خطبة وقفات مع حج النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عشر ذي الحجة
عايد القزلان التميمي
1435/12/01 - 2014/09/25 13:47PM
خطبة وقفات مع حج النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عشر ذي الحجة 1435/12/2هـ
إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللَّه فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّه الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) .
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، مواسِم الخيراتِ على العباد تتوالى عليهم، فما أن تنقضِيَ شعيرة إلا وتأتي شعيرةٌ أخرى،
ها هِيَ أفواجُ الحجيجِ قد اتجهت إلى بيتَ الله العتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليل عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
والحج يا عباد الله ركن من أركان الإسلام ، قال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ
أيها المسلمون :
أمر الله عباده باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم- فقال سبحانه : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وجعل اتباع نبيه هو دليل المحبة الأول ، فقال سبحانه : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، والحج من أوضح العبادات التي يتجلى فيها اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- والتأسي به ، ولذلك كان لزاماً على كل حاجٍ يريدُ صحةَ حجِّهِ، وقبولَ نُسُكِهِ ، أنْ يَتَعَرَّف على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحَج ، هذا الهدي الذي لا يقتصر فقط على أحكام النُّسك ، بل يتجاوزه إلى التَأسِّي به في أحواله مع الله ومع الخلق .
عباد الله يقول جابر رضى اللَّه عنه في حديث صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم :"فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ ".
وقال أيضاً:"حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ ".
وقد دل على ذلك قوله تعالى (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) .
عباد الله / وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به في الحج ، فقال صلى الله عليه وسلم : "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ , فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ " أخرجه مسلم قال القرطبي رحمه اللَّه :"وهذا أمر على الاقتداء به .
وسأقف وقفات يسيرة أمام بعض الأمور التي تجلت في حجه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يقتدي الحاج بنبيه - صلى الله عليه وسلم ، قاصدين من ذلك التنبيه والإشارة ، لا الحصر والاستقصاء .
فقد تجلى في حجِّه - صلى الله عليه وسلم - الاعتناء بأمر التوحيد ، وإخلاص العمل لله ، حيث سأل ربه عز وجل أن يجنبه الرياء والسُّمْعَة ، قائلاً : (اللَّهُمَّ حِجَّةً لا رِيَاءَ فِيهَا وَلا سُمْعَةَ ) رواه ابن ماجة ، وحرص على بيان التوحيد وإظهاره في جميع مناسك الحج وشعائره بدءاً من التلبية إلى ركعتي الطواف والصفاء والمروة ، ويوم عرفة ، وغير ذلك .
عباد الله / وكان - صلى الله عليه وسلم - في حجته حاضر القلب ، خاشع الجوارح ، كثير التضرع والمناجاة ، حريصاً على السكينة والوقار ، يقول جابر رضي الله عنه : " أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ , وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ " ، وفي يوم عرفة سمع وراءه زجراً شديداً ، وضرباً وصوتاً للإبل ، فأشار بسوطه إلى الناس قائلاً : (عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ) يعني الإسراع ، رواه البخاري .
وفي الحج تجلى بوضوح تعلقه - صلى الله عليه وسلم - بالدار الآخرة ، وزهده في عاجل الحياة الدنيا ، فقد حج على رحل رثٍّ ، وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم ، كما عند ابن ماجة ، وقال وهو واقف بعرفة : (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " ، قَالَ : " إِنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الآخِرَةِ) رواه الحاكم و البيهقي ، قال ابن القيم رحمه الله : " وكان حجه على رحل ، لا في محمل ولا هودج ، ولا عمارية " ، وهي أدوات تكون فوق الدابة تسهل على المرء ركوبها ، وكانت راحلته هي زاملته التي يحمل عليها متاعه وزاده ، فلم تكن له ناقة أخرى خاصة بذلك ، ولم يتميز - صلى الله عليه وسلم - في الموسم عن الناس بشيء ، حتى إنه لما جاء إلى السقاية فاستسقى قالوا له : نأتيك به من البيت فقال : (لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ ، اسْقُونِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ) رواه أحمد .
