خطبة : ( يا بني اركب معنا )
عبدالله البصري
1437/07/14 - 2016/04/21 19:32PM
يا بني اركب معنا 15 / 7 / 1437
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَتَعَدَّدُ الآرَاءُ وَتَتَشَعَّبُ الأَهوَاءُ ، وَتَختَلِفُ الأَعمَالُ وَتَكثُرُ الأَقوَالُ ، وَتَحدُثُ في الدُّوَلِ وَالمُجتَمَعَاتِ تَغَيُّرَاتٌ وَتَحَوُّلاتٌ ، وَقَد يُصبِحُ صَدِيقَ الأَمسِ عَدُوَّ اليَومِ وَبِالعَكسِ ، وَقَد يُغَيِّرُ أَقوَامٌ اتِّجَاهَاتِهِم وَتَنقَلِبُ نَوَايَاهُم ، وَلَكِنَّ كُلَّ مَا يَحصُلُ لا يُخرِجُ الحَقَّ عَن أَن يَبقَى حَقًّا ، وَلا البَاطِلَ عَن أَن يَظَلَّ بَاطِلاً ، قَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " فَمَاذَا بَعدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصرَفُونَ "
وَإِنَّهُ وَمُنذُ أَن خَلَقَ اللهُ الإِنسَانَ ، فَقَد حَذَّرَهُ عَدَاوَةَ الشَّيطَانِ ، فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : " يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوجِكَ فَلا يُخرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشقَى "
وَلَم يَكُنْ هُبُوطُ آدَمَ – عَلَيهِ السَّلامُ – مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا ضَعُفَ وَعَصَى وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ ، إِلاَّ انتِقَالٌ لِمَيدَانِ الصِّرَاعِ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ إِلى هَذِهِ الأَرضِ ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : " قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعًا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقَى . وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى "
وَيَشَاءُ اللهُ أَن تَظَلَّ الخُصُومَةُ بَينَ الرُّسُلِ - عَلَيهِمُ السَّلامُ – وَأَتبَاعِهِم مِن جِهَةٍ ، وَبَينَ أَعدَائِهِم مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَتبَاعِهِم مِن جِهَةٍ أُخرَى ، قَالَ - تَعَالى - : " وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجرِمِينَ "
وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُم وَمَا يَفتَرُونَ . وَلِتَصغَى إِلَيهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرضَوهُ وَلِيَقتَرِفُوا مَا هُم مُقتَرِفُونَ "
نَعَم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّ الصَّرَاعَ وَإِن تَعَدَّدَت أَسمَاءُ الأَعدَاءِ وَتَشَعَّبَت مَذَاهِبُهُم ، إِنَّمَا هُوَ بَينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَهُدًى وَضَلالٍ ، وَصَوَابٍ وَخَطَأٍ ، صَحِيحٌ أَنَّ مُؤَامَرَاتِ أَهلِ البَاطِلِ عَلَى أَهلِ الحَقِّ قَد تَكُونُ اتَّخَذَت أَشكَالاً جَدِيدَةً وَصُوَرًا مُتَعَدِّدَةً ، أَو لَبِسَت مَلابِسَ مُختَلِفَةً أَوِ انتَهَجَت أَسالِيبَ مُتَغَايِرَةً ، أَو رَكِبَت مَوجَاتٍ مُتَبَايِنَةً وَاعتَمَدَت وَسَائِلَ مَاكِرَةً ، لَكِنَّ أَهلَ البَاطِلِ كَانُوا وَمَازَالُوا هُم إِيَّاهُم ، وَالمُسلِمُونَ بِعَامَّةٍ وَأَهلُ السُّنَّةِ بِخَاصَّةٍ ، كَانُوا وَمَا يَزَالُونَ غَرَضًا لِسَهَامِ العَدُوِّ الغَادِرَةِ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاء بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَدَّت طَائِفَةٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يُضِلُّونَكُم "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم "
وَقَالَ – تَعَالى - : " وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم "
وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ "
وَمَعَ مَا تَعَرَّضَ لَهُ الحَقُّ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتَوَالي الدُّهُورِ مِن نَكَبَاتٍ ، إِلاَّ أَنَّ ثَبَاتَهُ وَرُسُوخَهُ وَانتِصَارَهُ ، وَطَيَشَانَ البَاطِلِ وَزَوَالَهُ وَمَحقَهُ ، سُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ الَّتي لا تَتَبَدَّلُ وَلا تَتَغَيَّرُ ، وَهُوَ - تَعَالى - يَنصُرُ المُهتَدِينَ وَيُؤَيِّدُهُم وَيَحفَظُهُم ، كَمَا قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا في السَّمَاء تُؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذنِ رَبِّهَا وَيَضرِبُ اللهُ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ . يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ "
أَجَل – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – إِنَّ الحَقَّ ثَابِتٌ وَأَهلَهُ مَهدِيُّونَ مَنصُورُونَ ، وَالبَاطِلَ زَائِلٌ وَأَهلَهُ مَخذُولُونَ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ " الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ " قَالَ - سُبحَانَهُ - : " وَلَقَد كَتَبنَا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ "
وَقَالَ – تَعَالى - : " هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ "
وَلَو شَاءَ اللهُ وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ لَنَصَرَ عِبَادَهُ وَأَظهَرَ دِينَ الحَقِّ بِقَضَاءٍ مِنهُ وَقَدَرٍ ، بِلا عَمَلٍ ولا جُهدٍ مِن بَشَرٍ ، وَلَكِنَّ حِكمَتَهُ اقتَضَتِ الابتِلاءَ وَالمُدَافَعَةَ ، قَالَ - تَعَالى - : " ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِنْ لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفرِغْ عَلَينَا صَبرًا وَثَبِّتْ أَقدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُم بِإِذنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولا دَفعُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضلٍ عَلَى العَالَمِينَ "
نَعَم – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – لَقَد جَعَلَ رَبُّكُمُ الخُصُومَةَ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ مُستَمِرَّةً إِلى أَن يَرِثَ الأَرضُ وَمَن عَلَيهَا " وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ . إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم " وَمِن ثَمَّ فَلا يَظُنَّنَ ظَانٌّ أَنَّ الطَّرِيقَ مَفرُوشَةٌ بِالوُرُودِ وَالرَّيَاحِينَ ، بَل هِيَ طَرِيقٌ لا تَخلُو مِن مَشَقَّةٍ " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ "
لَقَد لاقى الأَنبِيَاءُ - عَلَيهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - في سَبِيلِ الحَقِّ مَا لاقَوا ، فَمِنهُم مَن أُخرِجَ مِن دِيَارِهِ ، وَمِنهُم مَن طُرِدَ مِن أَرضِهِ ، وَمِنهُم مِن حُوصِرَ وَمِنهُم مَن قُتِلَ ، وَمَعَ هَذَا فَقَد تَكُونُ الدَّائِرَةُ في وَقتٍ مِنَ الأَوقَاتِ أَو جِهَةٍ مِنَ الجِهَاتِ لأَهلِ البَاطِلِ وَيَغلِبُونَ ، وَلَكِنَّ المُؤمِنِينَ يَبقَونَ صَابِرِينَ ثَابِتِينَ ، وَيُجَاهِدُونَ بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِن قُوَّةٍ ؛ لأَنَّهُم مَنهِيُّونَ عَنِ الضَّعفِ وَالجَزَعِ ، قَالَ – تَعَالى - : " وَلاَ تَهِنُوا في ابتِغَاء القَومِ إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمونَ وَتَرجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرجُونَ "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " فَقَاتِلُوا أَولِيَاء الشَّيطَانِ إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا "
أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّهُ لَوَاجِبٌ عَلَى المُؤمِنِينَ وَهُم عَلَى الحَقِّ أَن يُدَافِعُوا البَاطِلَ وَيَستَدفِعُوا كَيدَ الشَّيطَانِ وَجُندِهِ ، ولا يَتَخَاذَلُوا لأَنَّ لِوَاءَ البَاطِلِ في زَمَنٍ كَزَمَانِنَا حَمَلَتهُ دُوَلٌ وَحُكُومَاتٌ ، أَو رَفَعَتهُ هَيئَاتٌ وَمُنَظَّمَاتٌ ، فَهَذَا شَأنُ البَاطِلِ وَتِلكَ عَادَتُهُ ، قَد يَحتَدِمُ في حِينٍ وَتَكُونُ لَهُ صَولَةٌ ، إِلاَّ أَنَّهُ كُلَّمَا احتَدَمَ وَقَوِيَ وَتَعَاظَمَ ، كَانَ هَذَا مُبَشِّرًا بِتَمَيُّزِ الخَيرِ عَنِ الشَّرِّ ، وَحِينَهَا يُعرَفُ مَن يَحمِلُ هَمَّ الإِسلامِ وَيَرفَعُ لِوَاءَهُ بِصِدقٍ ، وَمَن هُوَ قَائِمٌ بِوَاجِبِ الدَّعوَةِ إِلى اللهِ بِحَقٍّ ، وَمَن لم يَكُنْ تَلَبُّسُهُ بِالحَقِّ في الظَّاهِرِ سِوَى سُلَّمٍ لِنَيلِ حَظٍّ مِنَ الدُّنيَا قَلِيلٍ " وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ "
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَكُنْ مِن حِزبِهِ المُفلِحِينَ ، وَلْنَكُنْ صَفًّا في مُوَاجَهَةِ البَاطِلِ وَمُدَافَعَتِهِ ؛ فَذَلِكَ سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ لَنَا ، وَإِذَا أَحَبَّنَا – تَعَالى – نَصَرَنَا وَأَيَّدَنَا ، وَهُوَ القَائِلُ – سُبحَانَهُ - : " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرصُوصٌ " " إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ . لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، عِندَمَا تَشتَدُّ الأَزَمَاتُ وَيَحتَدِمُ الصِّرَاعُ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَتَتَمَايَزُ الصُّفُوفُ وَلا يُبقِي الطُّوفَانُ مَجَالاً لِلتَّفكِيرِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُؤمِنِ الرُّكُوبُ في سَفِينَةِ النَّجَاةِ مَعَ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، وَعَدَمُ التَّشَبُّثِ بِما يَظُنُّ فِيهِ نَجَاةً غَيرَ الدِّينِ ، وَلا يَغتَرَّنَّ أَحَدٌ بِبَاطِلٍ وَإِن عَلا شَأنُهُ وَارتَفَعَ بُنيَانُهُ ، فَلَيسَ وَرَاءَ اللهِ مُنتَهَى ، وَهَذَا نُوحٌ - عَلَيهِ السَّلامُ - لَمَّا عَلا الطُّوفَانُ ، وَالسَّفِينَةُ " تَجرِي بِهِم في مَوجٍ كَالجبَالِ " دَعَا ابنَهُ إِلى الطَّرِيقِ الوَحِيدِ لِلنَّجَاةِ " وَنَادَى نُوحٌ ابنَهُ وَكَانَ في مَعزِلٍ يَا بُنَيَّ اركَبْ مَعَنَا وَلا تَكُن مَعَ الكَافِرِينَ " وَلَمَّا انخَدَعَ ابنُهُ بِعُلُوِّ الجِبَالِ وَظَنَّ أَنَّهَا سَتَمنَعُهُ مِن عَذَابِ اللهِ وَتُنجِيهِ مِن بَأسِهِ ، وَ" قَالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعصِمُني مِنَ المَاءِ " أَجَابَهُ الأَبُ الرَّؤُوفُ بِهِ العَالِمُ بِرَبِّهِ " قَالَ لا عَاصِمَ اليَومَ مِن أَمرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَينَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقِينَ "
إِنَّ العَالَمَ اليَومَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – يَشهَدُ طُوفَانًا لِلشَّرِّ طَاغِيًا ، وَزَحفًا لِلبَاطِلِ عَادِيًا ، وَزَهوًا لَهُ وَانتِفَاشًا وَتَعَالِيًا ، وَسَيَنجَرِفُ مَعَ هَذَا البَاطِلِ مَن يَنجَرِفُ ، وَسَيَنحَرِفُ إِلَيهِ مَن يَنحَرِفُ ، وَلَن يَنجُوَ إِلاَّ مَن عَصَمَهُ اللهُ وَاعتَصَمَ بِحَبلِهِ المَتِينِ ، فَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً وَلا تَختَلِفُوا ، اُثبُتُوا في طَرِيقِ الهُدَى ، وَادعُوا إِلى سَبِيلِ رَبِّكُم بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ، اُنشُرُوا الحَقَّ وَأَعلُوهُ وَارفَعُوهُ ، وَكُونُوا مِن أَنصَارِهِ وَادعَمُوهُ وَادفَعُوهُ ، جَاهِدُوا بِأَلسِنَتِكُم وَأَموَالِكُم ، أَصلِحُوا أَنفُسَكُم وَأُسَرَكُم وَأَبنَاءَكُم ، وَكُونُوا قُدوَاتٍ حَسَنَةً في الخَيرِ لأَجيَالِكُم ، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهُوا عَنِ المُنكَرِ . إِنَّكُم إِلى رَبِّكُم صَائِرُونَ ، وَعَمَّا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ مَسؤُولُونَ " كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ " وَ" إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا استَرَعَاهُ حَفِظَ أَم ضَيَّعَ " وَلَيسَ ضَلالُ كَبِيرٍ أَو تَهَاوُنُ زَعِيمٍ بِمُسَوِّغٍ لِلتَّخَلِّي عَنِ العُبُودِيَّةِ الحَقَّةِ ، وَالَّتِي مِن أَجلِهَا خُلِقَ العِبَادُ ، فـَ" كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت رَهِينَةٌ " " وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى " وَلا طَاعَةَ لِمَخلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخَالِقِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ . وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ . وَإِذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ "
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَتَعَدَّدُ الآرَاءُ وَتَتَشَعَّبُ الأَهوَاءُ ، وَتَختَلِفُ الأَعمَالُ وَتَكثُرُ الأَقوَالُ ، وَتَحدُثُ في الدُّوَلِ وَالمُجتَمَعَاتِ تَغَيُّرَاتٌ وَتَحَوُّلاتٌ ، وَقَد يُصبِحُ صَدِيقَ الأَمسِ عَدُوَّ اليَومِ وَبِالعَكسِ ، وَقَد يُغَيِّرُ أَقوَامٌ اتِّجَاهَاتِهِم وَتَنقَلِبُ نَوَايَاهُم ، وَلَكِنَّ كُلَّ مَا يَحصُلُ لا يُخرِجُ الحَقَّ عَن أَن يَبقَى حَقًّا ، وَلا البَاطِلَ عَن أَن يَظَلَّ بَاطِلاً ، قَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " فَمَاذَا بَعدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصرَفُونَ "
وَإِنَّهُ وَمُنذُ أَن خَلَقَ اللهُ الإِنسَانَ ، فَقَد حَذَّرَهُ عَدَاوَةَ الشَّيطَانِ ، فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : " يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوجِكَ فَلا يُخرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشقَى "
وَلَم يَكُنْ هُبُوطُ آدَمَ – عَلَيهِ السَّلامُ – مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا ضَعُفَ وَعَصَى وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ ، إِلاَّ انتِقَالٌ لِمَيدَانِ الصِّرَاعِ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ إِلى هَذِهِ الأَرضِ ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : " قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعًا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقَى . وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى "
وَيَشَاءُ اللهُ أَن تَظَلَّ الخُصُومَةُ بَينَ الرُّسُلِ - عَلَيهِمُ السَّلامُ – وَأَتبَاعِهِم مِن جِهَةٍ ، وَبَينَ أَعدَائِهِم مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَتبَاعِهِم مِن جِهَةٍ أُخرَى ، قَالَ - تَعَالى - : " وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجرِمِينَ "
وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُم وَمَا يَفتَرُونَ . وَلِتَصغَى إِلَيهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرضَوهُ وَلِيَقتَرِفُوا مَا هُم مُقتَرِفُونَ "
نَعَم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّ الصَّرَاعَ وَإِن تَعَدَّدَت أَسمَاءُ الأَعدَاءِ وَتَشَعَّبَت مَذَاهِبُهُم ، إِنَّمَا هُوَ بَينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَهُدًى وَضَلالٍ ، وَصَوَابٍ وَخَطَأٍ ، صَحِيحٌ أَنَّ مُؤَامَرَاتِ أَهلِ البَاطِلِ عَلَى أَهلِ الحَقِّ قَد تَكُونُ اتَّخَذَت أَشكَالاً جَدِيدَةً وَصُوَرًا مُتَعَدِّدَةً ، أَو لَبِسَت مَلابِسَ مُختَلِفَةً أَوِ انتَهَجَت أَسالِيبَ مُتَغَايِرَةً ، أَو رَكِبَت مَوجَاتٍ مُتَبَايِنَةً وَاعتَمَدَت وَسَائِلَ مَاكِرَةً ، لَكِنَّ أَهلَ البَاطِلِ كَانُوا وَمَازَالُوا هُم إِيَّاهُم ، وَالمُسلِمُونَ بِعَامَّةٍ وَأَهلُ السُّنَّةِ بِخَاصَّةٍ ، كَانُوا وَمَا يَزَالُونَ غَرَضًا لِسَهَامِ العَدُوِّ الغَادِرَةِ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاء بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَدَّت طَائِفَةٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يُضِلُّونَكُم "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم "
وَقَالَ – تَعَالى - : " وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم "
وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ "
وَمَعَ مَا تَعَرَّضَ لَهُ الحَقُّ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتَوَالي الدُّهُورِ مِن نَكَبَاتٍ ، إِلاَّ أَنَّ ثَبَاتَهُ وَرُسُوخَهُ وَانتِصَارَهُ ، وَطَيَشَانَ البَاطِلِ وَزَوَالَهُ وَمَحقَهُ ، سُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ الَّتي لا تَتَبَدَّلُ وَلا تَتَغَيَّرُ ، وَهُوَ - تَعَالى - يَنصُرُ المُهتَدِينَ وَيُؤَيِّدُهُم وَيَحفَظُهُم ، كَمَا قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا في السَّمَاء تُؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذنِ رَبِّهَا وَيَضرِبُ اللهُ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ . يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ "
أَجَل – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – إِنَّ الحَقَّ ثَابِتٌ وَأَهلَهُ مَهدِيُّونَ مَنصُورُونَ ، وَالبَاطِلَ زَائِلٌ وَأَهلَهُ مَخذُولُونَ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ " الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ " قَالَ - سُبحَانَهُ - : " وَلَقَد كَتَبنَا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ "
وَقَالَ – تَعَالى - : " هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ "
وَلَو شَاءَ اللهُ وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ لَنَصَرَ عِبَادَهُ وَأَظهَرَ دِينَ الحَقِّ بِقَضَاءٍ مِنهُ وَقَدَرٍ ، بِلا عَمَلٍ ولا جُهدٍ مِن بَشَرٍ ، وَلَكِنَّ حِكمَتَهُ اقتَضَتِ الابتِلاءَ وَالمُدَافَعَةَ ، قَالَ - تَعَالى - : " ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِنْ لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ "
وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفرِغْ عَلَينَا صَبرًا وَثَبِّتْ أَقدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُم بِإِذنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولا دَفعُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضلٍ عَلَى العَالَمِينَ "
نَعَم – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – لَقَد جَعَلَ رَبُّكُمُ الخُصُومَةَ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ مُستَمِرَّةً إِلى أَن يَرِثَ الأَرضُ وَمَن عَلَيهَا " وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ . إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم " وَمِن ثَمَّ فَلا يَظُنَّنَ ظَانٌّ أَنَّ الطَّرِيقَ مَفرُوشَةٌ بِالوُرُودِ وَالرَّيَاحِينَ ، بَل هِيَ طَرِيقٌ لا تَخلُو مِن مَشَقَّةٍ " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ "
لَقَد لاقى الأَنبِيَاءُ - عَلَيهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - في سَبِيلِ الحَقِّ مَا لاقَوا ، فَمِنهُم مَن أُخرِجَ مِن دِيَارِهِ ، وَمِنهُم مَن طُرِدَ مِن أَرضِهِ ، وَمِنهُم مِن حُوصِرَ وَمِنهُم مَن قُتِلَ ، وَمَعَ هَذَا فَقَد تَكُونُ الدَّائِرَةُ في وَقتٍ مِنَ الأَوقَاتِ أَو جِهَةٍ مِنَ الجِهَاتِ لأَهلِ البَاطِلِ وَيَغلِبُونَ ، وَلَكِنَّ المُؤمِنِينَ يَبقَونَ صَابِرِينَ ثَابِتِينَ ، وَيُجَاهِدُونَ بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِن قُوَّةٍ ؛ لأَنَّهُم مَنهِيُّونَ عَنِ الضَّعفِ وَالجَزَعِ ، قَالَ – تَعَالى - : " وَلاَ تَهِنُوا في ابتِغَاء القَومِ إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمونَ وَتَرجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرجُونَ "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " فَقَاتِلُوا أَولِيَاء الشَّيطَانِ إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا "
أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّهُ لَوَاجِبٌ عَلَى المُؤمِنِينَ وَهُم عَلَى الحَقِّ أَن يُدَافِعُوا البَاطِلَ وَيَستَدفِعُوا كَيدَ الشَّيطَانِ وَجُندِهِ ، ولا يَتَخَاذَلُوا لأَنَّ لِوَاءَ البَاطِلِ في زَمَنٍ كَزَمَانِنَا حَمَلَتهُ دُوَلٌ وَحُكُومَاتٌ ، أَو رَفَعَتهُ هَيئَاتٌ وَمُنَظَّمَاتٌ ، فَهَذَا شَأنُ البَاطِلِ وَتِلكَ عَادَتُهُ ، قَد يَحتَدِمُ في حِينٍ وَتَكُونُ لَهُ صَولَةٌ ، إِلاَّ أَنَّهُ كُلَّمَا احتَدَمَ وَقَوِيَ وَتَعَاظَمَ ، كَانَ هَذَا مُبَشِّرًا بِتَمَيُّزِ الخَيرِ عَنِ الشَّرِّ ، وَحِينَهَا يُعرَفُ مَن يَحمِلُ هَمَّ الإِسلامِ وَيَرفَعُ لِوَاءَهُ بِصِدقٍ ، وَمَن هُوَ قَائِمٌ بِوَاجِبِ الدَّعوَةِ إِلى اللهِ بِحَقٍّ ، وَمَن لم يَكُنْ تَلَبُّسُهُ بِالحَقِّ في الظَّاهِرِ سِوَى سُلَّمٍ لِنَيلِ حَظٍّ مِنَ الدُّنيَا قَلِيلٍ " وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ "
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَكُنْ مِن حِزبِهِ المُفلِحِينَ ، وَلْنَكُنْ صَفًّا في مُوَاجَهَةِ البَاطِلِ وَمُدَافَعَتِهِ ؛ فَذَلِكَ سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ لَنَا ، وَإِذَا أَحَبَّنَا – تَعَالى – نَصَرَنَا وَأَيَّدَنَا ، وَهُوَ القَائِلُ – سُبحَانَهُ - : " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرصُوصٌ " " إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ . لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، عِندَمَا تَشتَدُّ الأَزَمَاتُ وَيَحتَدِمُ الصِّرَاعُ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَتَتَمَايَزُ الصُّفُوفُ وَلا يُبقِي الطُّوفَانُ مَجَالاً لِلتَّفكِيرِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُؤمِنِ الرُّكُوبُ في سَفِينَةِ النَّجَاةِ مَعَ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، وَعَدَمُ التَّشَبُّثِ بِما يَظُنُّ فِيهِ نَجَاةً غَيرَ الدِّينِ ، وَلا يَغتَرَّنَّ أَحَدٌ بِبَاطِلٍ وَإِن عَلا شَأنُهُ وَارتَفَعَ بُنيَانُهُ ، فَلَيسَ وَرَاءَ اللهِ مُنتَهَى ، وَهَذَا نُوحٌ - عَلَيهِ السَّلامُ - لَمَّا عَلا الطُّوفَانُ ، وَالسَّفِينَةُ " تَجرِي بِهِم في مَوجٍ كَالجبَالِ " دَعَا ابنَهُ إِلى الطَّرِيقِ الوَحِيدِ لِلنَّجَاةِ " وَنَادَى نُوحٌ ابنَهُ وَكَانَ في مَعزِلٍ يَا بُنَيَّ اركَبْ مَعَنَا وَلا تَكُن مَعَ الكَافِرِينَ " وَلَمَّا انخَدَعَ ابنُهُ بِعُلُوِّ الجِبَالِ وَظَنَّ أَنَّهَا سَتَمنَعُهُ مِن عَذَابِ اللهِ وَتُنجِيهِ مِن بَأسِهِ ، وَ" قَالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعصِمُني مِنَ المَاءِ " أَجَابَهُ الأَبُ الرَّؤُوفُ بِهِ العَالِمُ بِرَبِّهِ " قَالَ لا عَاصِمَ اليَومَ مِن أَمرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَينَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقِينَ "
إِنَّ العَالَمَ اليَومَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – يَشهَدُ طُوفَانًا لِلشَّرِّ طَاغِيًا ، وَزَحفًا لِلبَاطِلِ عَادِيًا ، وَزَهوًا لَهُ وَانتِفَاشًا وَتَعَالِيًا ، وَسَيَنجَرِفُ مَعَ هَذَا البَاطِلِ مَن يَنجَرِفُ ، وَسَيَنحَرِفُ إِلَيهِ مَن يَنحَرِفُ ، وَلَن يَنجُوَ إِلاَّ مَن عَصَمَهُ اللهُ وَاعتَصَمَ بِحَبلِهِ المَتِينِ ، فَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً وَلا تَختَلِفُوا ، اُثبُتُوا في طَرِيقِ الهُدَى ، وَادعُوا إِلى سَبِيلِ رَبِّكُم بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ، اُنشُرُوا الحَقَّ وَأَعلُوهُ وَارفَعُوهُ ، وَكُونُوا مِن أَنصَارِهِ وَادعَمُوهُ وَادفَعُوهُ ، جَاهِدُوا بِأَلسِنَتِكُم وَأَموَالِكُم ، أَصلِحُوا أَنفُسَكُم وَأُسَرَكُم وَأَبنَاءَكُم ، وَكُونُوا قُدوَاتٍ حَسَنَةً في الخَيرِ لأَجيَالِكُم ، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهُوا عَنِ المُنكَرِ . إِنَّكُم إِلى رَبِّكُم صَائِرُونَ ، وَعَمَّا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ مَسؤُولُونَ " كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ " وَ" إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا استَرَعَاهُ حَفِظَ أَم ضَيَّعَ " وَلَيسَ ضَلالُ كَبِيرٍ أَو تَهَاوُنُ زَعِيمٍ بِمُسَوِّغٍ لِلتَّخَلِّي عَنِ العُبُودِيَّةِ الحَقَّةِ ، وَالَّتِي مِن أَجلِهَا خُلِقَ العِبَادُ ، فـَ" كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت رَهِينَةٌ " " وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى " وَلا طَاعَةَ لِمَخلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخَالِقِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ . وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ . وَإِذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ "
المرفقات
يا بني اركب معنا.doc
يا بني اركب معنا.doc
يا بني اركب معنا.pdf
يا بني اركب معنا.pdf
المشاهدات 2922 | التعليقات 4
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
جزاك الله خيرا وزادك من فضلة
نفع الله بعلمك
جزاك الله خيرا على هذه الخطبة المتميزة.
أبو عبد الرحمن
خطبة متميزة لا يفضض الله فاك بلغك في الحق والخير مناك
تعديل التعليق