خطبة : يا رَبِّ سَل هذا فِيمَ قَتَلَنِي؟ (حسب التعميم)
يوسف العوض
عباد الله : أخرج النسائي والطبراني ـ واللَّفظُ له ـ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «يجيءُ المقتولُ آخذاً قاتِلَهُ، وَأودَاجُهُ تَشخُبُ دماً عندَ ذي العِزَّةِ، فيقولُ: يا رَبِّ سَل هذا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فيقولُ: فِيمَ قَتَلتَهُ؟ قالَ: قَتَلتُهُ لِتَكونَ العِزَّةُ لِفُلانٍ، قيلَ: هيَ للهِ».
يا عباد الله : جريمةُ القتلِ جريمةُ الجرائمِ، وهيَ من أكبرِ الكبائرِ، وأعظمِ الذُّنوبِ، وأشدِّ الآثامِ، بل هيَ أغلظُها بعد الإشراكِ باللهِ تعالى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ﴾ ، واللهِ قاتلُ النَّفسِ بغيرِ حقٍّ لا عَقلَ عندَهُ، واللهِ مُستَحِلُّ قتلِ النَّفسِ لا عَقلَ عندَهُ، يقولُ اللهُ تعالى مُخبِراً عن أهلِ النارِ: ﴿وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾. ومن أسبابِ دُخولِ نارِ جهنَّمَ قتلُ الأبرياءِ بغيرِ حقٍّ، ومن أسبابِ الخُلودِ فيها استِحلالُ قتلِ الأبرياءِ.
يا عباد الله : بِئسَمَا حَصَّلَ العبدُ المستَحِلُّ قتلَ الأبرياءِ لِنفسِهِ، واللهِ لو تَدَبَّرُ مُستَحِلُّ قتلِ النَّفسِ قولَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُل مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ ، وكانت عندَهُ ذرَّةُ إيمانٍ لَما اجتَرَأَ على القتلِ، بل لَما اجتَرَأَ على إشهارِ السِّلاحِ في وجهِ مؤمنٍ لِيُرَوِّعَهُ فيه، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ».
لقد رَتَّبَ اللهُ تعالى لِمُستحلِّ قتلِ الأبرياءِ أموراً خمسةً:
أولاً/ جزاؤُهُ جهنَّمُ، وما أدراكَ ما جهنَّمُ، جهنَّمُ التي قالَ عنها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما جاء في صحيح الإمام مسلم: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ».
لو جُمِعَ كلُّ ما في الوُجودِ من النَّارِ التي يُوقِدُها بنو آدم، لكانت جُزءاً واحداً من أجزاءِ جهنَّمَ المذكورةِ في الحديثِ ـ أجارنا اللهُ تعالى وإيَّاكم منها ـ.
قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءاً، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا».
سوفَ يرى قاتلُ الأبرياءِ بِنَاظِرَيهِ عندما يُؤتى بها إلى أرضِ المحشرِ، كما روى الإمام مسلم عَن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا». اِحفظ هذا يا قاتلَ الأبرياءِ بغيرِ حقٍّ، واعمل ما شِئتَ بعدَ ذلكَ فإنَّكَ مَجزِيٌّ به.
ثانياً/ وليسَ جزاءً مُؤقَّتاً بل هوَ خُلودٌ فيها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُون * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون * وَمَا ظَلَمْنَاهُم وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون﴾. وقال تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون﴾.
ثالثاً/ معَ جزاءِ جهنَّمَ والخُلودِ فيها غَضَبٌ من اللهِ تعالى الجبَّارِ المُنتقمِ، ومن غَضِبَ اللهُ تعالى عليه فلا تنفَعُهُ طاعةٌ ولا قُربةٌ، قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً﴾. ومن استَحَلَّ قتلَ الأبرياءِ فقد اندَرَجَ تحتَ هذهِ الآيةِ الكريمةِ ـ والعياذُ باللهِ تعالى ـ .
رابعاً/ وإضافةً إلى ذلك تُصبُّ عليه اللَّعنةُ من اللهِ تعالى، واللَّعنُ يعني الطَّردَ من رحمةِ اللهِ تعالى، ومن طُرِدَ من رحمةِ اللهِ تعالى فما تنفَعُهُ شفاعةُ الشَّافعينَ، بل لا تنفَعُهُ شفاعةُ سيِّدِ المرسلينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما جاء في الحديثِ الشريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ سهلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ وَرَدَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأ أَبَداً، وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ: إِنَّهُم مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقاً سُحْقاً لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي».
ومن استَحَلَّ قتلَ النَّفسِ بغيرِ حقٍّ فقد بدَّلَ وغيَّرَ وابتَدَعَ في دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وكيفَ يجتَرِئُ على استِحلالِ قتلِ الأبرياءِ، وسيِّدُنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يقولُ: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»؟ رواه الإمام البخاري عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
خامساً/ وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ مَن غَضِبَ اللهُ عليه ولَعَنَهُ، فإنَّهُ سَيُعِدُّ له عذاباً عظيماً مُضاعفاً، قال تعالى: ﴿وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾.
يا عباد الله : السَّعيدُ من كانَ سَبباً في حقنِ الدِّماءِ البريئةِ، السَّعيدُ من كانَ مِفتاحاً لِلخيرِ مِغلاقاً لِلشَّرِّ، السَّعيدُ من حَكَّمَ أقوالَهُ وأفعالَهُ لِشرعِ اللهِ تعالى، والشَّقيُّ من كانَ عكسَ ذلكَ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيد * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيق * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ﴾ ، اللَّهُمَّ اجعلنا من السُّعداءِ ولا تجعلنا من الأشقياءِ.
المرفقات
1663239956_القتل.pdf