وفي الحج حرص - صلى الله عليه وسلم - على تعليم الناس أمر دينهم ، وإقامة الحجة والبيان عليهم ، ولم يدع فرصة سانحة لتعليم الناس والقيام بواجب البلاغ إلا انتهزها ، فبين لهم أحكام المناسك ، وأركان الإسلام وقواعده ، ونهاهم عن الشرك ، وانتهاك الحُرمات العظيمة التي جاءت الشرائع بالمحافظة عليها ، من الدماء والأموال والأعراض ، وذلك في مواطن عديدة من حجه .
وفي حجه عليه الصلاة والسلام ظهر تواضعه للناس ، فقد أَرْدَفَ أُسامة بن زيد رضي الله عنهما من عرفة إلى مزدلفة وهو من الموالي ، ووقف لامرأة من آحاد الناس يستمع إليها ويجيب عن سؤالها ، ولم يتخذ حُجَّاباً يصرفون الناس عنه ، ويمنعونهم من مقابلته ، وكان في إمكان أي أحد الوصول إليه وقضاء حاجته بيسر وسهوله .
ومن المظاهر التي تجلت في حجته - صلى الله عليه وسلم - رحمته بالناس وشفقته عليهم، ومن ذلك إلزامه من لم يسق الهدي من أصحابه - رضي الله عنهم - بأن يحل إحلالاً كاملاً، وذلك رحمة بهم وتيسيراً عليهم ، ومن ذلك جمعه لصلاتي الظهر والعصر في عرفة ، والمغرب والعشاء في مزدلفة ، حتى لا يشق على الناس ، وإذنه للضعفاء في الإفاضة من مزدلفة قبل الناس حين يغيب القمر ، تخفيفاً عليهم ووقاية لهم من الزحام ، ومن ذلك أيضاً رفعه الحرج عن الناس في التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر ، إلى غير ذلك من مظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته .
ومن المظاهر جوده وكرمه وإحسانه إلى الناس ، فقد قرب - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة ، وأمر علياً رضي الله عنه أن يقسمها كلها لحومها وجلودها في المساكين .
وفي الحج كذلك تجلى تعظيمه لشعائر الله ، وصبره على الناس على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم ولغاتهم ، إلى غير ذلك من المظاهر الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها .
هذه بعض المظاهر المضيئة والجوانب المشرقة ، في حجه - صلى الله عليه وسلم- ، فحري بالدعاة إلى سبيله ، والمنتسبين إليه ، والسائرين على دربه ، أن يتلمسوا هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ويترسموا خطاه ، فيجتهدوا في متابعته ، ويحذروا من مخالفته.
أقول ما قد سمعتم وأستغفر الله ...
الخطبة الثانية
/ الحمد لله الذي بيده الأمر، فضل أيام العشر، وخصها بمزيد الأجر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، النبي المختار صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم القيامة.
أما بعد .. فيا عباد الله هذا اليوم هو اليوم الثاني من أيام عشر ذي الحجة وهي موسم من مواسم الخير والرحمة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله، وفي العشرِ الأولى من ذي الحجة تجتمع أمهات العبادات، فيجتمع فيها الصلاة والصيام والحج والصدقة بالأضاحي والهدي وغيرها، والتي لا تجتمع في غيره.
عباد الله / ويستحبُ في العشر الأيام الأولى من ذي الحجة الصيام، وذلك لما للصيام من أجر عظيم عند الله، ويكفي أن النبي (عليه الصلاة والسلام) حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال .
ويتأكدُ صوم يوم عرفة لغير الحاج، فقد سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالسَّنَةَ الْبَاقِيَةَ )) أخرجه مسلم في صحيحه
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام الأولى المباركة من ذي الحجة الإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار، ويستحب إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وما شابهها من الصفات.
عباد الله :
ومن الأعمال المشروعة في العشر الأيام الأولى من ذي الحجة التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، واعلموا أن للأضحية أحكاما وآدابا ينبغي للمسلم أن يراعيها، منها أن من أراد أن يضحي فإنه يجب عليه أن يمسك عن شعره وأظفاره، فلا يقص منها شيئًا، من رؤية هلال شهر ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، وهذا الحكم خاص بصاحب الأضحية فقط، أما أهله وأولاده فلا يلزمهم ذلك.
عباد الله: أن أعظم الأعمال وأجلها وأزكاها عند الله في الأيام العشر الأولى المباركة من ذي الحجة هو حج بيت الله الحرام، وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر، فاتقوا الله يا عباد الله، واحذروا التفريط والتكاسل وأن تشغلكم الدنيا عن طاعة الله، فإن في ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ))
إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللَّه فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّه الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) .
