خطبة : (ولكن ينزل بقدر ما يشاء )
عبدالله البصري
ولكن ينزل بقدر ما يشاء 27/ 5/ 1446
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأَوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسي بِتَقوَى اللهِ في كُلِّ وَقتٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، يَكُنْ ذَلِكَ بَرَكَةً في حَيَاتِكُم وَنَجَاةً لَكُم في المَآلِ " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ " " مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلكَ عُقبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقبَى الكَافِرِينَ النَّارُ "
أَيُّها المُسلِمُونَ ، في صَبَاحِ أَمسِ القَرِيبِ ، خَرَجَ المُسلِمُونَ في أَنحَاءِ بِلادِنَا لِلاستِسقَاءِ وَطَلَبِ الغَيثِ ، خَرَجُوا رَاجِينَ مَا عِندَ اللهِ مِنَ الرَّحمَةِ ، طَالِبِينَ رَبَّهُم أَن يُنَزِّلَ عَلَيهِمُ الغَيثَ الَّذِي مِنهُ يَشرَبُونَ ، وَبِهِ يَنبُتُ الزَّرعُ وَيَدُرُّ الضَّرعُ . وَإِنَّ رَبَّنَا تَبارَكَ وَتَعَالى خَزَائِنُهُ مَلأَى ، لا تَغِيضُها الهِبَاتُ وَلا تَنقُصُهَا الأُعطِيَاتُ ، وَلَو شَاءَ لَبَسَطَ الرِّزقَ لِعِبادِهِ وَوَسَّعَهُ عَلَيهِم ، لَكِنَّ لَهُ سُبحَانَهُ في كُلِّ مَا يُقَدِّرُ وَيُريدُ حِكَمًا بَالِغَةً ، مِن أَعظَمِهَا أَنَّهُ يُرِيدُ مِن عِبَادِهِ أَلاَّ يَطغَوا وَلا يَبغُوا ، فَهُوَ يَبتَلِيهِم بِبَعضِ الضِّيقِ في الأَرزَاقِ أَوِ الجَدبِ وَشُحِّ الأَمطَارِ ؛ لِيَرجِعُوا إِلَيهِ وَيُرَاجِعُوا أَنفُسَهُم وَيُرَاقِبُوا عِلاقَتَهُم بِهِ ، فَيَتَوبُوا مِن ذُنُوبِهِم ، وَيَتَرَاجَعُوا عَن مُخَالَفَاتِهِم ، وَيَستَقِيمُوا عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ ، ثُمَّ يُلِحُّوا بِالدُّعَاءِ وَيَرفَعُوا بِهِ أَكُفَّهُم وَتَلهَجَ بِهِ أَلسِنَتُهُم ِوَتَخشَعَ قُلُوبُهُم ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَلَو بَسَطَ اللهُ الرِّزقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا في الأَرضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ . وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ . وَمِن آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمعِهِم إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ . وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ . وَمَا أَنتُم بِمُعجِزِينَ في الأَرضِ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ " أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَو جَاءَ الرِّزقُ عَلَى اختِيَارِ البَشَرِ وَاقتِرَاحِهِم وَمَا تَشتَهِيهِ أَنفُسُهُم ، لَكَانَ سَبَبَ بَغيِهِم وَإِفسَادِهِم ، وَلَكِنَّهُ تَعَالى أَعلَمُ بِمَا يَصلُحُ بِهِ شَأنُ عِبَادِهِ وَمَا يُنَاسِبُ أَحوَالَهُم ، فَهُوَ يُنَزِّلُ لَهُم مِنَ الرِّزقِ القَدْرَ الَّذِي بِهِ صَلاحُهُم ، وَيَمنَعُ عَنهُم مَا يُفسِدُهُم ، إِذِ الغَالِبُ أَنَّهُم إِذَا بُسِطَ لَهُمُ الرِّزقُ بَغَوا وَاعتَدَى بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ أَشَرًا وَبَطَرًا ، فَكَانَ مِن حِكمَةِ اللهِ أَن يُنَزِّلَ عَلَيهِم مِنَ الرِّزقِ مَا لا يُلهِيهِم وَلا يُطغِيهِم . وَوَصفُهُ تَعَالى نَفسَهُ بِأَنَّهُ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعلَمُ مَا تَؤُولُ إِلَيهِ أَحوَالُ عِبَادِهِ في فَقرِهِم وَغِنَاهُم ، وَلِهَذَا فَهُو يَمنَعُ وَيُعطِي وَيَقبِضُ وَيَبسُطُ كَمَا تُوجِبُهُ حِكمَتُهُ ، وَلَو أَغنَاهُم جَمِيعًا لَبَغَوا ، وَلَو أَفقَرَهُم لَهَلَكُوا . وَفي قَولِهِ تَعَالى : " لَبَغَوا في الأَرضِ " إِشَارَةٌ إِلى السَّبَبِ الحَقِيقِيِّ لِضِيقِ الأَرزَاقِ وَمَحدُودِيَّتِهَا ، ذَلِكُم هُوَ البَغيُ ، الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ ، إِمَّا بِتَركِ وَاجِبٍ أَو بِفِعلِ مُحَرَّمٍ ، وَلِذَا كَانَ عَلَى النَّاسِ إِذَا ابتُلُوا بِالجَدبِ وَضِيقِ الأَرزَاقِ أَن يُرَاجِعُوا أَنفُسَهُم وَيُحَاسِبُوهَا ، فَيَفعَلُوا مَا تَرَكُوهُ مِنَ الوَاجِبَاتِ وَضَيَّعُوهُ ، وَيَجتَنِبُوا مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ المُحَرَّمَاتِ وَيَحذَرُوهُ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَلْنَعلَمْ أَنَّ في تَضيِيقِ الأَرزَاقِ عَلَى المُؤمِنِينَ فَائِدَةً لَهُم عَظِيمَةً ، وَهِيَ أَلاَّ يَشغَلَهُم غِنَاهُم عَنِ العَمَلِ الَّذِي بِهِ يَفُوزُونَ في الآخِرَةِ ، قَالَ تَعَالى : " كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى . أَنْ رَآهُ استَغنَى " وَفي الصَّحِيحَينِ عَن عَمرِو بنِ عَوفٍ الأَنصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إِلى البَحرَينِ يَأتي بِجِزيَتِهَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهلَ البَحرَينِ وَأَمَّرَ عَلَيهِمُ العَلاءَ بنَ الحَضرَمِيِّ ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحرَينِ ، فَسَمِعَتِ الأَنصَارُ بِقُدُومِ أَبي عُبَيدَةَ ، فَوَافَت صَلاةَ الصُّبحِ مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمُ الفَجرَ انصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُم وَقَالَ : " أَظُنُّكُم قَد سَمِعتُم أَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ قَد جَاءَ بِشَيءٍ ؟! " قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " فَأَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم ، فَوَاللهِ لا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيكُم أَن تُبسَطَ عَلَيكُمُ الدُّنيَا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم " اللَّهُمَّ اجعَلْنا أَغنى خَلقِكَ بِكَ ، وَأَفقَرَ عِبَادِكَ إِلَيكَ ، وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقتَنَا ...
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مَن بِيَدِهِ المُلكُ وَالأَمرُ وَالخَلقُ وَالتَّقديرُ وَالتَّدبِيرُ ، قَد وَعَدَ مَن دَعَاهُ بِالإِجَابَةِ وَهُوَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُوني أَستَجِبْ لَكُم " وَقَالَ جلَّ وعلا : " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " وَقَالَ تَعَالى في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ مَسأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِندِي إِلاَّ كَمَا يَنقُصُ المِخيَطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَمَا دَامَ الأَمرُ كَذَلِكَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَلْنَعلَمْ أَنَّ تَأَخُّرَ الإِجَابَةِ أَو عَدَمَ حُصُولِهَا ، إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبٍ مِنَّا نَحنُ ، إِذْ نَقتَصِرُ عَلَى دُعَاءِ المَسأَلَةِ في سَاعَةٍ نَجتَمِعُ فِيهَا في المُصَلَّى ، ثم نَنسَى دُعَاءً آخَرَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَن نَكُونَ مُستَمَرِّينَ عَلَيهِ في كُلِّ أَوقَاتِنَا وَطُولَ أَعمَارِنَا ، ذَلِكُم هُوَ دُعَاءُ العِبَادَةِ ، الَّتي لَهَا خُلِقنَا وَمِن أَجلِهَا أُوجِدنَا ، فَوَاللهِ لَوِ استَقَمنَا عَلَى مُرَادِ اللهِ مِنَّا ، وَائتَمَرنَا بِأَوَامِرِهِ وَاجتَنَبنَا النَّوَاهِيَ ، لَصُبَّ عَلَينَا الخَيرُ صَبًّا وَلَفُتِحَت عَلَينَا البَرَكَاتُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ ، وَلأُسقِينَا مَاءً غَدَقًا ، قَالَ تَعَالى : " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ " وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " وَأَلَّوِ استَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسقَينَاهُم مَاءً غَدَقًا " وَقَالَ سُبحَانَهُ عَلَى لِسَانِ نُوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ : " فَقُلتُ استَغفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُم مِدرَارًا . وَيُمدِدْكُم بِأَموَالٍ وَبَنِينَ وَيَجعَلْ لَكُم جَنَّاتٍ وَيَجعَلْ لَكُم أَنهَارًا " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلنُكُنْ للهِ عَلَى مَا يُرِيدُ يَكُنْ لَنَا عَلَى مَا نُحِبُّ .
المرفقات
1732802545_ولكن ينزل بقدر ما يشاء.docx
1732802545_ولكن ينزل بقدر ما يشاء.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق