خطبة وبدأت الدراسة للشيخ الدكتور صالح بن مبارك دعكيك
شادي باجبير
خطبة: وبدأت الدراسة
للشيخ الدكتور صالح بن مبارك دعكيك
ألقيت بمسجد آل ياسر، المكلا، ٢٠٢٣/٨/٢٥م
الخطبة الأولى
الحمدلله رب العالمين...
أخرج البخاري في صحيحه (3) من حديث عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ ". قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } ".
إن أول آية نزلت على قلب نبينا -عليه الصلاة والسلام- (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فأول كلمات السماء إلى الأرض على قلب نبينا -ﷺ- هي "اقرأ"، وثانيها "القلم" ، لنعلم يقيناً أن أمتنا أمة "اقرأ"، وأمة "القلم"، فهي أمة العلم والمعرفة، أمة القرطاس والقلم، أمة النور والمعارف، وكذلك كانت أمتنا حينما امتلكت عقيدة الإيمان، وامتلكت ناصية العلم، فكانت غرة في جبين الزمان لقرون، بينما بقية الأمم يكسوها جهل وجهالات في كافة ميادين حياتها، وكنا نرى الطالب يأتي من أوربا وأسيا ليتعلم في جامعات بغداد أيام الخلافة العباسية، فيما يسمى بالقرون الوسطى، التي كانت أمة الإسلام حينها تحمل مشاعل العلم والنور في كافة جوانب المعرفة الإنسانية لتعلمه للعالم، وتهديه لتلك الشعوب الغارقة في الظلمات في تلك القرون المظلمة عليهم، حتى ضعفت الأمة فأخذت أوربا تلك العلوم ودرستها، حتى أن كتاب القانون في الطب لابن سيناء يدرس في جامعات أوربا، فطورت أوربا تلك العلوم، وأضافت إليها إضافات متعددة، ثم أخرجتها بثوبها الجديد ضمن حضارته العلمية المعاصرة.
وبمناسبة بدء العام الدراسي الجديد، الذي سيبدأ بعد أيام، لابد من التذكير بأن هذه الأمة أمة اقرأ، وأمة الحضارة، حملت مشاعل العلم للعالم خلال قرون مضت، وهي قادرة على استعادة ذلك إذا عادت إلى رشدها وطريقة أسلافها، إيماناً يعصم من التجبر والظلم، ومعارف تمتلك ناصيتها بالتعلم والجدية، من خلال مناهج موصلة إلى المراد.
يجب أن يعلم طلابنا وطالباتنا هذا التاريخ الناصع لأمتنا، خلال حضارتنا الإسلامية في الحكم والمعارف، وأن تتطلع أعين وأفئدة أجيالنا الصاعدة لتلك القمة السامقة لأمتها، فتترسَّم الخطى لاستعادة أمجادها الغابرة، وذلك يتطلب بطبيعة الحال مناهج متعددة الأهداف، تعتني بالطلاب إيمانا،وتعلما، وتعليما، في سياق بعث الأمة من جديد.
أيها الكرام، لقد رفع الإسلام من شأن العلم وأهله؛ لما يترتب على العلم من آثار عظيمة في الدنيا والأخرة، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
وبوب البخاري في صحيحه بابا فقال -رحمه الله-: باب: العلم قبل القول والعمل، لقول الله -تعالى-: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] فبدأ بالعلم، «وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة».
وجاء في سنن أبي داود (3641) من حديث أبي الدرداء مرفوعا: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ". صحيح الجامع (6297).
إن على طلابنا وطالباتنا -وهم يسمعون هذه الآيات وهذه الأحاديث- أن يستشعروا وهم ذاهبون لصفوف الدراسة ما لهم من الأجر والفضل، مما يدفعهم لاستحضار النية والإخلاص في طلب العلم، وأن يتعلموا لنفع أنفسهم ثم لنفع مجتمعاتهم، والإسلام يعد ذلك كله علماً نافعا، أعلاه ما يتعلم به الإنسان دينه وعقيدته، ثم ما ينفع به أهله ومجتمعه، وكل ذلك يؤجر عليه الطالب إذا أحسن نيته فيه.
لقد كان أسلافنا -رحمهم الله- يعتنون بتعلم النشء منذ نعومة أظفارهم لتعلم العلم، وللأب والأم والأخ الكبير دور مهم في توجيه الأبناء ومتابعتهم، ورحم الله أمَّ الإمام مالك! أحسنت توجيه ابنها، ودفعت به لمجالس العلم، وربطت على رأسه العمامة، وقالت له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه". هذه المرأة عرفت دورها في الحياة، ورسالتها في التربية وإعداد الجيل، وأن الأدب قرين العلم، ولا قيمة للعلم بلا أدب، فصنعت هذه المرأة رجلاً صنع أمة.
ويقول الحسن -رحمه الله-: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر". ويقول علقمة -رحمه الله-: "ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو رقعة".
إن الاهتمام بالناشئة في تلك الفترة العمرية غاية في الأهمية تربية وتعليما.
أيها الإخوة، ما أروع المعلمين والمعلمات وهم يستقبلون أبناءنا وبناتنا في معاقل التربية بصدور منشرحة، وقلوب مبتهجة، وألسنة مرحبة وفرحة وداعية، والسرور يتهلل على وجوههم! يحيون في أنفسهم الأمل، ويغرسون في أنفسهم حب التعلم والتطلع للمستقبل، يقوِّمون سلوك طلابهم، ويهذبون أخلاقهم، ويعطرون سيرهم، متجاوزين عما كان منهم فيما مضى، وكأنهم في أول يوم يذهبون فيه إلى المدرسة؛ ليشعروهم أنهم في محضن من محاضن التربية والتعليم، وليسوا في تجمع ترتفع فيه أصوات التهديد والوعيد والمحاسبة، مع الوجوه المكفهرة والأصوات العالية، التي توقع في النفوس الكراهة والتكدر مما تراه وتسمعه، وحينها لا يكون الجو إيجابياً للدراسة والفهم.
تيقنوا أيها المربون، أن من تستقبلونهم اليوم وتحيون فيهم الأمل، وتنيرون لهم المستقبل، وترسلون لهم الرسائل الإيجابية، أولئك من يكون منهم العالم، والقائد، والأمير، والوزير، والمحافظ، والمسئول، والطبيب، والمهندس، والأب، والأم... فضع بصماتك في تربيتهم وتعليمهم، فما تزرع اليوم سنحصده نحن غدا.
فهنيئاً لكم من معاشر قوم تصنعون الأجيال، وتبنون الرجال، وتشيدون المستقبل، والجميع يمر بأبوابكم ويجلس على مقاعد تدريسكم، على أيديكم وإخلاصكم وصبركم وأمانتكم تنال الأمة مناها، وتبلغ من العز ذروته، فأنتم صانعو أمجادها، وبانو حضارتها القادمة بإذن الله.
أيها الأفاضل، لا شك أن التحصيل الدراسي للطلاب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمدرسة والمدرس والأسرة، وإن على الوالدين دوراً عظيماً تجاه الأولاد، توجيهاً ومراجعة، والحرص على إتاحة الأجواء المعينة على الدراسة، وإزالة العوائق أمامهم، وهي متعددة منها: تأخر الوالد إلى وقت متأخر من الليل، وانشغال الأم قليلاً أو كثيراً عن أولادها، ومنها دفع الرفقاء الفاشلين والمثبطين عنهم، وتحذير الأولاد والبنات منهم، فكم لأولئك من أثر سلبي على التحصيل الدراسي! والتحذير من رفقاء السوء، وهم ضرر خالص عليهم في دينهم ودراستهم، وهو أمر يحتاج إلى معالجات حكيمة من قيادة المدرسة.
ويجب أن نعلم أن السيئين من الجنسين، منهم من أخلاقه كذلك بحكم طبيعة نشأته وأسرته وبيئته، ممن يحتاجون إلى معالجات لتصحيح سلوكهم، ومنهم مجموعات وعصابات يذهبون إلى المدرسة بنيات خبيثة للإيقاع بالطلاب والطالبات في تلك الشباك اللعينة، مما يثقل الأمانة على الوالدين وإدارة المدرسة لكشفهم، ودفع خطرهم، والحيلولة بينهم وبين الضحايا، ومعالجة تلك الأزمات.
ويتطلب ذلك من الوالدين التواصل الدائم، التواصل بين ولي الأمر وبين المدرسة، وتفقد حال الأولاد والبنات بشكل متكرر في المدرسة والبيت، وتلك المخاطر نأسف أن نقول أنها في ازدياد –ويعرف تفاصيل ذلك المدرسون- وتحتاج لمواجهة جادة وحكيمة من الجميع.
أسأل الله أن يصلحنا، ويصلح أولادنا وذرياتنا، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه!
الخطبة الثانية
إن عملية التعليم والتربية -كما لا يخفى- عملية مشتركة، تشترك فيها المدرسة والمعلمون والأسرة والمجتمع، فنجاح العملية التعليمية مرتبط بتعاون أولئك جميعا.
فيجب أن تكون إدارة المدرسة عوناً للمدرسين، والعكس صحيح، كما يجب أن تكون الأسرة عوناً للمدرسة ومعلميها، مما يحتم علينا اللقاءات المستمرة والمناقشات الجادة، ووضع المقترحات لتطوير التعليم، والمعالجات لمشكلات الطلاب والطالبات، والاستعانة بذوي الخبرات في كل المجالات.
كما ينبغي معالجة المشكلات المدرسية في جانبها الفني والبنائي من قبل الموسرين وأهل السعة، فكثير من العقبات تكون مادية تعيق جوانب من التعليم، وبتكاتفنا نستطيع أن نتجاوز كثيرا من تلك المشكلات، والصدقة -أيها الأحبة- لا تقتصر على المساجد، وتحفيظ القرآن، وحفر الآبار ونحوها، بل كل ما يعود نفعه على الناس في شتى ميادين الحياة، وتلك هي النظرة الصائبة في هذا المجال.
كما أن من أبواب التعاون المهمة التي نحتاج لتفعيلها قضية التواصل مع أولياء الأمور، عند غياب الأولاد أو البنات عن المدرسة، فإننا نلاحظ بعض الأولاد خارج سور المدرسة وفي أماكن مختلفة، وهناك عصابات تعمل على إخراجهم، والزج بهم في طريق الباطل من المخدرات والشهوات، وربما لا يدرك الأهل ذلك إلا بعد فوات الأوان.
فقضية تفعيل تواصل المدرسة مع ولي الأمر عند الغياب، وخاصة في حق الطالبات في غاية من الأهمية؛ لما فيه من الاطمئنان على وجود أبنائنا في مقاعد الدراسة، وقطع الطريق على البطَّالين من حرف مسار الطلاب عن المدرسة والتعليم.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، ويصلح حالنا كله، إنه على كل شيء قدير!
والحمد لله رب العالمين...