خطبة موافقة للتعميم: النزاهة والفساد

عبدالرحمن السحيم
1445/05/23 - 2023/12/07 19:21PM

الخطبة الأولى: الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكوراً.

أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أرسل إلينا خير خلقه وخاتم رسله محمداً -صلى الله عليه وسلم- هادياً ومبشراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء.

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله فإن خير الزاد التقوى، وَاحذَرُوا الذُّنُوبَ وَالمَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَعظَمُ القَوَاطِعِ وَالمَوَانِعِ، وَتَذَكَّرُوا يَومًا يُوضَعُ فِيهِ المَرءُ في قَبرِهِ وَحِيدًا فَرِيدًا، فَلا يُنِيرُ ظُلمتَهُ وَلا يُزِيلُ وَحشَتَهُ، إِلاَّ صَالِحُ عَمَلِهِ. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

أيها المؤمنون: يقول المولى -عز وجل- في كتابه الكريم : (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)  (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) وهذا نهي صريح في آية عظيمة، وغيرها مما يقارب خمسين آية في كتاب الله تعالى كلها تحذر من الفساد بجميع صوره وأشكاله وأنواعه، تمثل هذه الآيات بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الصحيحة التي وردت في الصحاح والسنن والمسانيد التي تحذر الأمة من الفساد في الأرض ومن الإفساد، وأن يكون المؤمن صالحاً مصلحاً بعيداً عن جميع صور الفساد؛ حتى لا ينزل به العذاب، وحتى لا تنزل بالأمة الكارثة والمصائب والنكبات والابتلاءات بصور مختلفة بسبب تصرفات بعض الأشخاص.

كما أن الآخرة لا تكون لأهل الفساد قال الله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، فالذين ابتعدوا عن الفساد بجميع صوره هم الذين لهم العاقبة الحميدة والدرجات العلى في الجنة.

والنهي عن الفساد عام فهو وارد على كل صوره الفساد- الإعتقادي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والإداري..

كلّ ذلك حذر منه الإسلام، وحذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- صراحةً، وحث الأمة على محاربته بجميع صوره، يقول المولى -عز وجل-: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء:183].

ومما شاع من الفساد:الفَسَادُ المَالِيِّ كالرِّشْوَةُ،بأن يدفعَ الرَّاشِي شيئًا لِلْمُرْتَشِي لِيَمْنَحَهُ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ؛ فَإِنْ مُنِحَ مَالاً كَانَ نَوْعًا مِنَ الاخْتِلاَسِ، وَإِنْ مُنِحَ وَظِيفَةً لاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، أَوْ مَكَانَةً لَيْسَتْ لَهُ، أَوْ شَهَادَةً لاَ يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ مُنَاقَصَةً لاَ يَفِي بِشُرُوطِهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا خِيَانَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ أُعْطِيَ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ وُضِعَ فِي مَكَانٍ لاَ يَلِيقُ بِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ جُرْمًا وَإِثْمًا، وَأَعْظَمُ ضَرَرًا وَخَطَرًا عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ إِيسَادِ الأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَيَمْتَدُّ ضَرَرُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَعَامَلَ مَعَهُ. وقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِﷺالرَّاشِي وَالمُرْتَشِي»، وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَمَا نَتَجَ عَنْهَا مِنْ مَالٍ أَوْ هَدَايَا أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ سُحْتٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ. ومن ذلك أن يتَوَلَّى المرء وِلاَيَةً والمَالُ تَحْتَهُ، فَيَخْتَلِسُ مِنْهُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، إِمَّا بِأَعْمَالٍ وَهْمِيَّةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، أَوْ صَحِيحَةٍ وَلَكِنَّهَا لاَ تُكَلَّفُ كُلَّ الأَمْوَالِ المَرْصُودَةِ لِهَا، أَوْ إِنْشَاءَاتٍ تَكُونُ المُنَاقَصَةُ فِيهَا صُورِيَّةً، يَقْتَسِمُهَا صَاحِبُ المَشْرُوعِ مَعَ صَاحِبِ الوَظِيفَةِ. وَاخْتِلاَسُ المَالِ حَرَامٌ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ المَالِ العَامِّ أَمْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ الشَّرِكَاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ، قَالَ النَّبِيَّﷺ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

فَالحَذَرَ الحَذَرَ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلَنَا عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ فِي عُظَمَاءَ وَأَغْنِيَاءَ جَمَعُوا مَالاً عَظِيمًا، وَمَلَئُوا الدُّنْيَا ضَجِيجًا، دُفِنُوا حِينَ دُفِنُوا بِأَكْفَانِهِمْ كَمَا يُدْفَنُ الفُقَرَاءُ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا، وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ حِسَابُ مَا جَمَعُوا.

وأنتم ترون كثيرا من الناس اليوم يركضون وراء الجمع والتحصيل، ويسعون لنيل الرزق ولم يبال بعضهم أكان رزقه من الحرام أم من الحلال، فما حلّ بيده أكله، ولو كان فيه عطبه.

ولئن كنا في زمان فتن فإن فتنة المال هي فتنة الأمة؛ كما في الحديث، وما تنوُع صور المال الحرام إلا دليلٌ على ذلك.

ومن خطر المال الحرام: أنه إذا دخل الذمة أوبَق في الدنيا وفي الآخرة؛ ففي الدنيا يمحق البركات ويجلب الشقاء ويورث العناء، وفي الآخرة يوجب الحسرات ويُركِسُ في العذاب، وكلُّ جسمٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به.

كم يشكو البعض أنه يدعو فلا يرى إجابة ولربما كان بسبب مالٍ دخل جوفه، كم يشكو البعض أنه لا يجدُ راحة ولا هناء، ولا يجد في ماله بركة ولا نماء، ولربما كان بسبب درهم حرام دخل عليه.

وتذكروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم  (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ فيه ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ) فلنعد للسؤال جوابًا.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية:

 الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى صحبه وآله.. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فِي الأَمْوَالِ وَالأَعْمَالِ؛ فَإِنَّكُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَشَرِّهَا بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ، فَلاَ يَحْقِرَنَّ عَبْدٌ قَلِيلَ خَيْرٍ فَلَعَلَّ نَجَاتَهُ بِهِ، وَلاَ قَلِيلَ شَّرٍّ؛ فَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ إِذَا أُخِذَ بِهَا صَاحِبُهَا أَهْلَكَتْهُ.

عبادَ الله: يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَقَلْبُهُ شَابٌّ عَلَى طُولِ الأَمَلِ وَحُبِّ المَالِ، فَلَيْسَ إِدْبَارُهُ عَنِ الدُّنْيَا مُزَهِّدًا لَهُ فِيهَا، وَلَيْسَ إِقْبَالُهُ عَلَى الآخِرَةِ مُرَغِّبًا لَهُ فِيهَا، إِلاَّ مَنْ جَعَلَ اللهَ تَعَالَى غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ. وَلِأَجْلِ مَا فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، تَضْعُفُ دِيَانَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عِنْدَهَا، وَتَضْمَحِلُّ أَمَانَتُهُمْ، فَيَتَخَوَّضُونُ فِي مَالِ اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَسْتَحِلُّونَ حُقُوقَ غَيْرِهِمْ، وَيَلِجُونَ أَبْوَابَ الفَسَادِ، وَيَأْتُونَ أَنْوَاعَ الحِيَلِ، ويضيعون الأمانة.

وقد أمر الله بأداء الأمانة بقوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، ووصفَ المؤمنين بكونهم (لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8]، ومن حُرمَ الأمانة حُرم كمَالُ الإيمان، ومن تلبَّسَ بالخيانة فبئسَ -والله- البطانة وفيه خصلة من نفاق "فآية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" (رواه البخاري).

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ وَكُلُّ وِلاَيَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ يَتَقَلَّدُهَا الإِنْسَانُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَائِنًا، فَإِنْ رَاقَبَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ، وَأَدَّى حُقُوقَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَا لَيْسَ لَهُ، وَعَدَلَ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُحَابِ أَحَدًا لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ نُفُوذٍ، فَهَذَا أَمِينٌ يُؤْجَرُ عَلَى أَمَانَتِهِ.

وعلينا أن نتعاون ونتناصح، فمن لم يرتدع من الفاسدين رُفع أمره للجهات المختصة لعُقُوبَةِ مَنْ ثَبَتَتْ خِيَانَتُهُ حَتَّى يُكْفَى النَّاسُ شَرَّهُ، وَيَرْتَدِعَ غَيْرُهُ,

وعَلَى كُلِّ مَنْ وَلاَّهُ اللهُ تَعَالَى وِلاَيَةً صَغُرَتْ أَمْ كَبِرَتْ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا وَلِيَ، وَأَنْ يُتْقِنَ عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِحَقِّهِ، وَيُؤَدِّيَ أَمَانَتَهُ، وَيَعْدِلَ فِي رَعِيَّتِهِ، وَيَجْتَهِدَ فِي نَفْعِ النَّاسِ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، فَلَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ أَوْ جَاهِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلَنْ يَبْقَى لَهُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِلاَّ ذِكْرُ النَّاسِ وَدُعَاؤُهُمْ؛ فَإِمَّا ذَكَرُوهُ بِخَيْرٍ وَدَعَوْا لَهُ، وَإِمَّا ذَكَرُوهُ بِشَرٍّ وَدَعَوْا عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ شُهَدَاءُ اللهِ تَعَالَى فِي الأَرْضِ.

هذا وصلوا رحمكم الله على نبيكم المصطفى فإنه من صلى عليه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم انصر إخواننا في غزة وارحم ضعفهم، اللهم عليك بالصهاينة المعتدين اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وطهر المسجد الأقصى من رجسهم يا قوي يا عزيز..

 اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم اللهم جميع موتى المسلمين.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،   اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1701966067_خطبة موافقة للتعميم- الفساد.doc

1701966069_خطبة موافقة للتعميم- الفساد.pdf

المشاهدات 1217 | التعليقات 0