خطبة موافقة للتعميم-خلق الرحمة والوقوف مع إخواننا في السودان
عبدالرحمن السحيم
الْحَمْدُ للهِ الرَّحِيمِ التَّوَاب، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَاب، ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واستقيموا على أمره، واجتنبوا نهيه؛ فإن الدنيا مهما طابت لأصحابها، وازدانت لطلابها، فهي إلى زوال، وهم عنها بالموت راحلون، ولأعمالهم ملاقون ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره ﴾ فأحسنوا العمل، وأقبلوا على ربكم الكريمِ الرحيمِ، فإنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
عباد الله: إنّ من صفات ربنا سبحانه، الرحمة فقد كَتَبَها على نفسه، فَوَسِعَ بها كلَّ شيء، وعمَّ بها كلَّ حي، فهو الرحمن الرحيم، وأرحم الراحمين، يداه مبسوطتان آناء الليل وأطراف النهار، يُوالي على عباده بنِعَمِه، وعطاؤه أحبُّ إليه من منعه، ورحمته -جل جلاله- غلبت غضبَه، وفي الصحيحين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي"، وآثار رحمته -جل جلاله- وتقدست أسماؤه ظاهرة في خلقه، بينة في آياته، (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الْقَصَصِ: 73].
ومن آثار رحمته -تبارك وتعالى- ما نشره من رحمة بين الخلائق، فما هذه الرحمة التي يتراحمون بها إلا شيء يسير من رحمة أرحم الراحمين، ففي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها؛ خشيةَ أن تصيبه" والله -تبارك وتعالى- أرحم بعباده من الوالدة بولدها، ففي مشهد عجيب، يصفه لنا الفاروق -رضي الله عنه- بقوله: "لَمَّا قُدِمَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدَتْ صبيًّا في السبي أخذَتْه فألصقَتْه ببطنها وأرضعَتْه، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا -واللهِ- وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها"(متفق عليه
ومن رحمته -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين أنه يَنزل كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟".
وتتجلى رحمته -جل جلاله- بفتح بابه للمسرفين وبَسْط يده للتائبين: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[
والجنة -يا عباد الله- رحمة الله -تبارك وتعالى- يُدخلها مَنْ يشاء من عباده برحمته، ولا يَبلغها أحدٌ بعمله، ولن يؤَدِّي العبد شكرَ نعم ربه، ففي الصحيحين:قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم لن يُدخل أحدًا منكم عملُه الجنةَ، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة".
ومَنْ نَظَرَ في سيرة سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- يجد الرحمة في أكمل صورها وأعظم معانيها، قد حَفَلَتْ به سيرتُه وشريعتُه، فكان -صلى الله عليه وسلم- يعطف على الصغار ويرق لهم، ويُقَبِّلُهم ويلاعبهم، ويقول: "مَنْ لا يَرْحَم لا يُرْحَم".
فما عرفَتِ البشريةُ أحدًا منها أرحمَ بهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قال عنه خادِمُه أنسٌ: "ما رأيتُ أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمَّا النساء فكانت الرحمة بهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ، والرفق بهن أكثر، والوصية في حقهن آكَد، فحثَّ صلى الله عليه وسلم على الرحمة بالبنات، والإحسان إليهن، ففي صحيح البخاري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كن له سترا من النار".
وكان صلى الله عليه وسلم يرحم الضعفاء والخَدَم، ويهتم بأمرهم خشيةَ وقوع الظلم عليهم، والاستيلاء على حقوقهم، وجعل -عليه الصلاة والسلام- العطفَ بالمساكين والضعفاء من أسباب الرزق والنصر على الأعداء، ففي سُنَن أبي داود بسند صحيح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ابغوني ضعفاءكم؛ -أي: اطلبوا رضائي في ضعفائكم-، فإنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم".
وفي يوم فتح مكة لَمَّا مَكَّنَ اللهُ لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ما كان منه إلا أن أعلن عفوَه عن أعدائه وقال: "اليوم يوم المرحمة" فرَحِمَ صلى الله عليه وسلم الصغيرَ والكبيرَ والقريبَ والبعيدَ، والعَدُوَّ والصديقَ، بل شملت رحمتُه الحيوانَ والجمادَ، وما من سبيل يوصل إلى رحمة الله إلا جَلَّاه لأُمَّته، وحثَّهم على سلوكه، وما من طريق يُبعد عن رحمة الله إلا زَجَرَ عنه وحذَّر أُمَّتَه منه، فكانت حياته -صلى الله عليه وسلم- كلها رحمة؛ وشريعته رحمة، وسيرته رحمة، وسُنَّته رحمة، وصدق الله إذ يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107].
