خطبة وما نرسل بالآيات إلا تخويفا الشيخ صالح بن محمد باكرمان
شادي باجبير
خطبة: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا
للشيخ أبي مجاهد صالح بن محمد باكرمان
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]. ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١].
أيها المسلمون عباد الله، قال الله -عز وجل- في كتابه العزيز:﴿...وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا﴾ [الإسراء: ٥٩]. الآيات التي يرسلها الله -عز وجل- الزلازل، والبراكين، والعواصف، والسيول الجارفة، وغيرها من الآيات العظيمة، الذي يرسلها هو الله سبحانه وتعالى، الذي يرسلها على عباده هو الله، هو الجبار جل جلاله، ويرسلها تخويفا لعباده، بينما هم قارين آمنين مطمئنين تأتيهم هذه الآيات، وتُرسَل إليهم هذه الآيات، فتقلق طمأنينتهم، وتحرك النفوس الجامدة؛ من أجل أن يخوفهم الله سبحانه وتعالى. ﴿...وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا﴾ [الإسراء: ٥٩].
وكلنا سمع بهذه الزلازل التي وقعت في تركيا وسوريا وما حولها، وما أحدثته من دمار وهلاك، مات فيها خلق كثير، ورأينا المناظر المفزعة، التي تفزع القلوب الحية، وأما القلوب الميتة فلا يحركها شيء، أجارنا الله وإياكم من ذلك!
وهذه الحوادث وهذه الآيات هل هي من الله -عز وجل- عذاب ونقمة، أو هي بلاء ومحنة، أو هي رحمة ونعمة؟ والحق أنها كل ذلك، يرسل الله -عز وجل- هذه الآيات على بعض خلقه عذاباً ونقمة، وعلى بعضهم بلاء ومحنة، ولصفوة خلقه رحمة ونعمة.
يرسلها الله -عز وجل- على الكفار والطغاة عذاباً ونقمة، قال الله -عز وجل-: ﴿فَكُلًّا أَخَذنا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَن أَرسَلنا عَلَيهِ حاصِبًا وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن خَسَفنا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَن أَغرَقنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠].
يرسلها الله -عز وجل- على المؤمنين بلاء ومحنة؛ ليبلو عباده المؤمنين، من يصبر ومن لا يصبر، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرينَ﴾ [البقرة: ١٥٥].
ويرسلها الله -عز وجل- على أوليائه وأصفيائه رحمة ونعمة، فيختارهم إلى جواره، يختارهم شهداء؛ ليقربهم منه سبحانه وتعالى، قال الرسول المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- " الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". رواه البخاري ومسلم.
والمؤمن والعاقل هو الذي يأخذ العبرة والدرس من هذه الأحداث وهذه الآيات، وكم من درس وعظة وعبرة فيها!
فمن العبر والدروس التي يستلهمها المسلم من هذه الزلازل والآيات: أن يعرف نعمة الله -عز وجل- عليه في هذه الأرض القارة المستقرة المطمئنة، من نعم الله -عز وجل- علينا أن جعل هذه الأرض قارة مطمئنة. ﴿وَأَلقى فِي الأَرضِ رَواسِيَ أَن تَميدَ بِكُم وَأَنهارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُم تَهتَدونَ﴾ [النحل: ١٥]. ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولًا فَامشوا في مَناكِبِها وَكُلوا مِن رِزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشورُ﴾ [الملك: ١٥]. نعمة عظيمة ويغفل عنها الناس، وربما لا نتذكرها إلا إذا جاءت هذه الزلازل والبلايا، التي تهزنا وتذكرنا بنعمة الله سبحانه وتعالى.
