خطبة موافقة للتعميم - فضل الصدقة
عبدالرحمن السحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا. أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله حقَّ تقوَاه، وسَارِعوا دائمًا إلى مَغفرتِه ورِضاه، فقَد فَاز وسَعدَ من أقبَلَ على مولاَه، وخَابَ وخسِر مَن اتَّبَعَ هَواه وأعرَض عَن أُخراه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
عباد الله: قصة حكاها الصادق المصدوق -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ (وهي مسايل الماء في الحرار) قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ -لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ- فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ؛ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-).
فانظروا يا كرام إلى ما اختص الله به صاحب هذه المزرعة ببركة صدقته وإنفاقه إذ الصدق سبب من أسباب الرزق الدنيوي والأخروي، قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُم مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ:39].
وفي الحديث دلالة على فضل النفقة على الأهل والعيال، وهي من أفضل الأعمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد: "وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيّ امْرَأَتِكَ"(رواه البخاري ومسلم).
وقوله: "تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ" تنبيه للمسلم بالخروج من أسر العادة في إنفاقه، إلى نية احتساب الثواب على النفقة على الأهل، فاستحضر النية عند شرائك لحاجات أهلك.
ولقد حث الله سبحانه، ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الصدقة في كل آن، وعدت الصدقة مطفئة لغضب الرب، وهي من أعظم أسباب الوقاية من النار حتى ولو كانت باليسير من الطعام والشراب مما قد يحقتره بعض الناس ففي الحديث الصحيح (اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة) ويضاعف الله -سبحانه- الصدقة إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء، قال عز من قال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وقال سبحانه(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ [مهره وهو الصغير من الخيل والفصيل ولد الناقة إذا فصل من رضاع أمه] حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ"(متفق عليه).
وضرب رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمثل بالفَلُوِّ َوالفَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ يزِيدُ زِيَادَةً بَيِّنَة؛ فَكَذَلِك الصَّدَقَة نتاج الْعَمَل، فَإِذا كَانَت من حَلَال لَا يزَال نظر الله إِلَيْهَا حَتَّى تَنْتَهِي بالتضعيف إِلَى أَن تصير التمرة كالجبل. وهذا جزء مما يظفر به المتصدق في الآخرة مع ما يناله في الدنيا من انشراح الصدر وأنس العيش والبركة في الرزق وفِي الحَدِيث القُدْسِيِّ: (يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ). وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ.."
فالصدقات لا تنقص الأموال كما يتوهمه الإنسان، وكما يعد به الشيطان، بل هي تزيد المال وتباركه، وتدفع عنه الآفات وتنميه، وتفتح للمتصدق من الرضا وأبواب الرزق وأسباب الزيادة أموراً ما تُفْتَحُ على غيره، مع ما فِي الثَّوَابِ الجزيل الْمُرَتِّبِ عَلَى الصدقة من جَبْرٍ لِنَقْص المال الظاهر.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي ﷺ: ما بقي منها؟، قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلُّها غير كتفها) رواه الترمذي. فلن يبقى لك يا عبدالله إلا ما قربته لله.
وما أسعد المتصدق بدعاء الملكين فعَن أَبُي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمَ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وهَذَا الحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَصْلٌ فِي الصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ، وَأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ المُؤْمِنُ كُلَّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ، حتى لو كان شيئا يسيرا كَمَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ اللهِ؛ إِذْ سَخَّرَ مَلَكَيْنِ يَنْزِلاَنِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ لِلْمُنْفِقِينَ، وَالدُّعَاءِ عَلَى المُمْسِكِينَ لما وجب عليهم من زكاة أو نفقة واجبة.
وَاللهُ تَعَالَى يُخْلِفُ عَلَى المنفق بالخير والأجر المضاعف والمغفرة للذنب ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾، ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأتباعه إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ حَيَاتِكُمْ لِمَوْتِكُمْ، وَمِنْ صِحَّتِكُمْ لِسَقَمِكُمْ، واستغلوا مواسم الخيرات بما يقربكم إلى مولاكم، وَأَطْفِئُوا بِالصَّدَقَةِ غَضَبَ رَبِّكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ يَسْتَقْرِضُكُمْ مَا أَعْطَاكُمْ؛ لِيُضَاعِفَهُ لَكُمْ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ، (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
عباد الله: تصدقوا من وجدكم، ولا يقولن أحدكم إن القليل لا يفيد، بل إن القليل إلى القليل يصبح كثيراً بتوفيق الله -تعالى- ومع صدق النية يبارك الله فيه، أما قبوله فهو إلى الواحد الأحد، الجواد الكريم يجزي على القليل وينميه وربما سبق القليلُ الكثيرَ، وفي الحديث"سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ"
واعلموا عِبَادَ اللهِ:بأن النَّفَقَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الخَلَف فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ،: هِيَ النَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ وَالمُسْتَحَبَّةُ، فَالنَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ هِيَ زكاة المال وهي من أول ما تنصرف إليه النصوص الشرعية وكذا النَّفَقَةُ عَلَى من تلزم المرء نفقتهم من زَّوْجَةِ وَأَوْلاَدِ، وكذا الوالدين عند حاجتهم . أما النَّفَقَةُ المُسْتَحَبَّةُ فهي كبِرِّ الوَالِدَيْنِ بِمزيد العَطَاءِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ بِالمَالِ وَالهَدَايَا؛ إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وكَذا الصَّدَقَةِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَكَفَالَةِ الأَيْتَامِ، وَالسَّعْيِ عَلَى الأَرَامِلِ والمحتاجين، وتفطير الصائمين مع عدم الإسراف، والبذل في سبل العلم والدعوة وَسَائِرِ الإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ. وينبغي أن يُراعى في هذا المقام ما كان أشد حاجة وفاقة؛ كقضاء دين المسجونين، ولم شملهم مع أهليهم، وهذا متيسر على من يسره الله عليه، ومن صور التيسير منصة إحسان وفرجت وغيرها من المنصات والوسائل المعتمدة التي يستطيع المرء من خلالها بذل صدقته في ثوانٍ معدودة فاتقوا الله عباد الله ولنُعَوِّدَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْبَذْلِ والجود وَالسَّخَاءِ؛ لِيُرَبِّيَ اللَّهُ -تَعَالَى- لَنَا مَا بَذَلْنَا فَنَجِدَهُ عَظِيمًا مُدَّخَرًا لَنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ؛ وفي السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: (رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ).
وإنه سيحل بكم بإذن الله بعد أيام شهر رمضان المبارك –بلغنا الله جميعًا إياه- فأحسنوا ضيافته بالتوبة النصوح، وإصلاح القلوب، والبعد عن الذنوب، واعزموا عزمًا صادقًا على استغلاله فيما يقربكم إلى مولاكم، ويُثقل ميزانكم من صيام وقيام وصلة وإحسان.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،
اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1678964109_خطبة موافقة للتعميم- فضل الصدقة doc.docx
1678978018_خطبة موافقة للتعميم- فضل الصدقة doc.pdf