاعف في مكة كا تضاعفالحسنات ، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما بنفس المخالفة ، والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام .
بل إن الإنسان يعاقب علي ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعملها ، يقول الله سبحانه وتعالي : " ... وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ " ( [18] ) وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ، فما من رجل يهم بسيئة إلا كتبت عليه ، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم ، فلعظم حرمة المكان توعج الله ت علي نية السيئة فيه " وَمَنْ يُرِدْ " فمن نوي سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة ، فكن علي حذر شديد من ذلك أيها الحاج وأنت في الحرم المكي.
قلنا إن الكعبة المشرفة تتوسط المسجد الحرام ، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال لغيرها ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : " لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا " ( [19] )
هذا الحديث يبين النهي عن شد الرحال والسفر من بين المساجد إلى غير هذه المساجد الثلاثة ، " الرِّحَالُ "جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس كنى بشد الرحال عن السفر ؛ لأنه لازم له غالبا ، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر ، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور ، والمراد كما قال الحافظ بن حجر : النهي عن السفر إلى غيرها.
فالواجب علي المسلم أن يصلي في أقرب مسجد جامع لسكنه ، تقام فيه السنة ويخلوا من البدع التي استشرت في أيامنا هذه ، فالذي يسافر من مكانه لصلاة الجمعة مثلا في مسجد السيد البدوي أو أبو العباس مثلا أو غيرهما من المساجد فهذا أمر مخالف للسنة منهي عنه ؛ فالرسول صلي الله عليه وسلم يقول : " ... مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ... " ( [20] )فالذي لا ينتهي عما عنه نهي الرسول صلي الله عليه وسلم فقد عصي الرسول صلي الله عليه وسلم ومن عصي الرسول فقد عصي الله عز وجل " ... وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا " ( [21] )
يضاف إلي ذلك أن الرَسُولُ صلي الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " ( [22] ) وقال أيضا صلي الله عليه وسلم : " قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ " ( [23] )ومن هنا قال العلماء المنصفون أن الصلاة في مثل هذه المساجد التي بنيت علي القبور أوألحقت بالقبور باطلة ، وأن الذي يصلي فيها يفعل فعل اليهود والنصاري الذين لعنهم الرسول صلي الله عليه وسلم في الحديث ، وعليه يستحق هوأيضا اللعنة مثلهم " ... وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا " ( [24] )
" لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا " ( [25] ) هذه المساجد الثلاثة فقط هي التي يصرح المشرع بالسفر إليها بقصد الصلاة فيها ؛ لفضيلها ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم ، والثاني أسس على التقوى ، والثالث كان قبلة الأمم السالفة.
وللصلاة في هذه المساجد فضل زائد عن الصلاة في غيرها ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ : " صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ " ( [26] )
فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه ( صلاة يوم واحد فيه تعدل صلاة 275 عام وهكذا ) يليه في الفضل المسجد النبوي ، فالصلاة فيه بألف صلاة فيما سوه من المساجد ( صلاة يوم واحد فيه تعدل صلاة 33 شهر أي 2.75 عام ) .ويروي أن الصلاة في المسجد الأقصي تعدل خمسمائة صلاة فيما سواه ( صلاة يوم واحد فيه تعدل صلاة 16.5 شهر أي عام وثلث عام )
قال الشيخ تقي الدين السبكي : ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة ، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك ، فالسفر للعلم وزيارة العلماء والصلحاء وللتجارة ونحو ذلك فغير داخل في حيز المنع ، وكذا زيارة مسجد قباء لمن يتواجد بالمدينة غير داخل في حيز النهي للنص عليه . ( [27] )

وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
[read]
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين بمختلف الوسائل غير الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي )
[/read]









[1] البقرة من الآية 125

[2] ابراهيم من الآية 37

[3] آل عمران من الآية 97

[4] المائدة من الآية 97

[5] البقرة من الآية 126

[6] البقرة من الآية 125

[7] تفسير السعدي ج 1 / ص 65

[8] تفسير ابن كثير ج 1 / ص 414 وأصله في صحيح البخاري 2 / 163


[9] تفسير السعدي ج 1 / ص 65

[10] تفسير ابن كثير ج 1 / ص 414

[11] البقرة من الآية 125

[12] النجم 37

[13] البقرة من الآية 124

[14] نفس المصدر السابق

[15] البقرة 124

[16] البقرة 278و279

[17] مغازي الواقدي ج 1 / ص 833

[18] الحج من الآية 25

[19] سنن ابن ماجه ج 4 / ص 328

[20] صحيح مسلم ج 12 / ص 43

[21] الجن من الآية 23

[22] صحيح البخاري ج 5 / ص 190

[23] مسند أحمد - ج 53 / ص 304


[24] النساء من الآية 52


[25] سنن ابن ماجه ج 4 / ص 328

[26] سنن ابن ماجه ج 4 / ص 323

[27] شرح سنن النسائي 1 / 489 - 490
المشاهدات 6383 | التعليقات 0