خطبة : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها )

عبدالله البصري
1445/06/22 - 2024/01/04 17:08PM

23/ 6/ 1445    هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها

 

الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم فَلا تَجعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، خَلَقَ اللهُ الإِنسَانَ وَأَنزَلَهُ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ وَاستَخلَفَهُ فِيهَا ، وَخَلَقَ لَهُ مَا فِيهَا بِرًّا مِنهُ تَعَالى وَرَحمَةً وَإِحسَانًا ؛ لِيَأكُلَ وَيَنتَفِعَ وَيَتَمَتَّعَ وَيَتَفَكَّرَ ، وَيَتَقَوَّى عَلَى مَا خُلِقَ لَهُ وَيَتَّعِظَ وَيَعتَبِرَ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا في الأَرضِ جَمِيعًا ثُمَّ استَوَى إِلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ " وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ في البَحرِ بِأَمرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دَائِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ " وَقَالَ تَعَالى : " اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحرَ لِتَجرِيَ الفُلكُ فِيهِ بِأَمرِهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُم مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ جَمِيعًا مِنهُ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرضِ خَلِيفَةً " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الدُّنيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُستَخلِفُكُم فِيهَا فَيَنظُرُ كَيفَ تَعمَلُونَ " الحَدِيثَ رَوَاهُ مُسلِمٌ . أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَدِ استَخلَفَ اللهُ تَعَالى الإِنسَانَ في الأَرضَ وَجَعَلَهُ وَصِيًّا لا مَالِكًا ، مُحَافِظًا لا مُفسِدًا ، أَمِينًا لا خَائِنًا ، شَاكِرًا لِلمُنعِمِ لا كَافِرًا ، وَلِهَذَا قَالَ المَلائِكَةُ لِرَبِّهِم لَمَّا أَخبَرَهُم أَنَّهُ جَاعِلٌ في الأَرضِ خَلِيفَةً : " قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ " لَقَد عَلِمُوا بِمَا عَلَّمَهُمُ اللهُ أَنَّ المُستَخلَفَ لَيسَ مُطلَقَ اليَدِ في استِعمَالِ مَا استُخلِفَ فِيهِ ، وَإنَّمَا هُوَ مُستَخلَفٌ لِحِكمَةٍ بَالِغَةٍ وَلِغَايَةٍ جَلِيلَةٍ ، وَهِيَ إِقَامَةُ أَحكَامِ مُستَخلِفِهِ وَتَنفِيذِ وَصَايَاهُ ، وَلِهَذَا خَافُوا مِنَ الإِفسَادِ في الأَرضِ . وَقَالَ سُبحَانَهُ لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيهِ السَّلامُ : " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرضِ فَاحكُمْ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ " نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الأَرضَ وَمَا فِيهَا مُلكٌ للهِ ، هُوَ الَّذِي خَلَقَهَا وَسَخَّرَ فِيهَا مَا سَخَّرَ ، وَأَنزَلَ هَذَا الإِنسَانَ عَلَيهَا لِيَعمُرَهَا ، قَالَ سُبحَانَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَالِحٍ عَلَيهِ السَّلامُ : " هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فِيهَا " فَالوَاجِبُ عَلَى الإِنسَانِ تَعمِيرُ الأَرضِ لا تَدمِيرُهَا ، وَحِمَايَتُهَا لا العَبثُ فِيهَا ، وَلا بَأسَ بَعدَ ذَلِكَ أَن يَستَمتِعَ بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ فِيهَا مِن مَتَاعٍ ، فَالأَشجَارُ وَالنَّبَاتَاتُ وَالثِّمَارُ ، وَالحَيَوَانَاتُ وَالجِبَالُ وَالنُّجُومُ وَالبِحَارُ ، كُلُّهَا مُسَخَّرَةُ لِلإِنسَانِ غِذَاءً وَدَوَاءً وَمَنفَعَةً ، وَقَضَاءً لِحَاجَةٍ أَو سَدًّا لِضَرُورَةٍ ، بَل وَلا يُمنَعُ مِن أَن يَبتَهِجَ بِهَا وَيُسَرَّ وَيَفرَحَ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " أَمَّن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهجَةٍ مَا كَانَ لَكُم أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَل هُم قَومٌ يَعدِلُونَ  "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِنَ التَّعَدِّي وَالتَّجَاوُزِ الَّذِي بُلِيَ بِهِ الإِنسَانُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، ظَنَّهُ أَنَّهُ يَملِكُ الأَرضَ مُلكًا مُطلَقًا ، وَأَنَّ لَهُ أَن يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِحُرِّيَّةٍ تَامَّةٍ ، بَل لَقَد وَصَلَ الجَهلُ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَتَجَاوُزُهُ حُدُودَ اللهِ وَالخُرُوجُ عَن أَحكَامِهِ ، أَن أَبَاحُوا لأَنفُسِهِم العَبَثَ فِيمَا حَولَهُم وَالإِفسَادَ وَالإِيذَاءَ ، غَافِلِينَ عَن قَولِ رَبِّهِم وَخَالِقِهِم وَمَالِكِ الأَرضِ وَمَن فِيهَا وَمَن عَلَيهَا : " وَلا تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ " وَلِمُسَافِرٍ أَو مُتَنَزَّهٍ أَن يَنظُرَ اليَومَ في الطُّرُقِ الَّتي يَسلُكُهَا ، أَوِ الأَمكِنَةِ الَّتي يَقصِدُهَا ، أَوِ المُتَنَزَّهَاتِ الَّتي يَرغَبُ في التَّروِيحِ عَن نَفسِهِ فِيهَا ، لِيَرَى إِلى أَيِّ حَدٍّ وَصَلَ العَبَثُ بِخَرَاجِ الأَرضِ وَخَيرَاتِهَا وَأَشجَارِهَا وَنَبَاتِهَا ، وَإِفسَادِ طَبِيعَتِهَا وَمَرَاعِيهَا وَمَحمِيَّاتِهَا " وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَلْنَمتَثِلْ أَمرَهُ لَنَا إِذْ قَالَ سُبحَانَهُ : " كُلُوا وَاشرَبُوا مِن رِزقِ اللهِ وَلا تَعثَوا في الأَرضِ مُفسِدِينَ " وَلْنَعلَمْ أَنَّ الشُّكرَ هُوَ سَبَبُ حِفظِ النِّعمِ وَزِيَادَتِهَا " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِنْ شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ "

 

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ " وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، أَوَامِرُ الإِسلامِ وَنَوَاهِيهِ ، وَالآدَابُ وَالتَّوجِيهَاتُ الَّتي جَاءَ بِهَا الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، كُلُّهَا تَحُثُّ عَلَى التَّعمِيرِ وَالإِصلاحِ وَالبِنَاءِ ، وَإِرَادَةِ الخَيرِ بالأَرضِ وَسَاكِنِيهَا وَحِفظِ مَوَارِدِهَا ، وَتُحَذِّرُ مِنَ التَّدمِيرِ وَالإِفسَادِ وَالعَبثِ وَالإِيذَاءِ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفي يَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ فَإِنِ استَطَاعَ أَلاَّ تَقُومَ حَتى يَغرِسَهَا فَلْيَغرِسْهَا " رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَا مِن مُسلِمٍ يَغرِسُ غَرسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنهُ لَهُ صَدَقَةً ، وَمَا سُرِقَ مِنهُ صَدَقَةً ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةً ، وَمَا أَكَلَتِ الطُّيُورُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةً ، وَلا يَرزَؤُهُ أَحَدٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةً " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن أَمَاطَ أَذًى عَن طَرِيقِ المُسلِمِينَ كُتِبَت لَهُ حَسَنَةٌ ، وَمَن تُقُبِّلَت مِنهُ حَسَنَةٌ دَخَلَ الجَنَّةَ " رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " لَقَد رَأَيتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ ، في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِن ظَهرِ الطَّرِيقِ كَانَت تُؤذِي النَّاسَ " فَاللهَ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لِنَكُنْ مِمَّن يُصلِحُ وَلا يُفسِدُ ، وَيَنفَعُ وَلا يَضُرُّ ، وَيُعطِي وَلا يُؤذِي ، وَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الإِفسَادِ في الأَرضِ بِقَطعِ الأَشجَارِ الَّتي يَستَظِلُّ بِهَا النَّاسُ ، أَو رَميِ الأَوسَاخِ وَالمُخَلَّفَاتِ وَالقَاذُورَاتِ أَو إِشعَالِ النَّارِ في أَمَاكِنِ جُلُوسِ النَّاسِ ، أَو تَلويثِهَا بِبَقَايَا الطَّعَامِ ، أَو تَركِ مَا يُؤذِي النَّاسَ وَالدَّوَابَّ ؛ قَالَ سُبحَانَهُ : " وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن قَطَعَ سِدرَةً صَوَّبَ اللهُ رَأسَهُ في النَّارِ " رواهُ أبُو داودَ وصححهُ الأَلبَانيُّ ، وَهُوَ وَعِيدٌ بِالنَّارِ لِمَن قَطَعَ سِدرَةً أَو شَجَرَةً يَستَظِلُّ بِهَا النَّاسُ وَالبَهَائِمُ ظُلمًا وَتَعَدِّيًا بِغَيرِ حَقٍّ ، فَكَيفَ بِالاحتِطَابِ الجَائِرِ الَّذِي عُدنَا نَرَاهُ وَنَجِدُهُ بِتَقطِيعِ أَشجَارِ الأَودِيَةِ وَالمُنَتَزَّهَاتِ ؟! وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " اِتَّقُوا اللَّعَّانَينِ " قَالُوا : وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ ؟! قَالَ : " الَّذِي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ أَو في ظِلِّهِم " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن آذَى المُسلِمِينَ في طُرُقِهِم وَجَبَت عَلَيهِ لَعنَتُهُم " رواهُ الطبرانيُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في أَيَّامِ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ ، وَمَوَاسِمِ نُزُولِ الأَمطَارِ وَنَبتِ الكَلأِ ، وَخَاصَّةً في العُطَلِ وَالإِجَازَاتِ ، يَخرُجُ النَّاسُ للتَّنَزُّهِ وَيَطِيبُ لَهُمُ التَّمَشِّي ، فَاللهَ اللهَ بِالأَخذِ بِآدَابِ الخُرُوجِ وَالنُّزُولِ وَالسَّفَرِ وَالسَّيرِ وَالجُلُوسِ وَالنَّومِ ، أَعطُوا كُلَّ شَيءٍ حَقَّهُ ، وَاحذَرُوا مِنَ إِلقَاءِ نُفُوسِكُم أَو نُفُوسِ غَيرِكُم إِلى التَّهلُكَةِ " وَلا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَّهلُكَةِ وَأَحسِنُوَا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ "

المرفقات

1704377276_هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.docx

1704377285_هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.pdf

المشاهدات 1841 | التعليقات 0