خطبة : (ناقدون أم ناقمون ؟!)
عبدالله البصري
1436/10/28 - 2015/08/13 20:21PM
ناقدون أم ناقمون ؟! 29 / 10 / 1436
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قُوَّةُ الأُمَّةِ وَمَضَاءُ عَزِيمَتِهَا ، في تَآخِي أَبنَائِهَا وَاتِّحَادِ كَلِمَتِهِم ، وَاجتِمَاعِ رَأيِهِم وَانتِظَامِ شَملِهِم ، وَاتِّجَاهِهِم نَحوَ غَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَصدِهِم هَدَفًا مُشتَرَكًا ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِأُمَّةٍ خَيرًا أَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم ، وَمَلأَ صُدُورَهُم شَفَقَةً عَلَى بَعضِهِم وَرِقَّةً ، وَرَزَقَهُم رَأفَةً وَرِفقًا ، وَجَعَلَهُم أَشِدَّاءَ عَلَى عَدُوِّهِم رُحَمَاءَ بَينَهُم ، وَإِذَا أَرَادَ بهم غَيرَ ذَلِكَ ، جَعَلَهُم مُختَلِفِينَ مُتَنَازِعِينَ ، مُتَعَارِضَةً أَهوَاؤُهُم مُتَشَعِّبَةً آرَاؤُهُم ، تَحسَبُهُم جَمِيعًا وَقُلُوبُهُم شَتَّى ، وَحِينَ يَكُونُ ذَلِكَ ، فَاعلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ قَد سُلِبَت عُقُولَهَا ، وَدَبَّ الفَشَلُ في صُفُوفِهَا ، وَعَادَت قُطعَانًا هَائِمَةً لا هَيبَةَ لها ، تَحتَوِشُهَا الذِّئَابُ ، وَتَتَنَاوَشُهَا الكِلابُ ، حتى يَتَمَزَّقَ شَملُهَا وَتَتَبَاعَدَ أَجسَادُهَا وَ" إِنَّمَا يَأكُلُ الذِّئبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَةَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مُنذُ أَكثَرَ مِن عِقدَينِ مِنَ الزَّمَانِ ، وَعَلَى مَدَى مَا يُقَارِبُ رُبعَ قَرنٍ ، وَالأُمَّةُ الإِسلامِيَّةُ تُعَاني مَزِيدًا مِنَ التَّفَرُّقِ وَتَبَاعُدِ القُلُوبِ ، فَلا حَاكِمَ يَعطِفُ عَلَى مَحكُومٍ ، وَلا مَحكُومَ يَخضَعُ لِحَاكِمٍ ، وَلا عَالِمَ كَبِيرًا يَنزِلُ إِلى مُستَوَى مُتَعَلِّمٍ فَيُفَقِّهَهُ ، وَيُزِيلَ الغِشَاوَةَ عَن بَصِيرَتِهِ ، وَلا صَغِيرَ يَأخُذُ بِرَأيِ عَاقِلٍ كَبِيرٍ ، فَيَستَنِيرَ بِهِ في دُرُوبِ حَيَاتِهِ وَيَزِنَ بِهِ تَصَرُّفَاتِهِ ، وَهُنَا مَن يَزعُمُ أَنَّهُ وَحدَهُ الَّذِي عَلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ ، وَهُنَاكَ مَن يُبَدِّعُهُ وَيُفَسِّقُهُ وَيُهَوِّنُ مِن شَأنِهِ ، وَذَا يَدَّعِي أَنَّ الحَلَّ هُوَ قَتلُ ذَاكَ ، أَو سَجنُهُ أَو إِخرَاجُهُ مِن بَلَدِهِ ، أَو إِسكَاتُهُ بِإِلجَامِ فَمِهِ أَو كَسرِ قَلَمِهِ ، وَذَاكَ يُكَفِّرُهُ وَيَرَى أَنَّهُ حَالَ بَينَهُ وَبَينَ مَشرُوعِهِ الإِصلاحِيِّ ، أَو سَدَّ في وَجهِهِ الطَّرِيقَ دُونَ جِهَادِ الأَعدَاءِ ، وَلم يُمَكِّنْهُ مِنَ العَمَلِ فِيمَا يُعِزُّ شَأنَ الأُمَّةِ .
وَلَو أَنَّ كُلاًّ عَبَدَ رَبَّهُ بما يَجِبُ عَلَيهِ في سَاعَتِهِ ، وَاشتَغَلَ بما يُصلِحُ شَأنَهُ في لَحظَتِهِ ، وَتُرِكَت شُؤُونُ الأُمَّةِ العُظمَى وَقَضَايَاهَا الكُبرَى لِلكِبَارِ مِن أُولي الأَمرِ مِن وُلاةٍ وَعُلَمَاءَ ، وَتُخُلِّيَ عَنهَا لأَهلِ الحَلِّ وَالعَقدِ مِن مَسؤُولِينَ وَوُجَهَاءَ ، وَاشتَغَلَ كُلُّ صَغِيرٍ بِبِنَاءِ نَفسِهِ وَإِكمَالِ شَخصِيَّتِهِ عِلمِيًّا وَفِكرِيًّا ، وَأُتِيَتِ البُيُوتُ مِن أَبوَابِهَا ، لَحَصَلَ بِذَلِكَ لِلأُمَّةِ تَقَدُّمٌ وَصُعُودٌ ، وَلَنَجَت ممَّا هِيَ فِيهِ الآنَ مِن تَأَخُّرٍ وَهُبُوطٍ .
وَإِنَّ ثَمَّةَ شَرِيحَتَينِ في المُجتَمَعِ ، كَانَ في أَوسَاطِهِمَا رَوَاجٌ كَبِيرٌ لِمُخَطَّطَاتِ الأَعدَاءِ ، بَل وَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنهُم نَفسَهُ – بِقَصدٍ وَبِغَيرِ قَصدٍ - مَطِيَّةً لِتَنفِيذِ تِلكَ المُخَطَّطَاتِ ، وَسُلَّمًا يَرتَقِيهِ الأَعدَاءُ لِلإِيقَاعِ بِالأُمَّةِ ، ظَانِّينَ أَنَّهُم عَلَى شَيءٍ وَمَا هُم بِشَيءٍ ، ذَانِكُم هُم حُدَثَاءُ الأَسنَانِ مِنَ الشَّبَابِ المُتَحَمِّسِينَ ، وَسُفَهَاءُ العُقُولِ وَمُلَوَّثُو الأَفكَارِ مِن رِجَالِ الصَّحَافَةِ وَأَقزَامِ الإِعلامِ .
أَمَّا الشَّبَابُ الأَغرَارُ فَإِنَّهُم وَقَعُوا في فِخَاخِ مَن دَغدَغُوا مُرهَفَ إِحسَاسِهِم ، وَاستَحَثُّوا جَائِشَ شُعُورِهِم ، وَأَوهَمُوهُم أَنَّهُم سَيَأخُذُونَ بهم لأَقصَرِ طَرِيقٍ لِلجَنَّةِ ، أَو سَيَهدُونَهُم أَقوَمَ سَبِيلٍ لِنَصرِ الأُمَّةِ ، وَأَمَّا رِجَالُ الإِعلامِ وَكُتَّابُ الصَّحَافَةِ ، فَتَعَاظَمُوا في أَنفُسِهِم وَتَكَبَّرُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُم حَامِلُو لِوَاءِ الإِصلاحِ وَقَادَةُ التَّغيِيرِ الشَّامِلِ ، فَحَشَرُوا أُنُوفَهُم في كُلِّ شَأنٍ صَغُرَ أَو كَبُرَ ، وَجَعَلُوا يَنتَقِدُونَ مُجتَمَعَاتِهِم ، وَيَتَنَاوَلُونَ مَبَادِئَهَا ، وَيُحَطِّمُونَ قِيَمَهَا ، وَيُسقِطُونَ رُمُوزَهَا ، لا يُقَدِّرُونَ كَبِيرًا ، وَلا يُبَجِّلُونَ عَظِيمًا ، يَتَحَدَّثُونَ في كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ وَكَأَنَّمَا هُم أَهلُ اختِصَاصٍ بها وَعِلمٍ بِدَقَائِقِ تَفَاصِيلِهَا ، لم يَترُكُوا صَغِيرًا حَتى نَفَخُوا فِيهِ وَكَبَّرُوهُ ، وَلا حَقِيرًا إِلاَّ شَغَلُوا النَّاسَ بِهِ وَلَمَّعُوهُ ، وَلم يَزَلْ بهم الكِبرُ وَالإِعجَابُ بِالنُّفُوسِ وَالذَّوَاتِ ، حَتى تَجَاوَزُوا كُلَّ مُقَدَّرٍ لِلأُمَّةِ ، فَأَوغَلُوا في النِّقَاشِ ، وَأَكثَرُوا الأَخذَ وَالرَّدَّ ، وَبَالَغُوا في الثَّرثَرَةِ وَقَصَدُوا الإِثَارَةَ ، حتى وَصَلَت بهم الجُرأَةُ عَلَى الدِّينِ ، إِلى أَن تَنَاوَلُوا قَضَايَا العَقَائِدِ ، وَتَجَاسَرُوا عَلَى دَقِيقَ المَقَاصِدِ ، الَّتي يَتَقَاصَرُ عَنِ الحَدِيثِ فِيهَا كِبَارُ أَهلِ العِلمِ ، حتى يَجتَمِعُوا فَيُنَاقِشُوهَا وَيُجمِعُوا فِيهَا عَلَى رَأيٍ ، فَيَا للهِ مِن سَفِيهٍ جَاهِلٍ ، لا يَحمِلُ عِلمًا في دُنيَا ، وَلا فِقهًا في دِينٍ ، وَلا فَهمًا لِوَاقِعٍ ، وَإِنَّمَا رَأسُ مَالِهِ قَلَمٌ في جَرِيدَةٍ أَو لاقِطٌ في قَنَاةٍ ، أَرَيَاهُ مِن نَفسِهِ إِنسَانًا آخَرَ ، فَحَشَرَ أَنَفَهُ فِيمَا لا يُحسِنُ ، وَجَعَلَ يُطلِقُ أَحكَامًا وَيُلصِقُ تُهَمًا ، وَلا يَألُو أَن يَفتَعِلَ مُشكِلاتٍ وَيَضَعَ لها حُلُولاً ، وَيَدعُوَ مَن يَشَاءُ لِدَعمِ رَأيِهِ ، وَيَمدَحَ مَن يَتَشَرَّبُ غُثَاءَهُ ، وَيَذُمَّ مَن يَقِفُ بِالحَقِّ في طَرِيقِهِ ، وَظَنَّ بِذَلِك أَنَّهُ قَد جَاءَ بما لم تَستَطِعْهُ الأَوَائِلُ ، وَمَا دَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا استُغفِلَ وَاستُغِلَّ كَمَا استُغفِلَ غَيرُهُ وَاستُغِلَّ ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ صِغَارُ الشَّبَابِ وَحُدَثَاءُ الأَسنَانِ قَد رَكِبَهُمُ الأَعدَاءُ وَدَخَلُوا عَلَيهِم مِن بَابِ الغُلُوِّ في الدِّينِ وَالتَّكفِيرِ وَالتَّفجِيرِ وَإِفسَادِ المُقَدَّرَاتِ ، وَنَزفِ دِمَاءِ المُسلِمِينَ وَإِزهَاقِ أَروَاحِ المُؤمِنِينَ ، وَقَتلِ الأَبرِيَاءِ وَالغَدرِ بِالمُستَأمَنِينَ ، فَقَد رَكِبُوا هَذَا الصَّحَفِيَّ المُغَفَّلَ وَدَخَلُوا عَلَيهِ مِن بَابِ الجَفَاءِ وَالإِرجَاءِ ، وَأَرَادُوا لَهُ أَن يَكُونَ آلَةً لِتَفكِيكِ مُجتَمَعِهِ ، وَخَلخَلَةِ صَفِّهِ وَإِضعَافِ تَدَيُّنِهِ ، وَجَعلِهِ في نِهَايَةِ الأَمرِ صُورَةً بَاهِتَةً عَن مُجتَمَعَاتِ الإِلحَادِ وَالكُفرِ وَالضَّلالِ .
وَإِنَّ القَارِئَ لِبَعضِ صُحُفِنَا ، أَوِ المُشَاهِدُ لِقَنَوَاتٍ تُنسَبُ إِلَينَا ، لَيَعجَبُ أَن يَجِدَ فِيهَا عَرَبيَّ الوَجهِ وَاللِّسَانِ ، مُسلِمَ الاسمِ وَالهُوِيَّةِ ، ثم هُوَ يُنَادِي بِإِغلاقِ حَلَقَاتِ التَّحفِيظِ ، أَو مَنعِ مَنَاشِطِ الدَّعوَةِ ، أَو تَجفِيفِ مَنَابِعِ البِرِّ وَالإِغَاثَةِ ، أَو إِيقَافِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، أَو خَفضِ لِوَاءِ الجِهَادِ وَقَمعِ المُجَاهِدِينَ ؛ لأَنَّ هَذِهِ البِيئَاتِ في نَظَرِهِ هِيَ الَّتي فَرَّخَتِ الإِرهَابِيِّينَ ، وَوَلَدَتِ التَّكفِيرِيَّينَ ، وَفي أَحضَانِهَا نَشَأَ الغُلاةُ وَمِن مَنَاهِلِهَا استَقَى المُتَشَدِّدُونَ ، وَيَتَغَافَلُ هَذَا الجَاهِلُ أَو يَتَجَاهَلُ أَنَّ أُولَئِكَ التَّكفِيرِيَّينَ وَالمُتَشَدِّدِينَ ، خَرَجُوا في بُلدَانٍ لم تَعرِفْ مَسَاجِدُهَا حَلَقَاتِ التَّحفِيظِ ، وَلم تَدعَمْ حُكُومَاتُهَا أَهلَ القُرآنِ ، وَلم تَرعَ دُعَاةً وَلا مُجَاهِدِينَ يَومًا مَا ، وَلم تُسَاهِمْ في إِغاثَةِ مُسلِمِينَ وَلا دَعوَةٍ إِلى دِينٍ ، بَل كَانَت تُحَارِبُ القُرآنَ أَشَدَّ الحَربِ ، وَتُضَيِّقُ عَلَى المُصَلِّينَ أَشَدَّ التَّضيِيقِ ، وَلَيسَ فِيهَا مَكَاتِبُ دَعوَةٍ وَلا جَمعِيَّاتٌ خَيرِيَّةٌ ، وَلا هَيئَاتُ أَمرٍ بِمَعرُوفٍ وَلا نَهيٍ عَن مُنكَرٍ ، بَل كَانَت بِيئَاتٍ مَفتُوحَةَ المَصَادِرِ وَالمَوَارِدِ ، سَلَكَت مَسَالِكَ الحُرِّيَّةِ البَهِيمِيَّةِ ، وَفَتَحَت دُورَ الفَنِّ وَسَرَادِيبَ العَفَنِ ، حَتى غَدَت وَكَأَنَّهَا بِلا إِسلامٍ ، فَلِمَ خَرَجَ فِيهَا التَّكفِيرِيُّونَ إِذًا ؟!
بَل لِمَ خَرَجَتِ الجُمُوعُ فِيهَا عَلَى حُكُومَاتِهَا وَلم تَمتَثِلْ أَوَامِرَهَا ؟!
وَعَلامَ قَامُوا يَقتَتِلُونَ وَيَحتَرِبُونَ ؟!
في حِينِ مَا زَالَ أَهلُ هَذَا البَلَدِ عُلَمَاءَ وَعَامَّةً وَكِبَارًا وَصِغَارًا ، يَقِفُونَ مَعَ وُلاةِ أَمرِهِم وَرِجَالِ أَمنِهِم صَفًّا وَاحِدًا ، مُنطَلِقِينَ ممَّا تَعَلَّمُوهُ في حَلَقَاتِ العِلمِ وَالتَّحفِيظِ ، مُطَبِّقِينَ مَا أَخَذُوهُ عَن عُلَمَائِهِم وَقُرَّائِهِم ، وَمَا تَرَبَّوا عَلَيهِ في مُقَرَّرَاتِهِمُ التَّعلِيمِيَّةِ ، مِن تَقدِيمِ دَرءِ المَفَاسِدِ عَلَى جَلبِ المَصَالِحِ ، وَتَفوِيتِ أَدنى المَصلَحَتَينِ لِتَحصِيلِ أَعلاهُمَا ، وَاحتِمَالِ أَخَفِّ الضَّرَرَينِ لِدَفعِ أَعلاهُمَا ، يُحَذِّرُونَ مِنَ التَّكفِيرِ وَالتَّفجِيرِ ، وَيُجَابِهُونَ الغُلُوَّ في الدِّينِ ، وَيَدعُونَ لِلوَسَطِيَّةِ ، دِينًا يَدِينُونَ اللهَ بِهِ ، وَحِكمَةً يُقَيِّدُونَ بها عُقُولَهُم .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، هَل سَمِعتُم بِمَن يُطَالِبُ بِإِغلاقِ كُلِّيَّاتِ الطِّبِّ وَالمُستَشفَيَاتِ لأَنَّ طَبِيبًا أَخطَأَ ؟!
هَل قَالَ أَحَدٌ بِإِلغَاءِ كُلِّيَّاتِ التَّربِيَةِ وَهَدمِ المَدَارِسِ لأَنَّ مُعَلِّمًا قَصَّرَ ؟!
هَل دَعَا عَاقِلٌ لإِيقَافِ السَّيَّارَاتِ لِوَفرَةِ حَوَادِثِهَا وَكَثرَةِ مَن تُزهَقُ أَرَوَاحُهُم بِسَبَبِهَا ؟!
وَاللهِ لَو قَالَ أَحَدٌ بِهَذَا لَرَمَاهُ النَّاسُ بِالجُنُونِ ، وَلاتَّهَمُوهُ في عَقلِهِ وَسَفَّهُوا رَأيَهُ ، أَلا فَمَا بَالُ أُولَئِكَ الصَّحَفِيِّينَ المُتَحَذلِقِينَ وَمَن لَفَّ لَفَّهُم مِن أَصحَابِ المَجَالِسِ ، لا يُصَدِّقُونَ أَن يُفَجِّرَ غِرٌّ جَاهِلٌ ، أَو يَأتيَ مُنكَرًا مِنَ الأَمرِ لا يَرضَاهُ مُسلِمٌ عَاقِلٌ ، فَضلاً عَن عَالِمٍ عَامِلٍ أَو دَاعِيَةٍ صَادِقٍ ، حَتى يُسَارِعُوا إِلى نِسبَةِ ذَلِكَ لِحَلَقَاتِ التَّحفِيظِ أَو مَكَاتِبِ الدَّعوَةِ أَو بَرَامِجِ التَّوعِيَةِ ، أَو يُحَمِّلُوهُ الدُّعَاةَ العَامِلِينَ وَالعُلَمَاءَ المُجَاهِدِينَ ، أَوِ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ؟! إِنَّ العَاقِلَ لا يُسَارِعُ في إِطلاقِ الأَحكَامِ جُزَافًا دُونَ رَوِيَّةٍ وَتَأَمُّلٍ ، وَلا يُبَادِرُ في إِعلانِ النَّتَائِجِ بِلا بَحثٍ أَو دِرَاسَةٍ ، وَحَتى وَإِنْ هُوَ وَجَدَ أَنَّ في هَذِهِ البِيئَةِ أَو تِلكَ المُؤَسَّسَةِ فَسَادًا أَو مَيلاً ، فَإِنَّهُ لا يَقُولُ بِهَدمِ بِنَاءٍ قَد أُعلِيَ ، أَو اقتِلاعِ صَرحٍ قَد شُيِّدَ ، وَلَكِنَّهُ يَسعَى لِلإِصلاحِ وَالاستِصلاحِ وَالتَّعدِيلِ ، وَيَبحَثُ عَنِ الدَّوَاءِ وَيُشِيرُ إِلى العِلاجِ ، وَيُرِي مِن نَفسِهِ الشَّفَقَةَ وَالرَّحمَةَ ، وَأَمَّا مُعَالَجَةُ الغُلُوِّ في طَرَفٍ بِغُلُوٍّ في الطَّرَفِ المُقَابِلِ ، وَمُوَاجَهَةُ التَّشَدُّدِ بِالتَّسَاهُلِ ، وَمُحَارَبَةُ فِتنَةِ التَّكفِيرِ بِفِتنَةِ الإِرجَاءِ ، وَأَخذُ البُرَآءِ بِأَوزَارِ الجُهَلاءِ ، فَهَذِهِ لا تُنبِئُ عَن صَلاحِ نِيَّةٍ أَو حُسنِ قَصدٍ أَو إِرَادَةِ خَيرٍ ، بِقَدرِ مَا تُظهِرُ لَكَ أَنَّكَ أَمَامَ شِرذِمَةٍ حَاقِدِينَ ، لا يَعرِفُونَ لأُخُوَّةِ الإِسلامِ مَعنًى ، وَلا يَلتَزِمُونَ بِمُقَتَضَيَاتِ المَحَبَّةِ وَالوَلايَةِ ، مِنَ التَّنَاصُحِ وَالتَّوَاصِي بِالحَقِّ ، وَالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَالتَّبيِينِ وَعَدَمِ الكِتمَانِ ، وَلَكِنَّهُم يَسعَونَ لِتَصفِيَةِ حِسَابَاتٍ وَإِظهَارِ حَاجَاتٍ في النُّفُوسِ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَحذَرْ مِن كُلِّ مُتَطَرِّفٍ ذَاتَ اليَمِينِ أَو ذَاتَ الشِّمَالِ ، وَلْنَعلَمْ أَنَّ ممَّا يُوقِدُ نَارَ أُولَئِكَ التَّكفِيرِيِّينَ وَيُشَجِّعُهُم عَلَى المُضِيِّ في خَطَئِهِم وَالإِصرَارِ عَلَى عِنَادِهِم ، هَذِهِ الاستِفزَازَاتِ مِن أَنصَافِ المُتَعَلِّمِينَ ، وَالتَّجَاوُزَاتِ مِن جَهَلَةِ الصَّحَفِيِّينَ ، ممَّن تَجَرَّؤُوا وَتَجَاسَرُوا حتى زَعَمَ بَعضُهُم أَنَّ مُشكِلاتِنَا مِن أَصحَابِ اللِّحَى ، وَأَن لا عِلاجَ إِلاَّ أَن يَكُونَ المُجتَمَعُ علمَانِيًّا ، لا يَحكُمُهُ الدِّينُ في سِيَاسَةٍ وَلا اقتِصَادٍ وَلا اجتِمَاعٍ وَلا غَيرِ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ ، يَأبى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ، وَيَأبى المُؤمِنُونَ إِلاَّ أَن يَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِم وَمَصدَرِ عِزَّتِهِم وَسَبِيلِ كَرَامَتِهِم ، سَالِكِينَ سَبِيلَ الوَسَطِ ، بِلا غُلُوٍّ وَلا شَطَطٍ ، مُتَمَسِّكِينَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، عَلَى فَهمِ السَّلَفِ وَالرَّاسِخِينَ مِن أَهلِ العِلمِ " وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ "
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " وَالعَصرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَتُوبُوا إِلَيهِ وَاستَغفِرُوهُ ، ثم اعلَمُوا أَنَّهُ لَيسَ مِنَ الدِّينِ وَلا العَقلِ وَلا الرَّشَادِ في شَيءٍ ، أَن يَقُودَ المُجتَمَعَ جَهَلَةٌ مُتَعَالِمُونَ ، يَنظُرُونَ بِنَظرَةٍ عَورَاءَ ، وَيُطلِقُونَ أَحكَامًا هَوجَاءَ ، غَيرَ مُنطَلِقِينَ مِن عِلمٍ وَلا فَهمٍ وَلا حِكمَةٍ ، وَإِنَّمَا كُلُّ حَدِيثِهِم وَنِقَاشِهِم ، رُدُودُ أَفعَالٍ غَيرُ مُنضَبِطَةٍ وَلا مَوزُونَةٍ بِمَوَازِينِ الشَّرعِ ، يَتَصَيَّدُونَ في المَاءِ العَكِرِ ، وَيَقصِدُونَ إِلى تَصفِيَةِ حَسَابَاتِهِم مَعَ مَن لا يُوَافِقُونَهُم في جَهلِهِم وَتَجَاوُزَاتِهِم .
