خطبة 21 رمضان 1438 أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1438/09/18 - 2017/06/13 15:36PM
أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
21/9/1438هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَفُوِّ الْغَفَّارِ، الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ، الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ؛ خَلَقَ عِبَادَهُ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، وَهَدَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ فَكَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، وَدَلَّهُمْ عَلَى مَوَاسِمِ الْخَيْرِ فَكَانَ عَمَلُهُمْ فِيهَا مَبْرُورًا، وَضَلَّ عَنْ هِدَايَتِهِ مَنْ يَصْلَى جَهَنَّمَ مَذْمُومًا مَدْحُورًا، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ فَلَهُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي هِبَاتٌ وَعَطَايَا، مَنْ نَالَهَا سَعِدَ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَمَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ رَبٌّ رَحِيمٌ، وَجَوَادٌ كَرِيمٌ، وَإِلَهٌ عَظِيمٌ؛ يُفِيضُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي عَلَى عِبَادِهِ مِنْ عَفْوِهِ مَا يَمْنَعُ عَنْهُمُ الْعُقُوبَاتِ، وَيُكَفِّرُ عَنْهُمُ الْخَطِيئَاتِ، وَيَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ؛ فَسُبْحَانَهُ مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ كَرِيمٍ رَحِيمٍ لَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا كُنَّا، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ مَا صَلَّيْنَا وَلَا صُمْنَا وَلَا قُمْنَا، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا عَرَفْنَاهُ، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا عَبَدْنَاهُ؛ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِيمَانِ وَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الْأَعْرَافِ: 43]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ إِمَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالشَّافِعُ فِي الْمَحْشَرِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ؛ فَلْنَأْخُذْ مِنْهَا حَظَّنَا، وَلْنَعْبُدْ فِيهَا رَبَّنَا، وَلْنَقْضِهَا قَائِمِينَ قَانِتِينَ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ قَارِئِينَ دَاعِينَ مُتَضَرِّعِينَ خَاشِعِينَ، مُنْكَسِرِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، رَاجِينَ رَحْمَتَهُ، مُحَاذِرِينَ نِقْمَتَهُ، مُحْسِنِينَ الظَّنَّ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعْطِينَا سُؤْلَنَا، وَيَجْزِينَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلْنَا؛ لِقُوَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَضَعْفِنَا، وَكَرَمِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَاجَتِنَا؛ وَلِمَا عَوَّدَنَا سُبْحَانَهُ مِنْ كِرِيمِ عَوَائِدِهِ؛ وَلِمَا وَعَدَنَا وَرَبُّنَا لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ فَلْنُرِ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِنَا خَيْرًا؛ فَلَا نُبَارِحُ مَسَاجِدَنَا، وَلَا نُفَارِقُ مَصَاحِفَنَا، وَلْنُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي لَيَالِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبَ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 186].
أَيُّهَا النَّاسُ: لَا أَحَدَ مِنَ الْبَشَرِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَحَدَ مِنَ النَّاسِ أَعْلَمُ بِالدَّعَوَاتِ النَّافِعَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَمَا كَانَ لِيَخْتَارَ إِلَّا أَنْفَعَ الدُّعَاءِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُلْهِمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا أَفْضَلَ الدُّعَاءِ.
وَحَيْثُ إِنَّنَا فِي أَوَائِلِ عَشْرٍ مُبَارَكَةٍ يَكْثُرُ فِيهَا الدُّعَاءُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَتَتَوَجَّهُ الْقُلُوبُ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتُرْفَعُ الْأَكُفُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ تَسْأَلُهُ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الدَّعَوَاتِ هِيَ أَكْثَرُ دَعَوَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِنُكْثِرَ مِنْهَا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ؛ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَيْلًا لِبَرَكَةِ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَهُ وَأَنْفَعَهُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنْهُ.
فَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النَّصْرِ: 1]، إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» فَلْنُكْثِرْ -عِبَادَ اللَّهِ- فِي رُكُوعِنَا وَسُجُودِنَا مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَمِنْ أَنْفَعِ الدُّعَاءِ لِتَحْصِيلِ الْمَحْبُوبَاتِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «اسْتَعَاذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ، كُلُّ شَيْئَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ: فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ قَرِينَانِ، وَهَمَا الْأَلَمُ الْوَارِدُ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فَهُوَ الْحَزَنُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يُسْتَقْبَلُ فَهُوَ الْهَمُّ... وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ تَخَلُّفَ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ وَبُعْدَهَا عَنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ فَهُوَ عَجْزٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ الْإِرَادَةِ فَهُوَ كَسَلٌ. وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ يُفْرِحُ الْقَلْبَ، وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيَجْلِبُ النِّعَمَ، وَيَدْفَعُ النِّقَمَ، وَتَرْكُهُ يُوجِبُ الضَّيْمَ وَالضِّيقَ، وَيَمْنَعُ وُصُولَ النِّعَمِ إِلَيْهِ، فَالْجُبْنُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ بِالْبَدَنِ، وَالْبُخْلُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ بِالْمَالِ. وَضَلَعُ الدَّيْنِ وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْعَبْدِ إِمَّا مِنْهُ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ» انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» فَفِي هَذَا الدُّعَاءِ اسْتِعَاذَةٌ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِذَا أَعَاذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا عَفَا عَنْهَا وَغَفَرَهَا، وَفِيهِ اسْتِعَاذَةٌ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنْهُ وَيَصْرِفَهُ عَنْهُ، فَهَذَا مِنْ أَنْفَعِ الدُّعَاءِ.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا» وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَتْ: «كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» وَمَا أَحْوَجَ الْمُؤْمِنَ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ تَقَلُّبُ الْقُلُوبِ، وَتَغْيِيرُ الْمَوَاقِفِ، وَبَيْعُ الدِّينِ؛ فَكَمْ مِنْ صَائِمٍ مُصَلٍّ يُحَارِبُ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَهُ، وَيَصُدُّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَيَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ شَرِيعَتِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِزَيْغِهِ وَهَلَاكِهِ وَنِفَاقِهِ.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: «وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ».
وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَجْمَعُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أُعْطِيَ حَسَنَةَ الدُّنْيَا سَعِدَ فِيهَا، وَإِذَا أُعْطِيَ حَسَنَةَ الْآخِرَةِ فَازَ فِيهَا، وَإِذَا وُقِيَ النَّارَ كَانَ فَوْزُهُ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ قَبْلَهَا.
سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْنَا، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ نَعْمَلْ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَجِدُّوا وَاجْتَهِدُوا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ الَّتِي فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [الْقَدْرِ: 2 - 5]، «مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» فَالْمُوَفَّقُ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي، وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ».
فَأَرُوا اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، وَكُونُوا حَيْثُ يُحِبُّ، وَاجْتَنِبُوا مَا يَكْرَهُ، وَاصْطَبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَتَلَذَّذُوا بِالْقِيَامِ وَبِالْقُرْآنِ، وَأَلِحُّوا فِي الدُّعَاءِ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَظُنُّوا بِهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْكُمْ، وَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَكُمْ، وَيُعْطِيكُمْ سُؤْلَكُمْ؛ فَإِنَّ رَبَّكُمْ جَوَادٌ كَرِيمٌ، وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، عَظِيمُ الْعَطَاءِ، لَا يَتَعَاظَمُ شَيْئًا أَعْطَاهُ، وَقَدْ خَاطَبَكُمْ سُبْحَانَهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فَقَالَ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
21/9/1438هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَفُوِّ الْغَفَّارِ، الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ، الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ؛ خَلَقَ عِبَادَهُ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، وَهَدَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ فَكَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، وَدَلَّهُمْ عَلَى مَوَاسِمِ الْخَيْرِ فَكَانَ عَمَلُهُمْ فِيهَا مَبْرُورًا، وَضَلَّ عَنْ هِدَايَتِهِ مَنْ يَصْلَى جَهَنَّمَ مَذْمُومًا مَدْحُورًا، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ فَلَهُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي هِبَاتٌ وَعَطَايَا، مَنْ نَالَهَا سَعِدَ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَمَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ رَبٌّ رَحِيمٌ، وَجَوَادٌ كَرِيمٌ، وَإِلَهٌ عَظِيمٌ؛ يُفِيضُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي عَلَى عِبَادِهِ مِنْ عَفْوِهِ مَا يَمْنَعُ عَنْهُمُ الْعُقُوبَاتِ، وَيُكَفِّرُ عَنْهُمُ الْخَطِيئَاتِ، وَيَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ؛ فَسُبْحَانَهُ مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ كَرِيمٍ رَحِيمٍ لَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا كُنَّا، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ مَا صَلَّيْنَا وَلَا صُمْنَا وَلَا قُمْنَا، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا عَرَفْنَاهُ، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا عَبَدْنَاهُ؛ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِيمَانِ وَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الْأَعْرَافِ: 43]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ إِمَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالشَّافِعُ فِي الْمَحْشَرِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ؛ فَلْنَأْخُذْ مِنْهَا حَظَّنَا، وَلْنَعْبُدْ فِيهَا رَبَّنَا، وَلْنَقْضِهَا قَائِمِينَ قَانِتِينَ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ قَارِئِينَ دَاعِينَ مُتَضَرِّعِينَ خَاشِعِينَ، مُنْكَسِرِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، رَاجِينَ رَحْمَتَهُ، مُحَاذِرِينَ نِقْمَتَهُ، مُحْسِنِينَ الظَّنَّ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعْطِينَا سُؤْلَنَا، وَيَجْزِينَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلْنَا؛ لِقُوَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَضَعْفِنَا، وَكَرَمِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَاجَتِنَا؛ وَلِمَا عَوَّدَنَا سُبْحَانَهُ مِنْ كِرِيمِ عَوَائِدِهِ؛ وَلِمَا وَعَدَنَا وَرَبُّنَا لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ فَلْنُرِ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِنَا خَيْرًا؛ فَلَا نُبَارِحُ مَسَاجِدَنَا، وَلَا نُفَارِقُ مَصَاحِفَنَا، وَلْنُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي لَيَالِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبَ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 186].