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، مواسِم الخيراتِ على العباد تتوالى عليهم، فما أن تنقضِيَ شعيرة إلا وتأتي شعيرةٌ أخرى،
ها هِيَ أفواجُ الحجيجِ قد اتجهت إلى بيتَ الله العتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليل عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
والحج يا عباد الله ركن من أركان الإسلام ، قال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ
أيها المسلمون :
أمر الله عباده باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم- فقال سبحانه : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وجعل اتباع نبيه هو دليل المحبة الأول ، فقال سبحانه : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، والحج من أوضح العبادات التي يتجلى فيها اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- والتأسي به ، ولذلك كان لزاماً على كل حاجٍ يريدُ صحةَ حجِّهِ، وقبولَ نُسُكِهِ ، أنْ يَتَعَرَّف على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحَج ، هذا الهدي الذي لا يقتصر فقط على أحكام النُّسك ، بل يتجاوزه إلى التَأسِّي به في أحواله مع الله ومع الخلق .
عباد الله يقول جابر رضى اللَّه عنه في حديث صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم :"فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ ".
وقال أيضاً:"حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ ".
وقد دل على ذلك قوله تعالى (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) .
عباد الله / وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به في الحج ، فقال صلى الله عليه وسلم : "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ , فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ " أخرجه مسلم قال القرطبي رحمه اللَّه :"وهذا أمر على الاقتداء به .
وسأقف وقفات يسيرة أمام بعض الأمور التي تجلت في حجه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يقتدي الحاج بنبيه - صلى الله عليه وسلم ، قاصدين من ذلك التنبيه والإشارة ، لا الحصر والاستقصاء .
فقد تجلى في حجِّه - صلى الله عليه وسلم - الاعتناء بأمر التوحيد ، وإخلاص العمل لله ، حيث سأل ربه عز وجل أن يجنبه الرياء والسُّمْعَة ، قائلاً : (اللَّهُمَّ حِجَّةً لا رِيَاءَ فِيهَا وَلا سُمْعَةَ ) رواه ابن ماجة ، وحرص على بيان التوحيد وإظهاره في جميع مناسك الحج وشعائره بدءاً من التلبية إلى ركعتي الطواف والصفاء والمروة ، ويوم عرفة ، وغير ذلك .
عباد الله / وكان - صلى الله عليه وسلم - في حجته حاضر القلب ، خاشع الجوارح ، كثير التضرع والمناجاة ، حريصاً على السكينة والوقار ، يقول جابر رضي الله عنه : " أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ , وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ " ، وفي يوم عرفة سمع وراءه زجراً شديداً ، وضرباً وصوتاً للإبل ، فأشار بسوطه إلى الناس قائلاً : (عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ) يعني الإسراع ، رواه البخاري .
وفي الحج تجلى بوضوح تعلقه - صلى الله عليه وسلم - بالدار الآخرة ، وزهده في عاجل الحياة الدنيا ، فقد حج على رحل رثٍّ ، وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم ، كما عند ابن ماجة ، وقال وهو واقف بعرفة : (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " ، قَالَ : " إِنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الآخِرَةِ) رواه الحاكم و البيهقي ، قال ابن القيم رحمه الله : " وكان حجه على رحل ، لا في محمل ولا هودج ، ولا عمارية " ، وهي أدوات تكون فوق الدابة تسهل على المرء ركوبها ، وكانت راحلته هي زاملته التي يحمل عليها متاعه وزاده ، فلم تكن له ناقة أخرى خاصة بذلك ، ولم يتميز - صلى الله عليه وسلم - في الموسم عن الناس بشيء ، حتى إنه لما جاء إلى السقاية فاستسقى قالوا له : نأتيك به من البيت فقال : (لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ ، اسْقُونِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ) رواه أحمد .
وفي الحج حرص - صلى الله عليه وسلم - على تعليم الناس أمر دينهم ، وإقامة الحجة والبيان عليهم ، ولم يدع فرصة سانحة لتعليم الناس والقيام بواجب البلاغ إلا انتهزها ، فبين لهم أحكام المناسك ، وأركان الإسلام وقواعده ، ونهاهم عن الشرك ، وانتهاك الحُرمات العظيمة التي جاءت الشرائع بالمحافظة عليها ، من الدماء والأموال والأعراض ، وذلك في مواطن عديدة من حجه .
