خطبة وانتصف الشهر...

أحمد بن عبدالله الحزيمي
1438/09/13 - 2017/06/08 19:17PM
خطبة وانتصفَ الشهرُ.
الحمد لله على نعمه التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله النبي المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وأصحابه الأتقياء.
أما بعدُ: فأُوصيكُمْ- أيُّها الناسُ- بتقوى اللهِ سبحانَهُ والاستمساكِ بعروتِهِ الوثقى، والاعتصامِ بحبلِهِ المتينِ، ولُزومِ جماعةِ المسلمينَ، فإنَّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، وإياكُم ومُحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ، { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }[
عبادَ اللهِ:
أحقًّا انتصفَ الشهرُ؟ وهلْ فعلًا أوشكَ على الذهابِ؟ إننا بحقٍّ نحتاجُ أنْ ندققَ في حساباتنا ونراجعُ أعمالنا.
هلْ ما مضى منَ الأيامِ كافٍ بما أودعناهُ منْ عملٍ؟ فهلْ يا ترى لم تفتنا فيهِ فريضةٌ في بيوتِ اللهِ؟ كمْ مرةً ختمنا كتابَ اللهِ؟ كمْ منَ الساعاتِ قضيناها في انتظارِ الصلواتِ أوْ بعدهُ منْ أوقاتٍ؟ هلْ للعمرةِ نصيبٌ منْ أعمالنا؟ صدقتكَ وبركَ، هل كانتْ جديرةٌ بما أفاءَ اللهُ عليكَ منْ نعمةٍ وثراءٍ؟ أسئلةٌ كثيرةٌ قدْ لا تروقُ للبعضِ؛ لأنها ستوقعهُ في شيءٍ منَ التأسفِ والتحسرِ ووخزِ الضميرِ جراءَ تفريطهِ وتساهله.
عبدَ اللهِ، هلْ منْ مراجعةٍ وتصحيحٍ لإدراكِ الفوزِ بهذا الشهر.
إنْ كنتَ محسنًا، وهذا هوَ الظنُّ، فزدْ إحسانكَ وضاعفْ جدكَ ونشاطكَ وإنْ كنتَ غيرَ ذلكَ وفوتَّ على نفسكَ الفرصَ في أولهِ وأوسطهِ، فعاودِ الكرةَ ثانيةً؛ فإنَّ البابَ ما زالَ مفتوحًا.
أيها المسلمونَ، وإنْ مضى منْ رمضانَ صدرهُ، وانقضى منهُ شطرهُ، فإنَّ الحبلَ لمْ ينقطعْ بعدُ، والرجاءُ لمْ يخبْ فإنْ كانَ ذهبَ أكثرهُ فقدْ بقيَ أفضلهُ.
إنَّ البعضَ ربما تحمسَ في أولِ الشهرِ فأخذَ منَ الأجورِ بحظٍّ وافرٍ وأعطى منْ وقتهِ وجهدهِ ما استطاعَ لنيلِ أكثرِ الفرص.
لكنْ ربما أصابهُ المللُ بعدَ ذلكَ، وفترَ حماسهُ، وقلَّ نشاطهُ، فلمْ يشعرْ بما كانَ عليهِ في أولهِ فنقولُ لهُ:
إنَّ الخيلَ الجيادَ أشدُّ ما تكونُ قوةً وحماسةً عندَ إبصارها النهايةَ.
إنكمْ عندما تتذكرونَ تلكَ الأيامَ السالفةَ، وما أحسنتمْ فيهِ منَ العملِ، وأنها شاهدةٌ بما عملتمْ، وحافظةٌ لما أودعتمْ تفخرونَ بها عندَ ربكمْ وخالقكمْ يومَ تدعونَ يومَ القيامةِ: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا }[آل عمران:3.].
عبادَ اللهِ:
لنواصلَ العطاءَ معَ ربِّ العالمينَ ونسألهُ العونَ والتمكينَ إننا عندما نتذكرُ أجرَ الصيامِ وفضلَ القيامِ، ونطيلُ التفكيرَ في أحوالِ الرجالِ الأفذاذِ في القديمِ والحديثِ ممنْ سطروا لنا نماذجَ رائعةً في قوةِ عبادتهمْ، وتجددُ طاقتهمْ وإخلاصهمْ لربهمْ؛ ليبعثَ في نفوسنا الحماسَ، ويجددُ طاقتنا- بإذن اللهِ تعالى- لنواصلَ العطاءَ معَ ربِّ العالمينَ في هذا الشهرِ.
نعمْ، رحلَ النصفُ الأولُ، ولئنْ كنا فرطنا فلا ينفعُ ذواتنا بكاءٌ ولا عويلٌ، وما بقيَ أكثرُ مما فاتَ، ولنُريَ اللهَ منْ أنفسنا خيرًا، فاللهَ اللهَ أنْ يتكررَ شريطُ التهاونِ، وأنْ تستمرَّ دواعي الكسلِ، فلقيا الشهرِ ثانيةً غيرَ مؤكدةٍ، ورحيلُ الإنسانِ مُنتظرٌ.
أيها المؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخرِ:
إننا على مقربةٍ منْ دخولِ ليالٍ، عظيمةَ القدرِ، جليلةَ الفضلِ، هيَ درةُ الليالي وتاجها وريحانتها. عبادَ اللهِ:
إنَّ مجردَ سماعنا بقربِ دخولِ هذهِ العشرِ المباركةِ ليخفقُ القلوبُ المؤمنةُ، ويبهجُ النفوسَ المشرقةَ.
واللهِ عندما نسمعُ أنَّ الرسولَ كَانَ يُضَاعِفُ العَمَلَ في العَشرِ الأَخِيرَةِ وَيَجتَهِدُ فِيهَا مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهَا،كما في صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ» .
وَفي الصَّحِيحَينِ وَغَيرِهِمَا عَنهَا- رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ».
هَكَذَا كَانَ نَبيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ وَصَفوَةُ خَلقِهِ، هَكَذَا كَانَ إِمَامُ المُتَّقِينَ وَسَيِّدُ العَابِدِينَ، هَكَذَا كَانَ المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، يَخلِطُ العِشرِينَ بِصَلاةٍ وَنَومٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ العَشرُ شَمَّرَ وَشَدَّ المِئزَرَ.
كانَ رسولُ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- رغمَ ما هوَ محملٌ بهِ منْ أعباءِ الرسالةِ، وتبليغِ الدعوةِ، ينقطعُ فيها عنِ الناسِ، ويفرغُ نفسهُ فَكَانَ لِعِلمِهِ بما في هَذِهِ العَشرِ مِنَ الأُجُورِ المُضَاعَفَةِ وَالحَسَنَاتِ المُتَكَاثِرَةِ يَجتَهِدُ اجتِهَادًا عَظِيمًا وَيَتَفَرَّغُ لِلطَّاعَةِ تَفَرُّغًا تَامًّا، حَتى إِنَّهُ كَانَ يَعتَكِفُ فِيهَا فَيَلزَمُ المَسجِدَ وَيَقطَعُ العَلائِقَ بِالخَلائِقِ.
وواللهِ عندما نعلمْ- أيضًا- أنَّ في هذهِ الليالي ليلةً هيَ خيرُ ليالِ العامِ، العبادةُ فيها تفضُلُ عبادةَ ألفِ شهرٍ، ليلةٌ عظيمةُ البركاتِ، كثيرةُ الخيراتِ، لِما يتنزلُ فيها على العبادِ منْ عظيمِ المنحِ الربانيةِ، وجليلِ النفحاتِ الإلهيةِ.
لتعجبْ أشدَّ العجبِ منْ بعضِ النفوسِ التي لا تستحثها تلكَ الخيراتُ لإعطاءِ المزيدِ منَ العملِ والجدِّ في هذهِ الليالي وكأنهُ قنعَ بما حصلَ وبما أودع.
يدخلُ عليهِ رمضانُ فلا جهدَ لهُ يذكرُ، تطلُّ عليهِ الليالي المباركةُ ولا نشاطَ عليهِ يشكرُ، يخرجُ رمضانُ ولمْ يرى عليهِ أثرُ الصيامِ. (لعلكمْ تتقونَ)
لا إلهَ إلا اللهُ، موسمٌ عظيمٌ يفوتُ وكأنهُ لا محالةَ مدركٌ لرمضاناتٍ قادمةٍ.اللهمَّ رحماكَ رحماكَ.
ما نحنُ قادمونَ عليهِ منْ فرصِ المغفرةِ. والترقي في درجاتِ الجنةِ. ومنْ زكاةِ النفوسِ وسموِّ الروحِ ما يجعلنا نفرغُ أنفسنا أكثرَ في هذهِ الليالي، ونبذلُ ما في وسعنا للمزيدِ منَ العملِ، فكما ذهبتْ أيامهُ سريعًا فما بقيَ سيكونُ ذهابهُ أسرعُ.
أيامَ العشرِ تحلُّ بنا- إنْ شاءَ اللهُ- لتكونَ الفرصةُ الأخيرةُ لمنْ فرطَ في أولِ الشهرِ، أوْ لتكونَ التاجُ الخاتمُ لمنْ أصلحَ ووفى فيما مضى.
فكونوا، يا رعاكمُ اللهُ منَ الرجالِ الذينَ لا تلهيهمْ تجارةٌ ولا لهوٌ ولا عبثٌ،ولا يستهويهم كسلٌ ولا خورٌ ولا نومٌ.
وكونوا منَ الذينَ اشتروا الدارَ الآخرةَ بالدارِ الفانية.
اللهمَّ ياحيُّ يا قيومُ، نسألكَ أنْ تكونَ خيرَ معينٍ لنا على طاعتكَ.
اللهمَّ إنا نستعينكَ ونستهديكَ ونؤمنُ بكَ ونتوكلُ عليكَ.
اللهمَّ لا حولَ لنا ولا قوةَ إلا بكَ.
اللهمَّ اجعلْ ما بقيَ منْ أعمارنا خيرًا منْ أولها.
واجعلْ خيرَ أيامنا آخرها.
اللهمَّ باركْ لنا في أحوالنا كلها، واختمْ لنا بخيرٍ.
اللهمَّ إنَّ ذنوبنا كثرتْ وأوزارنا قدْ ثقلتْ.
اللهمَّ امننْ علينا برحمتكَ وجودكَ وإحسانكَ.
فأنتَ أجودُ الأجودينَ، وأكرمُ الأكرمينَ.

الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ، عظمَ شأنهُ ودامَ سلطانهُ، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرهُ، عمَّ امتنانهُ وجزلَ إحسانهُ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدهُ ورسولهُ، بهِ علا منارُ الإسلامِ وارتفعَ بنيانهُ، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى أصحابهِ والتابعينَ، ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ:
أيها الإخوةُ، الدعاءَ الدعاءَ. عُجُّوا فيما بقيَ منْ أيامكمْ بالدعاءِ.
فقدْ قالَ ربكمْ عزَّ شأنهُ: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }[البقرة:186]
إنَّ للدعاءِ- أيها الإخوةُ- شأنًا عجيبًا، وأثرًا عظيمًا في حسنِ العاقبةِ، وصلاحِ الحالِ والمآلِ والتوفيقِ في الأعمالِ والبركةِ في الأرزاقِ.
إنَّ أهلَ الدعاءِ الموفقينَ حينَ يعُجُّونَ إلى ربهمْ بالدعاءِ، يعلمونَ أنَّ جميعَ الأبوابِ قدْ توصدُ في وجوههمْ إلا بابًا واحدًا هوَ بابُ السماءِ. بابٌ مفتوحٌ لا يغلقُ أبدًا، فتحهُ منْ لا يردُّ داعيًا ولا يخيبُ راجيًا. فهوَ غياثُ المستغيثينَ، وناصرَ المستنصرينَ، ومجيبَ الداعينَ.
أيها المجتهدونَ، يجتمعُ في هذهِ الأيامِ أوقاتٌ فاضلةٌ وأحوالٌ شريفةٌ. الصوم في النهار جوفُ الليلِ منْ رمضانَ، والأسحارُ منْ رمضانَ، دبرُ الأذانِ والمكتوباتِ، أحوالُ السجودِ، وتلاوةُ القرآنِ، مجامعُ المسلمينَ في مجالسِ الخيرِ والذكرِ، كلها تجتمعُ في أيامكمْ هذهِ. فأينَ المتنافسونَ؟ فاجتهدوا بالدعاءِ- رحمكمْ اللهُ- سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطئوا الإجابةَ.
• عبدَ اللهِ، أكثرْ منَ الدعاءِ بالثباتِ على هذا الدينِ حتى المماتِ، والتوفيقِ إلى فعلِ الخيراتِ، وكراهيةِ اقترافِ المحرماتِ والمكروهاتِ، فإننا نرى منْ أحوالِ الناسِ عجبًا.
• ادعُ لنفسكِ بالصحةِ والعافيةِ والتمتعِ بملاذِ الدنيا المباحةِ، والدعاءِ- كذلكَ- بأنْ يكفَّ عنكَ الأمراضَ والأوجاعَ، وأنْ يجعلَ ذلكَ خيرًا معينًا على طاعةِ مولاكَ سبحانهُ.
• الدعاءُ للوالدينِ في كلِّ حينٍ، الأحياءِ منهمْ والميتينَ، وأنْ يمتعهمْ على طاعتهِ، وأنْ يجمعَ شملكَ بهمْ في جناتِ النعيمِ.
• ادعُ اللهَ- كذلكَ- أنْ يجبرَ ما نقصَ منكَ منَ الخصالِ التي تحبها ويحبها الناسُ.
• استغلْ كلَّ مناسبةٍ يستحبُّ فيها الإكثارُ منَ الدعاءِ ولا تفوتِ الفرصةَ.
اسألِ اللهَ دائمًا الخاتمةَ الحسنةَ والشهادةَ في سبيلهِ؛ فإنَّ منْ سألَ الشهادةَ بحقٍّ بلغهُ اللهُ منازلَ الشهداء، وإنْ ماتَ على فراشهِ.كما صحَّ الخبرُ عنِ الحبيبِ- صلى اللهُ وسلمَ عليهِ.
اسألِ اللهَ- تعالى- البركةَ في الوقتِ والمالِ بلْ في كلِّ شيءٍ.
اسألِ اللهَ الكفافَ عما في أيدي الناسِ أعطوكَ أوْ منعوكَ.
عبدَ اللهِ، ما أجملَ أنْ تخصصَ دعوةً لأخيكِ المبتلى بكربةٍ ماليةٍ أوْ نفسيةٍ أوْ غيرها، بأنْ يفرجَ اللهُ عنهُ كربتهُ، فهذا واللهِ شعورٌ عظيمٌ بينَ أفرادِ المجتمعِ.
وتأملْ كثيرًا وتصورْ دائمًا عندما تدعو المولى- سبحانه- أنَّ وراءكَ ملكًا يؤمنُ على دعائكَ، يقولُ: ولكَ بمثلهِ.
هذا وصلوا وسلموا- رحمكمُ اللهُ- على خيرِ منْ عبدَ ربهُ ودعا، النبيِّ المصطفى والرسول المجتبى، إمامِ المتقينَ، وأفضلِ الناسِ أجمعينَ، كما أمركمْ بذلكَ ربكمْ ربُّ العالمينَ فقالَ تعالى قولًا كريمًا: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }[الأحزاب:56].
المرفقات

خطبة وانتصف الشهر الجامع الكبير 17.doc

خطبة وانتصف الشهر الجامع الكبير 17.doc

المشاهدات 1640 | التعليقات 0