خطبة نداء الفطرة للإيمان لفضيلة الشيخ د. صالح بن مبارك دعكيك

شادي باجبير
1444/06/24 - 2023/01/17 19:33PM

خطبة: "نداء الفطرة للإيمان"
لفضيلة الشيخ د. صالح بن مبارك دعكيك
ألقيت في مسجد آل ياسر، المكلا، ٢٠٢٣/١/١٣م

                   الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين …

  أمابعد: فإن أكبر قضية في الوجود،
هي القضية التي قامت عليها السموات والأرض، ولأجلها خلقت الخليقة، ولأجلها جعلت الآخرة، وخلقت الجنة والنار، وتنصب الموازين، وبها تنقسم الخليقة إلى فريق في الجنة وفريق في السعير، هي قضية توحيد الله تعالى، والعبودية له وحده جل في علاه.

      وتوحيد الله -تعالى- والإيمان به هو قمة المقدسات الدينية، وأساس العقيدة الاسلامية، وهي أصل الأصول في رسالات السماء جميعا، فهي قضية الدين الكبرى، جديرة بأن يوليها المسلم جل اهتمامه فهما وتطبيقا، عبودية وسلوكا.

    والله -جل جلاله- هو الحقيقة المطلقة في الكون، ومن شدة ظهوره اختفى كما يقوله بعض علمائنا، كالروح التي هي أظهر حقيقة نؤمن بها، وعليها تقوم حياتنا، لكننا لا نراها مع شدة ظهورها.

  والدلائل على وجوده ووحدانيته أكثر من أن تحصر، والأدلة تلوح ناطقة في كل مخلوق، كما قال القائل:

وفي كل شيء له آية   * تدل على أنه واحد

    ومن أكبر وأبرز الأدلة على وجود الله -تعالى- ووحدانيته ما يعرف بدليل الفطرة، والفطرة هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين عليها، من الميول لمعرفته -سبحانه- والإقرار الباطني به، فهي غريزة وإحساس تشد الإنسان إلى تعظيم الخالق، والالتجاء إليه، والشعور بالافتقار له.

   وهذا ما أشارت إليه الآيات الكريمة : ﴿فَأَقِم وَجهَكَ لِلدّينِ حَنيفًا فِطرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها لا تَبديلَ لِخَلقِ اللَّهِ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ﴾ [الروم: ٣٠].

وأكدت ذلك السنة الشريفة، كما في الحديث : (ما من مولُود إلَّا يُولَدُ على الفطرة، فأبَواهُ يُهَوِّدَانِه، ويُنصِّرَانه ويُمَجسانه). رواه البخاري (1359) ومسلم(2658).

   وهذه الفطرة المركوزة في كل مخلوق، هي الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم قبل أن يخلقهم، وجعل منه حجة قائمة عليهم، قال تعالى: ﴿وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قالوا بَلى شَهِدنا أَن تَقولوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَن هذا غافِلينَ۝أَو تَقولوا إِنَّما أَشرَكَ آباؤُنا مِن قَبلُ وَكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعدِهِم أَفَتُهلِكُنا بِما فَعَلَ المُبطِلونَ﴾ [الأعراف: ١٧٢-١٧٣].

    إن دليل الفطرة شعور كامن في أعماق كل نفس بشرية، يتجه بالاعتراف الباطني اللا إرادي بالقوة الكامنة وراء هذا الكون، الخالقة والموجدة لكل شيء، شعور لا يمكن انتزاعه من نفسه؛ لأنه جزء لا يتجزأ منها، شعور نابع من الداخل، ليس مما تعلمه من والديه أو بيئته، لا تحتاج إلى تعليم معلم، مثل الشعور بكل عواطفه وإحساساته وحبه وبغضه، فهو شعور ذاتي داخلي عميق، يدفعه دائما إلى الإيمان بأنّ لهذا الكون خالقاً ومدبراً وربّاً.

    يقول شيخ الإسلام: (إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته، حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة).

    إن المرء حينما يتأمل وهو في حال صفاء لروحه؛ يتحقق أنه لا شك في وجودالله ووحدانيته، تهديه لتلك الحقيقة فطرته السليمة دون تردد، قال تعالى : ﴿...أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرضِ ...﴾ [إبراهيم: ١٠].

    يقول المفكر الاسكتلندي لانج : "كل انسان يحمل في نفسه فكرة العليَّة، وأن هذه الفكرة كافية لتكوين العقيدة بأن ثمة آلهة صانعة وخالقة للكون."

    ويصر الفيلسوف الأمريكي ألفين بلانتنجا (Alvin plantinga) أن الإيمان شعور فطري، وأن الاعتقاد في وجود إله كالاعتقاد في مفاهيم أساسية، كالاعتقاد بأن للآخرين عقول كعقولنا، والاعتقاد في صحة حواسنا، وأن الكل أكبر من الجزء.

  ودلالة الفطرة على الإيمان بالله -جل جلاله- متنوعة منها:

 أولا: ملازمة التدين لتاريخ البشرية، ذلك أن تاريخ البشرية قاطبة منذ أن وجدت على الأرض لم تخلُ من التوجه مطلقا لمعبود، ولم توجد أمة بلا دين حقّاً كان أو باطلا، فهو توجه تدفع إليه الفطرة المكنونة بالاعتراف بشعور النقص، والتوجه لما وراء الغيب للإله الأكبر، حتى قال بعض المؤرخين: "لقد وجدت جماعات بشرية من غير فلسفات ولا فنون ولا مدارس ولا علوم ولكن لم توجد جماعة من غير ديانة أو معبودات."

   فهناك شعور اضطراري متجذر في النفوس نابع من كل نفس- يشترك فيه الجميع الجاهل والعالم، والبدائي والمتحضر، والفيلسوف والعامي، لا يمكن دفعه - أن قوة كبرى كامنة خلف الكون خلقت وأوجدت هذه الكائنات.

ثانيا : التجاء الإنسان إلى الله في الشدائد والمحن.   

    هناك شعور مشترك عند جميع البشر، بالالتجاء إلى الخالق عندما تقع الشدائد، ويفقد الإنسان الأمل بقدراته وقوته، فيتجه إلى ربه دون غيره، تحدوه لذلك فطرته المكنونة بداخله، فيشعر في قرارة قلبه بافتقاره لربه، فينطق لسانه بالابتهال، وترتفع يديه إلى السماء متلهفا للفرج، والإنسان في حياته الطبيعية ربما يفقد الإحساس بالتوجه لخالقه، بحكم مؤثرات البيئة المحيطة وعوامل تؤدي لخفاء هذا الشعور، ولكن حينما تأتي الشدائد تصفّي جوهر الفطرة، وتزول الحجب، حينها ينطلق نداء الفطرة المكنونة بوضوح، ففي الشدة تبدو فطرة الناس جميعاً كما هي في أصلها الذي خلقها الله عليه.

       وكم سمعنا من حوادث الطائرات والسفن وغيرها، حينما تجتاحهم المخاطر المحدقة كيف يضج الناس بالدعاء، وترتفع الأيدي والأبصار للعلو (للسماء)، وتنكشف الفطرة على أوضح ما تكون، حينها يختفي الإلحاد والشرك، ولا يبقى إلا نداء الفطرة المرتكزة في داخل الإنسان.

     وقد ذكر ربنا -سبحانه- هذا المعنى تكراراً في كتابه الكريم، فقال تعالى : ﴿وَإِذا مَسَّ الإِنسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنبِهِ أَو قاعِدًا أَو قائِمًا فَلَمّا كَشَفنا عَنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَم يَدعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلمُسرِفينَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ [يونس: ١٢]. وقال تعالى ﴿وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ ضَلَّ مَن تَدعونَ إِلّا إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُم إِلَى البَرِّ أَعرَضتُم وَكانَ الإِنسانُ كَفورًا﴾ [الإسراء: ٦٧]. وقال تعالى : ﴿وَما بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيهِ تَجأَرونَ۝ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُم إِذا فَريقٌ مِنكُم بِرَبِّهِم يُشرِكونَ﴾ [النحل: ٥٣-٥٤].

     وقد اشتهرت مقالة أيام الحـــرب لشاب من جنود المظلات، نشرتها مجلة (المختار) المترجمة عن مجلة (ريــدر دايجست)، ذلكم الطيار الشاب من جنود المظلات الذي يروي قصته قائلا: إنه نشـــأ في بيت ليس فيه من يذكــــر الله أو يصلي، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين، ولا مدرس متدين، نشأ نشأة علمانية مادية، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح، ولكنه لما هبط أول مرة، ورأى نفسه ساقطًا في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة، جعل يقول : يا الله، يا إلهي ... يدعو من كل قلبه حينما غابت المساعدة البشرية، فكان من الكريم -سبحانه- مجيب دعوة المضطرين أن أجابه.

    ويحكي الكاتب الإنجليزي كولن ولسون، أنه وضع قلمه الساعة الثانية عشرة ليلا، وقد أنهى مقالا عن الإلحاد يقول : (وحين خلدت للنوم لم أستطع إطفاء الضوء؛ خوفا مما سيفعله الله بي!) إنها الفطرة التي تنادي للتوحيد من جوانح النفس.

     ولكل إنسان تجربته الخاصة في حال الشدة وحدوثها، حينما يجد نداء الفطرة يدعوه للاستغاثة، حيث لا مجيب حينئذ إلا رب السموات والأرض.

قال تعالى: ﴿أَمَّن يُجيبُ المُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفاءَ الأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ﴾ [النمل: ٦٢]. صدق الله العظيم .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وعصمني وإياكم من الشيطان الرجيم!

  أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

                     الخطبة الثانية

الحمدلله رب العالمين...

    أمابعد: فهناك أمر (ثالث) لابد من ذكره هنا، ونحن نتحدث عن الفطرة الكامنة في جوانحنا، إنه (الشعور بالعجز الذاتي)، والحاجة إلى قوة مدبرة يستند إليها الإنسان، فكل إنسان يشعر في قرارة نفسه بافتقاره وحاجته إلى إله قادر مدبر، يرفع إليه حاجاته، ويسند إليه أموره، وهذا الشعور ناشئ عن النقص والعجز الذاتي في أنفسنا، هو من نداءات الفطرة المكنونة في النفس، التي تلقي لصاحبها بهذا الشعور الذي لا يستطيع دفعه عن نفسه، خاصة في مواطن الضعف البشري في محطات الحياة المختلفة، فكم حاجة الإنسان الناقص  إلى ربه الكامل، وافتقاره إلى معونته، وتأييده في دروب الحياة المظلمة. وصدق الله القائل: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ أَنتُمُ الفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَميدُ﴾ [فاطر: ١٥].

   أيها المسلمون، نداء الفطرة بالإيمان بالله -تعالى- أظهر من أن نتحدث عنه، وإن الإنسان ليدركه من نفسه، وقد تحدث عن هذا الدليل مفكرو العالم بالمشرق والمغرب في القرون المختلفة، اعترافا وتقريرا ، حتى إن أكبر علماء الذرة وهو آنيشتاين، صاحب أقوى نظرية وهي (نظرية النسبية)، يقول : " كل إنسان لا يرى قوة هي أقوى ما تكون، عليمة هي أعلم ما تكون، حكيمة هي أحكم ما تكون، هو إنسان حي ولكنه ميت". يعني كل إنسان لا يرى قوة الله في الكون المسيطرة على كل شيء، وعلمه المحيط بكل شيء، وحكمته البالغة في كل شيء، هو إنسان كالميت لا يدرك، ولا يحس، ولا يرى، وإن كان معدودا في الأحياء.

     ولا ننس أيها الأحبة، أن الناس رغم ما فطرهم الله عليه من الإيمان بكونه خالقا وحيدا مدبرا، إلا أن الفطرة قابلة للتغير و الانحراف بفعل مؤثرات خارجية، وهذا الانحراف كان هو السبب في وجود الوثنيات والشرك في الأمم السابقة، وهو أيضا سبب الشرك و الضلال في زمننا الحاضر . 

   ولعل أبرز المؤثرات :

أولا: الشياطين، وهي المؤثر الخارجي الأصلى والأول في هذا الأمر، كما يتضح ذلك من خلال الحديث القدسي القائل: (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا). رواه مسلم (2865).

ثانيا: البيئة والنشأة، سواء كان من الأسرة أو المجتمع والبيئة حوله، وهو من أقوى مؤثرات الطمس للفطرة، كما سبق في الحديث المتفق عليه: ( فأبواه يهودانه أو ينصــرانه أو يمجسانه). 

ثالثا: الغفلـة ، وقد ذكر الله -سبحانه- هذا المؤثر في سورة الأعراف حين قال : ﴿... أَن تَقولوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَن هذا غافِلينَ﴾ [الأعراف: ١٧٢].

ولا شك أن هناك عوامل أخرى مؤثرة كالإعلام ووسائله، وكالدراسة وأساليبها وما يدرس فيها، ولكن هذه تعود في الجملة إلى ما ذكرنا.

   نسأل الله العظيم أن يديم علينا نعمة الإيمان، وأن يثبتنا على دين الإسلام!

﴿رَبَّنا لا تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَنا وَهَب لَنا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهّابُ﴾ [آل عمران: ٨].

وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى ... والحمد لله رب العالمين.

المشاهدات 271 | التعليقات 0