خطبة : ( والله يحكم لا معقب لحكمه )

عبدالله البصري
1433/04/08 - 2012/03/01 10:39AM
والله يحكم لا معقب لحكمه 9 / 4 / 1433

الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَقُولُ رَبُّكُم ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ "
في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ العَظِيمَةِ ، يُخبِرُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ بِلُطفِهِ بِعِبَادِهِ لِيَعرِفُوهُ وَيُحِبُّوهُ ، وَلِيَتَعَرَّضُوا لِلُطفِهِ وَكَرَمِهِ ، وَفي وَصفِهِ ـ تَعَالى ـ نَفسَهُ بِاللُّطفِ هُنَا دُونَ الرَّحمَةِ مَعنًى عَظِيمٌ لا يَكَادُ يُدرِكُهُ إِلاَّ المُؤمِنُونَ المُوقِنُونَ ، إِذ إِنَّ مِن مَعَاني اللُّطفِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ ـ سُبحَانَهُ ـ أَنَّهُ يَعلَمُ السَّرَائِرَ وَيُدرِكُ مَا في الضَّمَائِرِ ، عِلمًا وَإِدرَاكًا يُوصِلُ عِبَادَهُ إِلى مَا فِيهِ الخَيرُ لهم وَالسَّعَادَةُ مِن حَيثُ لا يَعلَمُونَ وَلا يَحتَسِبُونَ .
وَلُطفُهُ ـ تَعَالى ـ بِعِبَادِهِ المُؤمِنِينَ عَلَى وَجهِ الخُصُوصِ مُتَنَوِّعٌ وَمُتَعَدِّدٌ ، وَلَهُ أَوجُهٌ قَد يَعلَمُونَهَا وَقَد لا تَخطُرُ لهم عَلَى بَالٍ ، وَإِذَا كَانَ مِن لُطفِهِ بهم أَنْ هَدَاهُم إِلى الخَيرِ وَحَبَّبَ إِلَيهِمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِهِم ، وَكَرَّهَ إِلَيهِمُ الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ وَجَعَلَهُم مِنَ الرَّاشِدِينَ ، فَإِنَّ مِن لُطفِهِ بهم أَن يَصرِفَ عَنهُم مَا يَقطَعُهُم عَنِ الإِقبَالِ عَلَيهِ وَطَاعَتِهِ ، أَو يَحمِلُهُم عَلَى الغَفلَةِ عَنهُ ومَعصِيَتِهِ ، حَتى وَلَو كَانَ ذَلِكَ بِتَضيِيقِ الرِّزقِ عَلَيهِم ، وَلِهَذَا قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ في الآيَةِ السَّابِقَةِ : " يَرزُقُ مَن يَشَاءُ " أَي بِحَسَبِ اقتِضَاءِ حِكمَتِهِ وَلُطفِهِ " وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ " الَّذِي لَهُ القُوَّةُ كُلُّهَا ، وَلَهُ دَانَت جَمِيعُ الأَشيَاءِ ، فَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ لأَحَدٍ مِنَ المَخلُوقِينَ إِلاَّ بِهِ .
أَلا وَإِنَّ مِن لُطفِهِ ـ تَعَالى ـ بِعِبَادِهِ وَإِرَادَتِهِ الخَيرَ لهم ، مَا شَرَعَهُ لهم مِن هَذِهِ الحُدُودِ وَالتَّعزِيرَاتِ ، الَّتي هِيَ طَهَارَةٌ لِمُجتَمَعَاتِهِم وَتَنقِيَةٌ لها ، وَحِفظٌ لِجَسَدِ أُمَّتِهِم وَإِبقَاءٌ عَلَيهِ ؛ بِقَطعِ مَا فَسَدَ مِنهُ أَو كَيِّهِ أَو عِلاجِهِ ، لِيَحيَا بَعدَ ذَلِكَ صَحِيحًا سَلِيمًا مُعَافى ، لا تُكَدِّرُ صَفَاءَهُ الأَمرَاضُ وَلا تُوهِنُهُ الأَوجَاعُ ، وَلا تَنخَرُ فِيهِ مُسَبِّبَاتُ الفَسَادِ أَو تَقضِي عَلَيهِ عَوَامِلُ الفَنَاءِ .
وَمَا زَالَ العُقَلاءُ وَمُنذُ القِدَمِ لا يَستَنكِرُونَ مَا يَفعَلُهُ بَعضُ الأَطِبَّاءِ وَالحُكَمَاءِ لِعِلاجِ بَعضِ الأَمرَاضِ المُستَعصِيَةِ ، الَّتي لَو تُرِكَت لأَهلَكَتِ الفَردَ وَقَضَت عَلَى الجَسَدِ ، غَيرَ أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ لَدَى الطَّبِيبِ الحَكِيمِ مَعَ حَاجَةِ المَرِيضِ وَاضطِرَارِهِ ، أَوجَبَا أَن يُكوَى بَعضُ الجُرُوحِ وَالعُرُوقِ فَيُشفَى ، أَو يُقطَعَ بَعضُ أَعضَاءِ المَرِيضِ فَيَتَعَافى ، أَو يُستَأصَلَ مِنهُ الجُزءُ المُتَآكِلُ لِلإِبقَاءِ عَلَى مَا فِيهِ حَيَاةٌ مِن سَائِرِ الجَسَدِ ، وَمَعَ هَذَا فَلا يُوجَدُ عَاقِلٌ يَصِفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِأَنَّهَا قَسوَةٌ أَو وَحشِيَّةٌ أَو اعتِدَاءٌ عَلَى الإِنسَانِيَّةِ ، لِمَاذَا ؟ لأَنَّهُم يَعلَمُونَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفعَلُ مِن بَابِ ارتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَينِ لإِزَالَةِ أَشَدِّهِمَا .
فَمَا بَالُ الأُمَّةِ اليَومَ ، وَهِيَ الَّتي كَانَت وَمَا زَالَت تَنعَمُ بِالأَمنِ وَالاطمِئنَانِ وَرَاحَةِ البَالِ وَانتِشَارِ السَّعَادَةِ وَانشِرَاحِ الصُّدُورِ ، مَا بَالُهَا جَعَلَت تَستَنكِرُ مَا يَفعَلُهُ الوُلاةُ الصَّالِحُونَ وَالعُلَمَاءُ العَامِلُونَ وَالدُّعَاةُ المُحتَسِبُونَ ، مِن تَطبِيقٍ لأَحكَامِ الشَّرِيعَةِ وَإِقَامَةٍ لِلحُدُودِ ، وَأَمرٍ بِالمَعرُوفِ وَنَهيٍ عَنِ المُنكَرِ ، وَأَخذٍ عَلَى أَيدِي السُّفَهَاءِ وَمُجَاهَدَةٍ لِلمُفسِدِينَ ؟! أَوَدَاخَلَهَا الشَّكُّ في عَظِيمِ لُطفِ اللهِ بها حَيثُ شَرَعَ هَذِهِ الحُدُودَ وَالتَّعزِيرَاتِ وَالأَحكَامَ البَيِّنَاتِ ؟!
أَوَتَظُنُّ أَنَّهَا سَتَجِدُ أَحسَنَ مِن حُكمِ اللهِ أَو أَرحَمَ مِنهُ بِعِبَادِهِ ؟!
أَوَنَسِيَت أَنَّهَا عَلَى مَرِّ عُصُورِهَا لم تَتَمَسَّكْ بِدِينِهَا إِلاَّ عَزَّت وَغَلَبَت ، وَلم تَتَخَلَّ عَنهُ إِلاَّ ذَلَّت وَاستَكَانَت ؟
أُمَّةَ الإِسلامِ ، لم يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الأُمَّةِ أَرحَمَ بِالأُمَّةِ ولا أَرفَقَ بها مِن نَبِيِّهَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَلم يَكُنْ في الحُكَّامِ مَن هُوَ أَحكَمُ مِنهُ وَلا أَكمَلُ رَأيًا وَلا أَبعَدُ نَظَرًا ، وَإِذَا كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ هُوَ الرَّحِيمَ الرَّفِيقَ الحَلِيمَ ، صَاحِبَ العَفوِ وَبَالِغَ القِمَّةِ في الصَّفحِ ، المُيَسِّرَ غَيرَ المُعَسِّرِ ، المُبَشِّرَ غَيرَ المُنَفِّرِ ، فَإِنَّهُ لم يَكُنْ لِيَضعُفَ إِذَا انتُهِكَت مَحَارِمُ اللهِ ، أَو يُقَصِّرَ يَومًا في تَطبِيقِ حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ ، أَو يَتَهَاوَنَ بِذَلِكَ أَو تَأخُذَهُ بِمُستَحِقِّ العُقُوبَةِ رَأَفَةٌ ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَينَ أَمرَينِ قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيسَرَهُمَا مَا لم يَكُنْ إِثمًا ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ إَثمٌ كَانَ أَبعَدَ النَّاسِ مِنهُ ، وَمَا انتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِنَفسِهِ في شَيءٍ قَطُّ ، إِلاَّ أَن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ فَيَنتَقِمَ للهِ ـ تَعَالى ـ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُم شَأنُ المَرأَةِ المَخزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَت ، فَقَالُوا : مَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ؟ فَقَالُوا : وَمَن يَجتَرِئُ عَلَيهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بنُ زَيدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَتَشفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ ؟ " ثم قَامَ فَاختَطَبَ ثم قَالَ : " إِنَّمَا أَهلَكَ الَّذِينَ قَبلَكُم أَنَّهُم كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيهِ الحَدَّ ، وَايمُ اللهِ لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنتَ محمدٍ سَرَقَت لَقَطَعتُ يَدَهَا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ نَاسًا مِن عُرَينَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ المَدِينَةَ فَاجتَوَوهَا ، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنْ شِئتُم أَن تَخرُجُوا إِلى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشرَبُوا مِن أَلبَانِهَا وَأَبوَالِهَا " فَفَعَلُوا فَصَحُّوا ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرُّعَاةِ فَقَتَلُوهُم وَارتَدُّوا عَنِ الإِسلامِ وَسَاقُوا ذَودَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَبَعَثَ في أَثَرِهِم فَأُتيَ بِهِم ، فَقَطَعَ أَيدِيَهُم وَأَرجُلَهُم وَسَمَلَ أَعيُنَهُم وَتَرَكَهُم في الحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا . رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَعَن عِمرَانَ بنِ حُصَينٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ امرَأَةً مِن جُهَينَةَ أَتَت نَبيَّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ حُبلَى مِنَ الزِّنَا ، فَقَالَت : يَا نَبيَّ اللهِ ، أَصَبتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ ، فَدَعَا نَبيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَلِيَّهَا فَقَالَ : " أَحسِنْ إِلَيهَا ، فَإِذَا وَضَعَت فَأتِني بها " فَفَعَلَ ، فَأَمَرَ بها نَبيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَشُكَّت عَلَيهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بها فَرُجِمَت ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيهَا . رَوَاهُ مُسلِمٌ .
إَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم أَرحَمُ بِالبَشَرِ مِن رَبِّ البَشَرِ وَنَبيِّ البَشَرِ ، لم يَستَطعِمُوا اليَقِينَ في حَيَاتِهِم وَلم يُعمِلُوا عُقُولَهُم ، وَلَو أَعمَلُوهَا لَرَأَوا كَم هُوَ الأَمنُ مُنتَشِرٌ في هَذِهِ البِلادِ المُبَارَكَةِ ، بِسَبَبِ تَطبِيقِ الشَّرِيعَةِ وَإِقَامَةِ الحُدُودِ ! وَكَم هِيَ الجَرَائِمُ البَشِعَةُ الَّتي تُوَاجِهُهَا الشُّعُوبُ الَّتي لم تَنعَمْ بِتَحكِيمِ الشَّرعِ المُطَهَّرِ !
وَهَل يَستَطِيعُ أَحَدٌ أَن يَدَّعِيَ أَنَّهُ أَرحَمُ بِالنَّاسِ مِن رَبِّهِمُ الَّذِي أَنزَلَ هَذِهِ الحُدُودَ أَو مِن نَبِيِّهِمُ الَّذِي طَبَّقَهَا بِلا ضَعفٍ وَلا خَوَرٍ ؟!
وَهَل يُؤمِنُ مَن يَجرُؤُ عَلَى وَصفِ أَحكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالوَحشِيَّةِ أَوِ الهَمَجِيَّةِ ؟!
لَقَد بُلِيَتِ الأُمَّةُ اليَومَ بِقَومٍ إِذَا رَأَوا مِن أَحكَامِ اللهِ شَيئًا يُنَفَّذُ أَو حَدًّا يُقَامُ أَو تَعزِيزًا يُعمَلُ بِهِ ، تَسَاءَلُوا بِأَفوَاهِهِم أَو بِأَقلامِهِم : مَا هَذِهِ الهَمَجِيَّةُ ؟ وَمَا تِلكَ الوَحشِيَّةُ ؟ وَأَينَ هِيَ الإِنسَانِيَّةُ ؟ وَقَد يُنَصِّبُ بَعضُهُم نَفسَهُ لِلدِّفَاعِ عَنِ المُجرِمِينَ وَالخِصَامِ عَنِ الخَائِنِينَ بِحُجَّةِ الشَّفَقَةِ بهم وَإِعطَائِهِمُ الفُرصَةَ لِيَرجِعُوا ، فَوَا عَجَبًا ممَّن يُعَقِّبُونَ عَلَى اللهِ في حُكمِهِ وَيَصِفُونَهُ بِخِلافِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفسَهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاللهُ يَحكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَسُبحَانَ اللهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ . لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ "
وَالأَدِلَّةُ النَّقلِيَّةُ وَالعَقلِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ أَرحَمُ بِخَلقِهِ مِن أَنفُسِهِم ، وَأَعلَمُ مِنهُم بِمَصَالِحِهِم وَشُؤُونِهِم " أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ "
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ المُسلِمُونَ ، وَلْيَحمَدُوهُ عَلَى مَا أُنزِلَ عَلَيهِم مِن حُكمٍ شَامِلٍ لِكُلِّ شُؤُونِ حَيَاتِهِم ، وَلْيَكُونُوا وَخَاصَّةً مَن كَانَ مِنهُم صَاحِبَ سُلطَةٍ وَمَسؤُولِيَّةٍ ، عَونًا لِوُلاةِ الأَمرِ عَلَى تَنفِيذِ الحُدُودِ وَتَطبِيقِ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ ، وَلْيَأخُذُوا عَلَى أَيدِي السُّفَهَاءِ بما لَدَيهِم مِن أَنظِمَةٍ جَعَلَهَا وَليُّ الأَمرِ ، فَإِنَّهُ لا خِيَارَ لهم في ذَلِكَ وَلا مَجَالَ لِلتَّهَاوُنِ وَتَركِ الحَبلِ عَلَى الغَارِبِ لِكُلِّ خَارِجٍ عَنِ الشَّرعِ أَو مُتَعَدٍّ لِلحُدُودِ أَو مُتَجَاوِزٍ لِلأَنظِمَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً "


الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ اللهَ إِذِ استَخلَفَ آدَمَ في الأَرضِ لِعَمَارَتِهَا وَإِصلاحِهَا ، وَاستِغلالِ مَا فِيهَا مِن ثَرَوَاتٍ وَاستِثمَارِ ما تُخَبِّئُهُ مِنَ كُنُوزِ وَطَاقَاتٍ ، لم يَجعَلْ ذَلِكَ غَايَةً بِقَدرِ مَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِلعِنَايَةِ بِالإِنسَانِ ، لِيَبلُغَ كَمَالَهُ المُقَدَّرَ لَهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ ، في سُمُوٍّ لِرُوحِهِ وَزَكَاءٍ لِنَفسِهِ وَصَلاحٍ لِقَلبِهِ ، لا أَن يَنتَكِسَ فَيُصبِحَ حَيَوَانًا في وَسَطِ حَضَارَةٍ مَادِيَّةٍ زَاهِرَةٍ ، هَمُّهَا العِنَايَةُ بِالأَجسَادِ فَحَسبُ ، وَلَمَّا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ، لم يَجعَلِ اللهُ قِيَادَةً وَلا رِيَادَةً إِلاَّ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَقَد كَتَبنَا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالحُونَ "
وَقَد وَضَعَ الخَالِقُ لِبَني آدَمَ مِن أَجلِ ذَلِكَ مَنهَجًا كَامِلاً مُتَكَامِلاً ، إِن هُم أَخَذُوا بِهِ سَعِدُوا وَأَفلَحُوا ، وَإِن هُم فَرَّطُوا فِيهِ شَقُوا وَخَسِرُوا " قُلنَا اهبِطُوا مِنهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ " " قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعًا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقَى . وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَني أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجزِي مَن أَسرَفَ وَلم يُؤمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبقَى "
هَكَذَا أَرَادَ اللهُ أَن يُورِثَ الأَرضَ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ ، وَلا يُكَدِّرُ عَلَى ذَلِكَ أَن يَغلِبَ عَلَى الأَرضِ حِينًا مِنَ الدَّهرِ ظَلَمَةٌ جَبَّارُونَ مُتَكَبِّرُونَ ، أَو يَتَمَلَّكَ الزِّمَامَ غُزَاةٌ أَو طُغَاةٌ أَو بُغَاةٌ ، أَو يَتَغَلَّبَ عَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ في مَكَانٍ أَو زَمَانٍ كُفَّارٌ فُجَّارٌ يُحسِنُونَ استِغلالَ قُوَى الأَرضِ وَطَاقَاتِهَا استِغلالاً مَادِيًّا بَحتًا ، إِذِ الوِرَاثَةُ الأَخِيرَةُ هِيَ لِلعِبَادِ الصَّالِحِينَ ، الَّذِينَ يَجمَعُونَ بَينَ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ .
ألا فَلْيَتَّقِ اللهَ المُسلِمُونَ ، وَلْيَتَّجِهُوا إِلى إِصلاحِ بَوَاطِنِهِم وَظَوَاهِرِهِم ، وَهَيَّا إِلى شَرعِ اللهِ فَلْنَتَمَسَّكْ بِهِ وَأَحكَامِ دِينِهِ فَلْنُطَبِّقْهَا ، فَإِنَّهُ لا مَرَبِّيَ لِلنُّفُوسِ وَلا مُصلِحَ لِلقُلُوبِ غَيرُهَا ، وَلا رَادِعَ لِلفَسَادِ وَلا زَاجِرَ لِلمُفسِدِينَ سِوَاهَا ، وَأَمَّا التَّشَدُّقُ بِالأَلفَاظِ الجَوفَاءِ وَالعِبَارَاتِ الزَّائِفَةِ ، فَإِنَّمَا نِتَاجُهُ انتِشَارُ الجَرِيمَةِ وَقُوَّةُ المُجرِمِينَ وَتَمَادِي السُّفَهَاءِ وَالمُفسِدِينَ .
وَمَتَى تَهَاوَنَ بِالسُّلطَةِ مَسؤُولٌ ، وَلم يُطَبِّقِ الأَحكَامَ مَن بِيَدِهِ الأَمرُ ، فَلَن يَأخُذَ صَاحِبُ حَقٍّ حَقَّهُ وَلَن يَنَالَ ضَعِيفٌ نَصِيبَهُ ، وَلَن يُنتَصَرَ لِمَظلُومٍ وَلَن يُجبَرَ كَسرُ مَهضُومٍ ، وَسَتَعُمُّ الفَوضَى وَسَيَذهَبُ الاستِقرَارُ ، وَحِينَهَا فَلَن يَهنَأَ طَاعِمٌ بِطَعَامٍ وَلا عَينٌ بِمَنَامٍ " وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ "
المشاهدات 5405 | التعليقات 8

ومرافق هذه المشاركة ملف الخطبة ( وورد ) نفع الله بالجميع وسددهم .

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/والله%20يحكم%20لا%20معقب%20لحكمه.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/والله%20يحكم%20لا%20معقب%20لحكمه.doc


أحسنت بهذه الخطبة الرائعة جدًا

وفقك الله وتبقى دائمًا أنموذجا يحتذى به

لافض فوك

.....................................
.....................................

...... بِحُجَّةِ الشَّفَقَةِ بهم وَإِعطَائِهِمُ الفُرصَةَ لِيَرجِعُوا .............
هناك بعض العقوبات التي تستتوجب إعطاء الفرصة للرجوع
كالمرتد يستتاب ثلاثة أيام مثلًا وأنت أدرى ولكن
ياحبذا لو كان هناك تفريق بين العقوبات
ولو أن السياق واضح أنك تتكلم عن العقوبات التي يقام فيها حد
ولكن المشكلة في المخاطب لابد من التوضيح أكثر
وفقك الله
وممكن أن تكون وجهة نظري خاطئة




بارك الله فيك ونفع بك..


خطبة رائعه جدا ماشاء الله

سوف اخطب بها اليوم باذن الله ... اسال الله عزوجل الا يحرمك الاجر والمثوبة


لافض فوك ولاعدمك محبوك
بارك الله فيك شيخنا الكريم


جزاك الله خيرا
كما عودتنا خطب رائعة ومواضيع متجددة


جزاك الله خيرا
كما عودتنا خطب رائعة ومواضيع متجددة بارك الله فيك وفي أمجادك وأولادك وأحفادك.


شكر الله للشيخ عبدالله البصري فقد أجاد وأفاد وسياق الخطيب عام والله أعلم