أَيُّهَا النَّاسُ: لَا أَحَدَ مِنَ الْبَشَرِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَحَدَ مِنَ النَّاسِ أَعْلَمُ بِالدَّعَوَاتِ النَّافِعَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَمَا كَانَ لِيَخْتَارَ إِلَّا أَنْفَعَ الدُّعَاءِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُلْهِمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا أَفْضَلَ الدُّعَاءِ.
وَحَيْثُ إِنَّنَا فِي أَوَائِلِ عَشْرٍ مُبَارَكَةٍ يَكْثُرُ فِيهَا الدُّعَاءُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَتَتَوَجَّهُ الْقُلُوبُ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتُرْفَعُ الْأَكُفُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ تَسْأَلُهُ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الدَّعَوَاتِ هِيَ أَكْثَرُ دَعَوَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِنُكْثِرَ مِنْهَا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ؛ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَيْلًا لِبَرَكَةِ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَهُ وَأَنْفَعَهُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنْهُ.
فَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النَّصْرِ: 1]، إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» فَلْنُكْثِرْ -عِبَادَ اللَّهِ- فِي رُكُوعِنَا وَسُجُودِنَا مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَمِنْ أَنْفَعِ الدُّعَاءِ لِتَحْصِيلِ الْمَحْبُوبَاتِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «اسْتَعَاذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ، كُلُّ شَيْئَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ: فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ قَرِينَانِ، وَهَمَا الْأَلَمُ الْوَارِدُ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فَهُوَ الْحَزَنُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يُسْتَقْبَلُ فَهُوَ الْهَمُّ... وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ تَخَلُّفَ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ وَبُعْدَهَا عَنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ فَهُوَ عَجْزٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ الْإِرَادَةِ فَهُوَ كَسَلٌ. وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ يُفْرِحُ الْقَلْبَ، وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيَجْلِبُ النِّعَمَ، وَيَدْفَعُ النِّقَمَ، وَتَرْكُهُ يُوجِبُ الضَّيْمَ وَالضِّيقَ، وَيَمْنَعُ وُصُولَ النِّعَمِ إِلَيْهِ، فَالْجُبْنُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ بِالْبَدَنِ، وَالْبُخْلُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ بِالْمَالِ. وَضَلَعُ الدَّيْنِ وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْعَبْدِ إِمَّا مِنْهُ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ» انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» فَفِي هَذَا الدُّعَاءِ اسْتِعَاذَةٌ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِذَا أَعَاذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا عَفَا عَنْهَا وَغَفَرَهَا، وَفِيهِ اسْتِعَاذَةٌ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنْهُ وَيَصْرِفَهُ عَنْهُ، فَهَذَا مِنْ أَنْفَعِ الدُّعَاءِ.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا» وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَتْ: «كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» وَمَا أَحْوَجَ الْمُؤْمِنَ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ تَقَلُّبُ الْقُلُوبِ، وَتَغْيِيرُ الْمَوَاقِفِ، وَبَيْعُ الدِّينِ؛ فَكَمْ مِنْ صَائِمٍ مُصَلٍّ يُحَارِبُ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَهُ، وَيَصُدُّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَيَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ شَرِيعَتِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِزَيْغِهِ وَهَلَاكِهِ وَنِفَاقِهِ.
وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: «وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ».
وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَجْمَعُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أُعْطِيَ حَسَنَةَ الدُّنْيَا سَعِدَ فِيهَا، وَإِذَا أُعْطِيَ حَسَنَةَ الْآخِرَةِ فَازَ فِيهَا، وَإِذَا وُقِيَ النَّارَ كَانَ فَوْزُهُ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ قَبْلَهَا.
سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْنَا، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ نَعْمَلْ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَجِدُّوا وَاجْتَهِدُوا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ الَّتِي فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [الْقَدْرِ: 2 - 5]، «مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» فَالْمُوَفَّقُ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي، وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ».
فَأَرُوا اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، وَكُونُوا حَيْثُ يُحِبُّ، وَاجْتَنِبُوا مَا يَكْرَهُ، وَاصْطَبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَتَلَذَّذُوا بِالْقِيَامِ وَبِالْقُرْآنِ، وَأَلِحُّوا فِي الدُّعَاءِ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَظُنُّوا بِهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْكُمْ، وَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَكُمْ، وَيُعْطِيكُمْ سُؤْلَكُمْ؛ فَإِنَّ رَبَّكُمْ جَوَادٌ كَرِيمٌ، وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، عَظِيمُ الْعَطَاءِ، لَا يَتَعَاظَمُ شَيْئًا أَعْطَاهُ، وَقَدْ خَاطَبَكُمْ سُبْحَانَهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فَقَالَ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مشكولة.doc
أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مشكولة.doc
أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.doc
أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق