خطبة يوم 22/9/1433 أوصاف القرآن الكريم

أَوْصَافُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (4)
[قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]
22/9/1433

الْحَمْدُ للهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ مَوْعِظَةً لِلنَّاسِ؛ فَمَنِ اتَّعَظَ بِهِ كَفَاهُ عَنْ غِيْرِهِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَمَا لَهُ مِنْ عِظَةٍ، نَحْمَدُهُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى الْعَطَاءِ وَالرِّعَايَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَنِسَ بِذِكْرِهِ الْمُخْبِتُونَ، وَانْقَطَعَ لِعِبَادَتِهِ الْمُعْتَكِفُونَ، وَأَمَّلَ فِي جُودِهِ الرَّاجُونَ؛ فَتَرَكُوا الْمَشَاغِلَ وَالصَّوَارِفَ، وَأَقْبَلُوا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ يَتَعَرَّضُونَ لِنَفَحَاتِهِ وَرَحَمَاتِهِ، وَيَتَفَرَّغُونَ لِعَطَائِهِ وَهِبَاتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَخِيرَةَ مِنْ رَمَضَانَ؛ فَيَنْقَطِعُ عَنِ النَّاسِ، وَيَخْلُو بِاللهِ تَعَالَى يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَيَرْجُو الْمَثُوبَةَ وَالْأَجْرَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ؛ فَإِنَّكُمْ تُعَامِلُونَ غَنِيًّا كَرِيمًا قَدِيرًا؛ فَبِغِنَاهُ تَعَالَى تُكْثِرُونَ مَسْأَلَتَهُ فَيُجْزِلُ عَطَاءَكُمْ، وَلَا يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ، وَبِكَرَمِهِ سُبْحَانَهُ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ، وَلَوْ عَظُمَ فِي نُفُوسِكُمْ، وَبِقُدْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ يُحَقِّقُ مُرَادَكُمْ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا، وَيُيَسِّرُ مَطْلُوبَكُمْ وَلَوْ كَانَ عَسِيرًا؛ فَأَلِحُّوا عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، وَالْزَمُوا بَابَ الرَّجَاءِ؛ فَلَنْ يَخِيبَ عَبْدٌ عَمِلَ وَهُوَ يَرْجُو؛ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ تُعْمَرُ الْمَسَاجِدُ بِالْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَالدَّاعِينَ؛ فَلَا تَشْكُو وَحْدَةً وَلَا وَحْشَةً، وَلَا تَجِدُ مِنَ النَّاسِ هَجْرًا وَلَا بُعْدًا، وَفِي اللَّيْلِ تَعِجُّ بِالْقُرْآنِ يُتْلَى فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ، وَبَيْنَ الْقِيَامَيْنِ قَوْمٌ رُكَّعٌ سُجَّدٌ، وَآخَرُونَ أَخَذُوا زَوَايَا مِنَ الْمَسْجِدِ قَدْ نَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ، وَأَخْضَلُوا بِالدَّمْعِ لِحَاهُمْ، يَتَرَنَّمُونَ بِالْقُرْآنِ تَرَنُّمَ الْأَسِيفِ الْكَسِيرِ، الَّذِي نَظَرَ إِلَى تَتَابُعِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، بِجَانِبِ جِنَايَتِهِ فِي حَقِّ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ فَانْكَسَرَتْ نَفْسُهُ، وَذَلَّتْ لِرَبِّهِ، يَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخْشَى عَذَابَهُ.
وَالْقُرْآنُ خَيْرُ وَاعِظٍ، وَوَعْظُ الْقُرْآنِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَتَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ؛ حَتَّى لَا يَسْتَبِدَّ رَجَاءٌ بِصَاحِبِهِ فَيُلْقِيهِ فِي أَوْدِيَةِ الْغُرُورِ، وَلَا يُحَاصِرَ يَأْسٌ صَاحِبَهُ، فَيُغْلِقَ دُونَهُ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ.
وَالْوَعْظُ هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ لِتَرِقَّ الْقُلُوبُ، وَمِنْ أُوْصَافِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يُونُسَ: 57]، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: هَذِهِ آيَةٌ خُوطِبَ بِهَا جَمِيعُ الْعَالَمِ، وَالْمَوْعِظَةُ: الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّ الْوَعْظَ إِنَّمَا هُوَ بِقَوْلٍ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَزْجُرُ وَيُرَقِّقُ وَيُوعِدُ وَيَعِدُ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ؛ فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دَاعٍ إِلَى كُلِّ مَرْغُوبٍ، وَزَاجِرٌ عَنْ كُلِّ مَرْهُوبٍ.
وَلَاحِظُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تُصَوِّرُ الْمَوْعِظَةَ وَكَأَنَّهَا قَدْ تَجَسَّدَتْ وَصَارَ لَهَا مَجِيءٌ [جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ]، رَغْمَ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ كَلِمَاتٌ، وَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَ لِلْمَوْعِظَةِ صُورَةَ الْحَرَكَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي أَصْحَابِهَا، وَتَأْخُذُ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَتَأْكِيدًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ نَسَبَهَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: [مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]؛ لِبَيَانِ قِيمَتِهَا وَأَهَمِّيَّتِهَا، وَحَثِّ الْبَشَرَ عَلَى الِاحْتِفَاءِ بِهَا، وَمَا أَلْطَفَ اللهَ تَعَالَى حِينَ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَيْسَ بِلَفْظِ الْأُلُوهِيَّةِ؛ وَذَلِكَ لِتَحْبِيبِ قَارِئِ الْقُرْآنِ فِي مَوَاعِظِهِ، وَحَمْلِهِ عَلَى قَبُولِهَا؛ [مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ مَنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ الْمَوْعُوظَ، وَصَوَّرَهُ فِي أَحْسَنِ صُورَة، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقِهِ، وَدَفَعَ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ، وَعَلَّمَهُ مَا يَنْفَعُهُ، فَمَنْ أَسْدَى هَذَا الْخَيْرَ لِلْإِنْسَانِ؛ فَحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَكُونَ رَحِيمًا بِهِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِ، فَإِذَا وَعَظَهُ فَإِنَّمَا يَعِظُهُ لِمَصْلَحَتِهِ بِدَفْعِهِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ، وَرَدِّهِ عَمَّا يَضُرُّهُ.. فَيَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، رَبُّكَ الَّذِي خَلَقَكَ، وَرَزَقَكَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ يَعِظُكَ، فَحَرِيٌّ بِكَ أَنْ تَقْبَلَ مَوْعِظَتَهُ، وَمَوْعِظَتُهُ هِيَ الْقُرْآنُ، فَاقْبَلِ الْقُرْآنَ، وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ بِقَلْبٍ يَعِي مَا فِيهِ، وَيَتَأَثَّرُ بِهِ وَيَتَدَبَّرُهُ، وَيُذْعِنُ لِمَا فِيهِ وُيُطَبِّقُهُ.
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَمَا فِيهِ مِنْ قَصَصٍ وَأَحْكَامٍ مَوْعِظَةٌ؛ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 138]، وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [النُّورِ: 34].
وَفِي آيَةٍ رَابِعَةٍ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَعِظُنَا بِالْقُرْآنِ؛ {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 231]، وَتَاللهِ إِنَّ مَوْعِظَتَهُ سُبْحَانَهُ لَأَحْسَنُ الْمَوَاعِظِ وَأَبْلَغُهَا، وَأَوْجَزُهَا وَأَحْكَمُهَا، وَأَرَقُّهَا وَأَصْدَقُهَا وَأَخْلَصُهَا وَأَنْصَحُهَا، وَأَكْثَرُهَا تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ، وَإِصْلَاحًا لِلْعِبَادِ؛ {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النِّسَاءِ: 58]، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَارَى عَاقِلَانِ فِي حُسْنِ مَوْعِظَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَنْفَعَتِهَا لِلْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، إِنَّهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِمَا يَتَّعِظُ الْقَارِئُ بِهِ إِذَا تَدَبَّرَهُ وَفَهِمَ مَعْنَاهُ، وَأَرْعَى لَهُ سَمْعَهُ، وَفَرَّغَ لَهُ قَلْبَهُ.
وَالْمَوَاعِظُ مِنْهَا مَا هُوَ كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْعِيٌّ، وَالْمَوْعِظَةُ الْكَوْنِيَّةُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ، وَذَلِكَ كَالْمَصَائِبِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَوَاعِظُ لِمَنْ أَصَابَتْهُمْ، وَلِمَنْ رَآهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّوْبَةِ وَالْأَوْبَةِ، وَمِنْهَا مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 65، 66].