فاقتدوا بحبيبكم صلى الله عليه وسلم، وكونوا رحمة للناس، وإنّ أولى الناس بالرحمة وأحقهم وأولاهم بها الوالدان؛ فبالإحسان إليهما تكون السعادة، وببرهما تُستجلب الرحمةُ،(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[
ومن العلاقات البشرية والروابط الاجتماعية التي لا تستقيم إلا بخُلُق الرحمة: العلاقة الزوجية؛ فهي مبنية على المودة والرحمة، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الرُّومِ: 21]، وقد تضعف المودة بين الزوجين فيَشُدُّ وثاقَها خُلُقُ الرحمةِ، فترحم المرأة زوجها، ويرحم الرجل امرأته ويمتد أثر هذه الرحمة للبنين والبنات، فتنشأ داخل هذه الأسر المرحومة نفوسٌ مطمئنةٌ، وطباع سليمة مستقيمة، وإذا كان للقريب نصيب وحق من الرحمة فالغريب كذلك له حظ ونصيب، خاصة كبار السن والضعفاء وذوي الحاجات، فتخَلَّقُوا -معاشرَ المؤمنين- بخُلُق الرحمة، وارحموا مَنْ ولَّاكم الله عليهم، وتراحموا فيما بينكم، تفوزوا برحمة أرحم الراحمين، ففي (سنن الترمذي، بسند صحيح)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، الرحيم بعباده المؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ–عباد الله- حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
ثم اعلموا -معاشر المؤمنين- أن رحمة الله -تبارك وتعالى- تُستجلب بطاعته، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والاستقامة على أمره، وولاية المؤمنين بعضهم بعضًا، وكلما كان نصيب العبد من الطاعة أتم، كان حظه من رحمة الله أوفر، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 71].
واعلموا عباد الله مِن حُقُوقِ الأُخُوَّةِ الإيمانية وَلَوَازِمِهَا: أَن يَرحَمَ بَعضُ المُسلِمِينَ بَعضًا، وَيُحِبَّ بَعضُهُم بَعضًا، وَيَفرَحَ كُلٌّ مِنهُم لِفَرَحِ إِخوَانِهِ، وَيَحزَنَ لِحُزنِهِم، وَيُسَرَّ بما يَسُرُّهُم، وَيَسُوءَهُ مَا يَسُوءُهُم؛ تَحْقِيقًا لمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ رَسُولُنَاﷺ في قوله:(الـمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بيْنَ أَصَابِعِهِ )، وقوله: (الْـمُسْلِمُ أَخُو الـمُسْلِمِ، لا يَظلِمُه، ولا يُسْلِمُهُ، ومَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، ومَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسلمٍ كُرْبةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بها كُرْبةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ الْقِيامَةِ ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَمِنْ هَذَا اَلْمَعْنَى اَلنَّبِيلِ اِنْطَلَقَتْ حَمْلَةٌ شَعْبِيَّةٌ مباركة من هذه البلاد المُبَارَكَةٌ لِلْوُقُوفِ مَعَ إِخْوَانٍ لنا في اَلْعَقِيدَةِ وَالدِّينِ فِي بِلَادِ اَلسُّودَانِ، وذلك بِتَقْدِيمِ اَلْمُسَاعَدَاتِ لهم، وَتَخْفِيفِ مُعَانَاتِهِمْ وَذَلِكَ عَبْرَ مِنَصَّةِ "سَاهِمَ". وإنَّ مِنْ حَقِّ إِخْوَانِنَا عَلَيْنَا : اَلْوُقُوفُ مَعَهُمْ بِتَقْدِيمِ اَلْمُسَاعَدَاتِ اَلطِّبِّيَّةِ وَالْإِغَاثِيَّةِ ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ؛ فَاحْتَسِبُوا اَلْأَجْرَ فِي ذَلِكَ؛ فَأَحَبُّ اَلنَّاسِ إِلَى اَللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ اَلْأَعْمَالِ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سُرُورٌ تُدْخِلُهِ عَلَى مُسْلِمٍ ؛ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، ومن يَرحم يُرحم، ومَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبةً منْ كُرَبِ الدُّنْيا نفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبةً منْ كُرَب يومِ الْقِيامَةِ، ومَنْ يسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يسَّرَ اللَّه عليْهِ في الدُّنْيَا والآخِرةِ، ومَنْ سَتَر مُسْلِمًا سَترهُ اللَّه فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ.
اللهم كن لإخواننا في السودان وفي كل مكان، اللهم فرج همهم، وارحم ضعفهم، واحقن دمائهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين..
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحمنا وجميع المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،
اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
عباد الله! اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1683833204_خطبة موافقة للتعميم-خلق الرحمة والوقوف مع إخواننا في السودان.doc
1683833210_خطبة موافقة للتعميم-خلق الرحمة والوقوف مع إخواننا في السودان.pdf