وَإِنَّهُ حِينَمَا يَأتي مُتَعَالِمٌ فَيَزعُمُ أَنَّهُ حَرِيصٌ عَلَى حِفظِ نُفُوسِ النَّاسِ وَحَقنِ دِمَائِهِم ، ثم لا يَلتَفِتُ قَبلَ ذَلِكَ إِلى حِفظِ مَا هُوَ أَهَمُّ وَأَعلَى وَهُوَ دِينُهُم وَعَقِيدَتُهُم وَكِتَابُ رَبَهِم وَسُنَّةُ نَبِيِّهِم ، وَلا يَهتَمُّ بَعدُ بِحِفظِ عُقُولِهِم وَلا أَعرَاضِهِم وَلا أَموَالِهِم ؛ فَلْنَعلَمْ أَنَّ لَدَيهِ خَللاً في مَنهَجِهِ أَو خَطَلاً في عَقلِهِ ، إِذْ لا بُدَّ لِكُلِّ مُصلِحٍ صَادِقٍ إِذَا أَرَادَ إِصلاحَ مُجتَمَعٍ أَو أُمَّةٍ ، أَن يَحفَظَ لهم ضَرُورَاتٍ خَمسًا ، دَينَهُم وَأَنفُسَهُم وَعُقُولَهُم ، وَأَموَالَهُم وَأَعرَاضَهُم ، فَإِنْ هُوَ أَخَلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنهَا ، فَهُوَ إِمَّا جَاهِلٌ مُغَفَّلٌ ، وَإِمَّا سَيِّئُ القَصدِ مَدخُولُ النِّيَّةِ .
إِنَّنَا جَمِيعًا لا نَرضَى بِإِزهَاقِ نَفسٍ دُونَ سَبَبٍ شَرعِيٍّ ، لَكِنَّنَا لا نَرضَى أَن تَكُونَ الأَعرَاضُ نَهبًا لِكُلِّ سَاقِطٍ ، وَلا وُجُوهُ المُسلِمَاتِ مُنَتَجَعًا لِكُلِّ عَينٍ زَائِغَةٍ ، وَنَعلَمُ أَنَّهُ لَيسَ مِن سُبُلِ المُصلِحِينَ وَلا طُرُقِ مُرِيدِي الخَيرِ لِمُجتَمَعِهِم ، أَن يَجعَلُوا أَخطَاءً فَردِيَّةً لِشَبَابٍ أَغرَارٍ فُرصَةً لِلهُجُومِ عَلَى الدِّينِ وَالتَّنَدُّرِ بِالمُتَدَيِّنِينَ ، أَو إِعلانِ الحَربِ عَلَى جَمعِيَّاتِ البِرِّ أَو التَّحفِيظِ أَو مَكَاتِبِ الدَّعوَةِ ، أَوِ اتِّهَامِ مَنَاشِطِ البِرِّ وَالخَيرِ وَالتَّوعِيَةِ أَنَّى كَانَت ، ثم يَمدَحُوا في المُقَابِلِ تَصَرُّفَاتٍ فَردِيَّةً مِن فَاسِدِينَ أَو فَاسِدَاتِ ، أَو مُتَسَاهِلِينَ أَو مُتَسَاهِلاتٍ ، وَيَنفُخُوا فِيهَا إِعلامِيًّا وَيُضَخِّمُوهَا بِخِدَعِ التَّصوِيرِ ، لِيُوهِمُوا العَالَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ مُجتَمَعُنَا ، أَو أَنَّ تِلكَ هِيَ حَالُ نِسَائِنَا ، أَو أَنَّ هَذِهِ هِيَ مَطَالِبُ عَامَّتِنَا ، أَو رَغبَةُ مُثَقَّفِينَا ...
فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْنَعدِلْ ، فَكَمَا أَنَّ نُفُوسَ النَّاسِ مُقَدَّرَةٌ ، فَإِنَّ أَديَانَهُم وَعُقُولَهُم مَحفُوظَةٌ ، وَأَموَالَهُم غَالِيَةٌ ثَمِينَةٌ ، وَأَعرَاضَهُم أَسوَارٌ مَنِيعَةٌ ، لا يَرضَونَ لأَحَدٍ أَن يَتَجَاوَزَهَا أَو يَعبَثَ بها .
المرفقات
ناقدون أم ناقمون.doc
ناقدون أم ناقمون.doc
ناقدون أم ناقمون.pdf
ناقدون أم ناقمون.pdf
المشاهدات 2648 | التعليقات 2
جزك الله خير الجزاء
محمد عبد الرحمن اليحيا
احسنت وجزاك الله خيرا
كتب الله أجرك ونفع بعلمك وبارك فيما كتبت من معالجة وتشخيص للواقع
تعديل التعليق