بَيْنَمَا تَكُونُ الْمَوَاعِظُ الشَّرْعِيَّةُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ الْحَيَّةِ؛ قُلُوبِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَشْيَةِ، وَأَعْلَاهَا وَأَقْوَاهَا مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ.
وَمِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَثَانِي؛ أَيْ: يُذْكَرُ فِيهِ الشَّيْءُ وَمَا يُقَابِلُهُ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، كَذِكْرِ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْوَعْظِ؛ لِغَرْسِ التَّوَازُنِ فِي قَلْبِ الْمَوْعُوظِ، فَيَكُونُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ فَالْوَعْظُ بِالْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَسُوَرِهِ هُوَ وَعْظٌ يَجْمَعُ رُكْنَيِ الْوَعْظِ: التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ.
وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ السَّابِقِينَ، وَأَخْبَارِ الثَّابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ وَمآلِهِمْ، وَأَنْبَاءِ النَّاكِصِينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَعَاقِبَتِهِمْ وَعْظٌ لِلْقُلُوبِ، وَتَذْكِيرٌ لِلنَّاسِ بِأَخْبَارِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَاذَا حَلَّ بِهِمْ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ، وَيُرَقِّقُ الْقُلُوبَ، وَيَأْخُذُ بِيَدِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ لِمَوَاطِنِ الْهِدَايَةِ، وَاجْتِنَابِ الْغِوَايَةِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يُوسُفَ: 111]، وَالْعِبْرَةُ هِيَ الْعِظَةُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قَصَصَ النَّبِيِّينَ قَالَ: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [هُودٍ: 120]، فَفِيهَا مَوْعِظَةٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَسَمِعَهَا.
وَحِينَ يَرَى قَارِئُ الْقُرْآنِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعِظُ رُسُلَهُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- يَتَطَامَنُ مِنْ كِبْرِيَائِهِ، وَيَنْزِلُ مِنْ عَلْيَائِهِ، وَيَتَوَاضَعُ للهِ تَعَالَى وَيَقْبَلُ مَوَاعِظَهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا أَحَدَ فَوْقَ الْوَعْظِ مَهْمَا كَانَ عُلُوُّ مَنْزِلَتِهِ، وَكَثْرَةُ عِلْمِهِ، وَمَتَانَةُ دِينِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنُوحٍ وَهُوَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هُودٍ: 46]؛ فَمَنْ نَحْنُ أَمَامَ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَدْ وَعَظَهُ اللهُ تَعَالَى فَقَبِلَ مَوْعِظَتَهُ وَاسْتَغْفَرَهُ، وَمَنْ يَجْرُؤُ عَلَى رَدِّ مَوْعِظَةِ اللهِ تَعَالَى وَقَدْ قَبِلَهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.
فَاقْرَؤُوا الْقُرْآنَ بِقُلُوبِكُمْ قَبْلَ أَلْسِنَتِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَعَانِيهِ بِقُلُوبِكُمْ قَبْلَ نَظَرِ أَبْصَارِكُمْ إِلَى حُرُوفِهِ، وَاسْمَعُوهُ وَعُوهُ بِقُلُوبِكُمْ قَبْلَ سَمَاعِهِ بِآذَانِكُمْ؛ فَإِنَّهُ مَوْعِظَةُ اللهِ تَعَالَى لَنَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يُونُسَ: 57، 58].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ..
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَكُونُوا مِمَّنْ إِذَا ذُكِّرُوا تَذَكَّرُوا، وَإِذَا وُعِظُوا اتَّعَظُوا، وَمَنْ لَمْ يَتَّعِظْ هَذِهَ الْأَيَّامَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يَتْلُوهُ وَيَسْمَعُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ فَمَتَى يَتَّعِظُ؟! وَمَتَى يَتَأَثَّرُ بِالْقُرْآنِ؟! وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعِظَنَا بِالقُرْآنِ [فَذَكِّرْ بِالقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ] {ق:45} أَيْ: فَعِظْ بِالقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِي وَعُقُوبَتِي.
وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} [الصَّافَّاتِ: 13] قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَيْ: "إِذَا وُعِظُوا بِالْقُرْآنِ لَا يَتَّعِظُونَ"، وَكَانَ هَذَا حَالَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُ مَا بَرِحَ يَعِظُهُمْ بِالْقُرْآنِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مَوْعِظَتَهُ حَتَّى عَذَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي بَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالذُّلِّ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى، وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَمَا حَاقَ بِهِمْ مِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ لَمَّا لَمْ يَتَّعِظُوا بِالْقُرْآنِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النِّسَاءِ: 66 - 68]؛ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ الِاتِّعَاظِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ حُصُولَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَالثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ، وَنَيْلَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَالْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَبِاللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ هَلْ يُفَرِّطُ فِي هَذَا كُلِّهِ إِلَّا مَحْرُومٌ؟!
وَمَنْ سَبَقُونَا مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَرَّطُوا فِي مَوَاعِظِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الْأَعْرَافِ: 165، 166]؛ أَيْ: لَمَّا تَرَكُوا مَا وُعِظُوا بِهِ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَذَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً بِرَفْضِهِمْ لِلْمَوْعِظَةِ؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنِ تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا وَعَمَلًا؛ فَإِنَّ الدَّيْمُومَةَ عَلَى الْقُرْآنِ تَعْنِي الدَّيْمُومَةَ عَلَى سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ، وَالتَّأَثُّرِ بِهَا، وَهَذَا مَا يَرْفَعُ الْعَذَابَ وَيَدْفَعُهُ؛ {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السَّجْدَةِ: 15]، وَهُمْ مَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا، وَلَمْ يَسْتَكْبِرُوا إِلَّا لِأَنَّهُمْ قَرَؤُوا كَلَامَ اللهِ تَعَالَى وَأَنْصَتُوا إِلَيْهِ، فَاتَّعَظُوا بِمَا قَرَؤُوا وَسَمِعُوا، بِخِلَافِ مَنْ هَجَرُوا الْقُرْآنَ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِهِ.
وَمِنْ أَوْصَافِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: {إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الْفُرْقَانِ: 73]؛ أَيْ: «إِذَا وُعِظُوا بِالْقُرْآنِ لَمْ يَقَعُوا عَلَيْهِ صُمًّا لَمْ يَسْمَعُوهُ، عُمْيَانًا لَمْ يُبْصِرُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا وَأَبْصَرُوا وَأَيْقَنُوا بِهِ».
فَخُذُوا حَظَّكُمْ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَاتِ؛ أَرْخُوا لَهُ أَسْمَاعَكُمْ، وَاخْفِضُوا لَهُ أَبْصَارَكُمْ، وَطَأْطِئُوا لِعَظَمَتِهِ رُؤوسَكُمْ، وَافْتَحُوا لَهُ قُلُوبَكُمْ، وَتَدَبَّرُوهُ؛ فَإِنَّهُ رَسَائِلُ رَبِّكُمْ إِلَيْكُمْ..
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

أَوْصَافُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ 4.doc

أَوْصَافُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ 4.doc

أوصاف القرآن الكريم4.doc

أوصاف القرآن الكريم4.doc

المشاهدات 4362 | التعليقات 6

جزاك الله خيرا ونفع بعلمك


شكر الله لكم ولا حرك الاجر


بارك الله فيك ونفع بك..


جراك ربي كل خير


جزاك الله خيرا .. شيخنا المبارك .. ونفع الله بما سطّرت وأعظم الله لك المثوبة والأجر ..


شكر الله تعالى لكم إخواني مروركم وتعليقكم وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم ويعلي قدركم، وأعتذر لكم عن التأخر في الرد بسبب أني ما دخلت من أول العشر إلا الآن تقبل الله تعالى مني ومنكم وعيدكم مبارك..