من الدروس والعبر في هذه الآيات: أن لا يكون الإنسان مطمئنا، أن يبقى المسلم حذراً من عذاب الله عز وجل، ولا يأمن مكر الله في كل لحظة من حياته، أن يكون خائفاً مشفقا. ﴿أَأَمِنتُم مَن فِي السَّماءِ أَن يَخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ فَإِذا هِيَ تَمورُأَم أَمِنتُم مَن فِي السَّماءِ أَن يُرسِلَ عَلَيكُم حاصِبًا فَسَتَعلَمونَ كَيفَ نَذيرِ﴾ [الملك: ١٦-١٧]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا بَياتًا وَهُم نائِمونَأَوَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا ضُحًى وَهُم يَلعَبونَأَفَأَمِنوا مَكرَ اللَّهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلَّا القَومُ الخاسِرونَ﴾ [الأعراف: ٩٧-٩٩]. فلا تأمن مكر الله عبد الله، وكن خائفاً مشفقاً في كل لحظة.
من الدروس والعبر من هذه الآيات: أنها تذكرنا بعظمة الله -سبحانه وتعالى- وجلاله وقدرته وسطوته، في لحظات ودقائق وفي بعض الأحيان في ثوانٍ تذهب البيوت، والشوارع، والقرى، والأناسي في لحظة سطوة الله سبحانه وتعالى، هذه الآيات تذكرنا بعظمة الله -سبحانه وتعالى- القادر على كل شيء. ﴿قُل هُوَ القادِرُ عَلى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ ...﴾ [الأنعام: ٦٥].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَميعًا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيّاتٌ بِيَمينِهِ سُبحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشرِكونَ﴾ [الزمر: ٦٧]. تذكروا عظمة الله، استحضروا عظمة الله، عظمة الجبار سبحانه وتعالى.
عباد الله، ومن الدروس والعبر التي نستلهمها من هذه الآيات العظيمة: أن نتذكر ضعفنا، ضعف الإنسان، ضعف البشر، هذا الإنسان المسكين الحقير ﴿...وَخُلِقَ الإِنسانُ ضَعيفًا﴾ [النساء: ٢٨]. ضعيفاً علماً وقدرة، أين علمك أيها الإنسان؟ ما يدري الإنسان متى تأتي هذه الحوادث والآيات، ولا يدري ولا يعلم مقدارها ولا أثرها وما ينتج عنها، غاية ما يعرفه هذا الإنسان الشاطر المتحضر أن يتنبأ ببعض التنبؤات، بوجود الهزات هنا أو هناك في منطقة شاسعة في إقليم، هذا ضعف، وضعف في القدرة، يرسل الله -عز وجل- هذه الآيات فيقف الإنسان عاجزاً أمامها، لا يستطيع أن يردعها، ولا أن يوقفها، ولا أن يخفف من حدتها، يقف مذهولاً ضعيفاً متفرجا، بل مقهورًا ذليلاً تحت سطوتها، آية ودرس عظيم، من أنت عبد الله؟! ﴿أَوَلَم يَرَ الإِنسانُ أَنّا خَلَقناهُ مِن نُطفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصيمٌ مُبينٌ﴾ [يس: ٧٧]. تريد أن تكون خصماً لله، يا من خلقت من نطفة قذرة ضعيفة مهينة!
ومن الدروس والعبر العظيمة التي نستلهمها من هذه الآيات: أن نعرف حقارة الدنيا وما فيها، هذه الدنيا ببهرجها وزينتها: الحضارة، والعمارات الشاهقة، والأبراج الباسقة، والشوارع المنورة والمعبَّدة، والأشجار، والزينة، وما مع الإنسان من مال، وكنز، وثياب، كلها ذهبت في لحظة، في لحظة الزخرف أخذت الأرض زخرفها وزينتها، وظن الإنسان أنه قادر عليها، وفجأة أتاها أمر الله عز وجل. ﴿... حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَها وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُها أَنَّهُم قادِرونَ عَلَيها أَتاها أَمرُنا لَيلًا أَو نَهارًا فَجَعَلناها حَصيدًا كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ ...﴾ [يونس: ٢٤].صارت الدنيا حصيداً كالمحصود.
{كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ﴾ كأن لم تسكن بالأمس، هذه الديار والبلاد كأن لم تعمر بالأمس، سبحان الله ما أحقر هذه الدنيا! كلها ستذهب، فعلامَ نتكالب على الدنيا الحقيرة، ونتقاتل، ونتعادى؟!
ومن الدروس والعبر: أن نتذكر بزلزلة الدنيا زلزلة الآخرة، وشتّان بين زلزلة الدنيا وزلزلة الآخرة، في زلزلة الدنيا الأم تهرع وتبحث عن أولادها، والأب يجتهد ليحمي أولاده، والمنقذون ينقذون. وأما في زلزلة الآخرة فلا شيء من ذلك. ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السّاعَةِ شَيءٌ عَظيمٌيَومَ تَرَونَها تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَملٍ حَملَها وَتَرَى النّاسَ سُكارى وَما هُم بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَديدٌ﴾ [الحج: ١-٢].فلنعمل للآخرة عباد الله.
ومن أعظم العبر والدروس التي يخرج بها المسلم من هذه الآيات: هي أن تحدث له توبة، أن ينفعه الخوف، أن تحصل الغاية من هذه الآيات. رب العالمين -جل جلاله- ما يرسلها إلا تخويفاً لعباده؛ ليرتدعوا، وليرجعوا، وليتوبوا إليه سبحانه وتعالى.﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النّاسِ لِيُذيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلوا لَعَلَّهُم يَرجِعونَ﴾ [الروم: ٤١].
﴿... وَتوبوا إِلَى اللَّهِ جَميعًا أَيُّهَ المُؤمِنونَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾ [النور: ٣١]. فلنتب إلى الله عز وجل، ولنأخذ العبرة من هذه الآيات والأحداث.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون عباد الله، اتقوا الله حق تقواه.
عباد الله، إن من مقتضيات الإيمان أن يحب المؤمنُ المؤمنَ، وأن يوادّ المؤمنُ المؤمنَ، وأن يتعاطف المؤمنُ مع المؤمنِ، وأن يرحم المؤمنُ المؤمنَ، كما جاء في الحديث عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ". رواه مسلم. وقال -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث الآخر: "كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ". رواه البخاري ومسلم.
فعلى المؤمن أن يتعاطف مع إخوانه المؤمنين، الذين وقعوا في هذه الكوارث والأحداث،وأن يواسيهم بقدر طاقته، من استطاع أن يواسيهم بمال واساهم بالمال، ومن استطاع أن يواسيهم بالجاه واساهم بالجاه، ومن استطاع أن يواسيهم بالفعل والعمل يواسيهم بالعمل، ومن استطاع أن يواسيهم بالكلمة والنصيحة يواسيهم بذلك، ومن لم يستطع إلا أن يواسيهم بالدعاء فعليه أن يواسيهم بالدعاء.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرحم إخواننا المتضررين بسوريا وتركيا وغيرها من البلاد! اللهم تقبل شهداءهم، واشفِ مرضاهم، وعافِ مبتلاهم، وداوِ جرحاهم! اللهم يسر لهم يا أرحم الراحمين! اللهم آوهم كما آويتنا! اللهم أطعمهم كما أطعمتنا، اسقهم كما سقيتنا! اللهم اجعل ذلك مغفرة لهم يا أرحم الراحمين، وقربة منك يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم وجنبنا الفتن ما ظهر منها و ما بطن! اللهم جنبنا الزلازل، والمحن، والفتن ما ظهر منها و ما بطن! اللهم جنبنا الزلازل، والمحن، والفتن ما ظهر منها و ما بطن!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات! اللهم إنك حي سميع قريب مجيب الدعوات! اللهم يسر أمورنا! اللهم ولِّ علينا خيارنا، اصرف عنا أشرارنا، رخص أسعارنا، غزر أمطارنا، ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين!اللهم خذ بأيدينا إلى كل خير! اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها!
عبادالله، وصلوا وسلموا على من أمركم الله -عز وجل- بالصلاة والسلام عليه ، فقال : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد! اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد!
عباد الله، إنَّ الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.