وفي حجه عليه الصلاة والسلام ظهر تواضعه للناس ، فقد أَرْدَفَ أُسامة بن زيد رضي الله عنهما من عرفة إلى مزدلفة وهو من الموالي ، ووقف لامرأة من آحاد الناس يستمع إليها ويجيب عن سؤالها ، ولم يتخذ حُجَّاباً يصرفون الناس عنه ، ويمنعونهم من مقابلته ، وكان في إمكان أي أحد الوصول إليه وقضاء حاجته بيسر وسهوله .
ومن المظاهر التي تجلت في حجته - صلى الله عليه وسلم - رحمته بالناس وشفقته عليهم، ومن ذلك إلزامه من لم يسق الهدي من أصحابه - رضي الله عنهم - بأن يحل إحلالاً كاملاً، وذلك رحمة بهم وتيسيراً عليهم ، ومن ذلك جمعه لصلاتي الظهر والعصر في عرفة ، والمغرب والعشاء في مزدلفة ، حتى لا يشق على الناس ، وإذنه للضعفاء في الإفاضة من مزدلفة قبل الناس حين يغيب القمر ، تخفيفاً عليهم ووقاية لهم من الزحام ، ومن ذلك أيضاً رفعه الحرج عن الناس في التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر ، إلى غير ذلك من مظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته .
ومن المظاهر جوده وكرمه وإحسانه إلى الناس ، فقد قرب - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة ، وأمر علياً رضي الله عنه أن يقسمها كلها لحومها وجلودها في المساكين .
وفي الحج كذلك تجلى تعظيمه لشعائر الله ، وصبره على الناس على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم ولغاتهم ، إلى غير ذلك من المظاهر الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها .
هذه بعض المظاهر المضيئة والجوانب المشرقة ، في حجه - صلى الله عليه وسلم- ، فحري بالدعاة إلى سبيله ، والمنتسبين إليه ، والسائرين على دربه ، أن يتلمسوا هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ويترسموا خطاه ، فيجتهدوا في متابعته ، ويحذروا من مخالفته.
أقول ما قد سمعتم وأستغفر الله ...
الخطبة الثانية
/ الحمد لله الذي بيده الأمر، فضل أيام العشر، وخصها بمزيد الأجر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، النبي المختار صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم القيامة.
أما بعد .. فيا عباد الله هذا اليوم هو اليوم الثاني من أيام عشر ذي الحجة وهي موسم من مواسم الخير والرحمة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله، وفي العشرِ الأولى من ذي الحجة تجتمع أمهات العبادات، فيجتمع فيها الصلاة والصيام والحج والصدقة بالأضاحي والهدي وغيرها، والتي لا تجتمع في غيره.
عباد الله / ويستحبُ في العشر الأيام الأولى من ذي الحجة الصيام، وذلك لما للصيام من أجر عظيم عند الله، ويكفي أن النبي (عليه الصلاة والسلام) حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال .
ويتأكدُ صوم يوم عرفة لغير الحاج، فقد سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالسَّنَةَ الْبَاقِيَةَ )) أخرجه مسلم في صحيحه
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام الأولى المباركة من ذي الحجة الإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار، ويستحب إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وما شابهها من الصفات.
عباد الله :
ومن الأعمال المشروعة في العشر الأيام الأولى من ذي الحجة التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، واعلموا أن للأضحية أحكاما وآدابا ينبغي للمسلم أن يراعيها، منها أن من أراد أن يضحي فإنه يجب عليه أن يمسك عن شعره وأظفاره، فلا يقص منها شيئًا، من رؤية هلال شهر ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، وهذا الحكم خاص بصاحب الأضحية فقط، أما أهله وأولاده فلا يلزمهم ذلك.
عباد الله: أن أعظم الأعمال وأجلها وأزكاها عند الله في الأيام العشر الأولى المباركة من ذي الحجة هو حج بيت الله الحرام، وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر، فاتقوا الله يا عباد الله، واحذروا التفريط والتكاسل وأن تشغلكم الدنيا عن طاعة الله، فإن في ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ))
المرفقات
خطبة وقفات مع حج النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عشر ذي الحجة.docx
خطبة وقفات مع حج النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عشر ذي الحجة.docx
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق