خطبة من مكارم الأخلاق في الرسالة المحمدية للشيخ سعد الشهاوى ‏

الدكتورسعد الشهاوى
1437/03/13 - 2015/12/24 15:47PM
خطبة من مكارم الأخلاق في الرسالة المحمدية للشيخ سعد الشهاوى ‏

الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى يعطى ويمنع ، ويخفض ويرفع ويضر وينفع ، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما يمنع . يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. يعلم الأسرار ، ويقبل الأعذار ، وكل شئ عنده بمقدار سبحانه كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير
يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا
ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها نجاكا
ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاكا
ومن الذي تعصي ويغفر دائما ومن الذي تنسى ولا ينساكا
)أإله مع الله تعالى الله عما يشركون (

من للعباد غيره يدبر الأمر ومن يعدل المائل من يشفى المريض ومن يرعى الجنين فى بطون الحوامل من يحمى العباد وهم نيام وهل لحمايته بدائل من يرزق العباد ولولا حلمه لأكلوا من المذابل من ينصر المظلوم ولولا عدله لسووا بين القتيل والقاتل ومن يظهر الحق ولولا لطفه لحكم القضاة للباطل من يجيب المضطر اذا دعاه وغيره استعصت على قدرته المسائل من يكشف الكرب والغم ومن يفصل بين المشغول والشاغل من يشرح الصدور ولولا هداه لنعدم الكوامل من كسانا. من أطعمنا وسقانا ..من كفانا وهدانا من خلق لنا الأبناء والحلائل من سخر لنا جوارحنا ومن طوع لنا الأعضاء والمفاصل من لنا إذا انقضى الشباب وتقطعت بنا الأسباب والوسائل هو الله,,, هو الله...هو الله الإله الحق وكل ما خلا الله باطل


وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا وسيدنا وقدوتنا وحبيبنا سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن أهل بدر والعقبة، وسائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

يا أيها الراجون خير شفاعةٍ من أحمدٍ صلُّوا عليه وسلِّموا
صلَّى وسلَّم ذو الجلال عليه ما لبَّى مُلبٍّ أو تحلَّل مُحرِمُ

أما بعد
إن الأقلام ليجف حبرها، وإن الكلمات ليعجز الإنسان عن سردها عندما يكون الحديث عن خير مخلوق عرفته الأرض؛ إنه محمد عليه الصلاة والسلام الذي حاز أعلى درجات الكمال البشري، وحاز على رضا ربه ومولاه، وتمكن حبه من كل قلوب أتباعه، فيجب علينا أن نسير على ما كان يسير عليه، وأن نقتفي أثره، ونتبع سنته.

العناصر
أولاً: من فضائل حُسن الخلق
ثانياً: جانب من خلق النبي صلى الله عليه وسلم
ثالثاً: الآداب والأخلاق عنوان صلاح الأمم
رابعا: أسباب ووسائل اكتساب الأخلاق الحسنة

أولاً: من فضائل حُسن الخلق

أيها الإخوة: إن موضوع الخلق من الموضوعات الإسلامية المهمة التي عليها يدور نجاح حياة المسلم، فكيف ينجح العالم في وظيفته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الزوج في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الداعية في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الأخ مع إخوانه إذا لم يكن على خلق؟ فالأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة، حتى قال بعض العلماء: إن الدين كله هو الخلق، ونحن نعيش أزمة أخلاق في واقعنا، سواءً على مستوى العلاقات الزوجية، أو المصلين في المساجد، أو الطلاب والمدرسين، أو الموظف والمراجعين، أو الجار وجيرانه، بل بين طلبة العلم والعلماء والأقران، وهذا مما يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع الخلق الحسن بركة على صاحبه وعلى مجتمعه، وخير ونماء ورفعة عند الله وسناء، ومحبة في قلوب الخلق وطمأنينة وانشراح في الصدور، وتيسير في الأمور، وذكر حسن في الدنيا، وحسن عاقبة في الأخرى، وسوء الخلق شؤم ومحق بركة في الأعمار، وبغض في الخلق وظلمة في القلوب، وشقاء عاجل وشر آجل.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّنَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مَنِ اتَّصَفَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، كَيْفَ لا؟ وَقَدْ حَثَّنَا دِينُنَا عَلَى التَحَلِّي بِذَلِكَ، وَرَغَّبَ فِيهِ, وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأُجُورَ الْعَظِيمَةَ, والمؤمن الحسنة أخلاقه: محبوب عند الناس، فمن أحبه الله وضع له القبول في الأرض، والناس مفطورون على حب من أحسن إليهم وحسن الخلق له عدة فضائل لا نستطيع أن نحصيها في لحظات ولكن نسدد ونقارب
فحسن الخلق يساوى قيام الليل وصيام النهار وبذلك ترفع الدرجات وتكفر السيئات؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْل وصائمِ النَّهَار" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبِانِيُّ).
وحسن الخلق من كمال الإيمان ودليل على حسن ايمان صاحبه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خلقًا؛ وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ ." [صحيح سنن الترمذي للألباني]. قال المباركفوري: " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ": لأن كمال الإيمان يوجب حسن الخلق والإحسان إلى كافة الإنسان، " وخياركم خياركم لنسائهم ": لأنهن محل الرحمة لضعفهن.
وحسن الخلق أثقل شيء في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ "مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ العبد المؤمن يوم القيامة مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ و الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ). ذلكم الميزان الذي يجد الناس فيه كل ما قدموه من اعتقاد وقول وفعل نسأل الله أن يثقل موازيننا.
والملائكة قريبة من المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة والشياطين بعيدة منهم، وفي قرب الملائكة منهم قرب من صالح الأعمال، وفي بُعد الشياطين عنهم بُعدٌ عن مساوئ الأعمال، يقول الله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) [الشعراء: 221-223]؛ فالشياطين إنما تقترن بمن يشابهها ويشاكلها، وكثيراً ما تتسلط على ذوي الأخلاق السيئة، بل إنها من أعظم الأسباب في إصابتهم بمسها.
وحسن الخلق يكسب محبة الخلق ورضا الرب، وأن العباد لن يستطيعوا مد أيديهم بالمال لكل محتاج ولكنهم يستطيعون أن يكونوا نبلاء أصفياء معهم، يسعونهم بأخلاقهم وحسن سلوكهم، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى اللّه عليه وسلم- : "إِنَّكُم لن تسعوا النَّاس بأموالكم ، وَلَكِن يسعهم مِنْكُم بسط الْوَجْه وَحسن الْخلق" [مسند أبي يعلى (6550) وقال الألباني في صحيح الترغيب (3/9): حسن لغيره].
وحُسْن الْخُلُقِ سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ لَكَ, فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَحَبُّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ أَحْسَنُهُمْ خلقَاً" (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وحُسْن الْخُلُقِ سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَكَ وَقُرْبِكَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَعَنْ جابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إنَّ مِنْ أحبِّكم إليَّ وأقرَبِكُم منِّي مجْلِساً يومَ القيامَةِ أحاسِنَكم أخْلاقاً، وإنَّ أبغَضَكُم إليَّ وأبْعَدَكُم منِّي مجْلِساً يومَ القِيامَةِ الثِّرثارونَ والمتَشَدِّقونَ والمتَفَيْهِقُونَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الـمُتَفَيْهِقونَ؟ قَالَ: "المتَكَبِّرُونَ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ). قال الإمام الترمذي رحمه الله والثرثار كثير الكلام
وحسن الخلق سبب في دخول الجنة والبعد عن النار فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ"[ رواه أبو داود بإسناد صحيح وهو في السلسلة الصحيحة - الألباني ]
وعند الترمذي بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ:" تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ" وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ:" الْفَمُ وَالْفَرْجُ" [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وهو في السلسلة الصحيحة - الألباني ]،
وأخبرنا -صلى الله عليه وسلم- بأن صاحب الخلق الحسن تحرم عليه النار، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللّه عليه وسلم-، قَالَ: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ"؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ" [صحيح ابن حبان (469) وصححه الألباني].
وقد يكون خلقاً واحداً من بين سائر الأخلاق سبباً في دخولك الجنة، فعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ فَقَالَ مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنْ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمَعْسُورِ، فَقَالَ: تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي" (مسلم) فهذا الرجل لم يعمل خيراً قط سوى خلقٍ واحدٍ فكان طريقاً له إلى الجنة فما بالك لو تحليت بمكارم الأخلاق كلها؟!!
لذلك اهتم الصحابة بحسن الخلق وطلبه من الله، فعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ : بَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي، حَتَّى أَصْبَحَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا كَانَ دُعَاؤُكَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ إِلا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، قَالَ: يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَحْسُنُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ الْجَنَّةَ، وَيَسُوءُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ سُوءُ خُلُقِهِ النَّارَ" (شعب الإيمان للبيهقي)
ويقول أنس بن مالك -رضي الله عنه- خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد، ويبلغ بسوء خلقه أسفل درك في جهنم وهو عابد"، ويقول بعض التابعين: "في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق".
ثانياً: جانب من خلق النبي صلى الله عليه وسلم
أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم فاقت الوصف وَقَدْ وَصَفَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِجَمِيلِ الْأَخْلَاقِ واثنى الله على نبينا صلى الله عليه و سلم فَقَالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، (وَكَفَى بِللَّهِ شَهِيداً) [الفتح:28]. إن في هذه الآية الكريمة الإشادة بخلق النبي -صلى الله عليه وسلم- تنويها وتمجيدا بالأخلاق في ميزان الله -عز وجل-.
وربنا جلا في علاه قال لنبينا صلى الله عليه و على اله و سلم { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ}ثم قال جلا و علا { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } ثم وجهه ربنا سبحانه و تعالى لحسن الخلق و كيفية التعامل مع الناس فقال جلا في علاه { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } فبين الله جلا و علا انه مع مرتبة النبوة العظيمة و مع كونه عليه الصلاة و السلام هو سيد الأولياء و هو خاتم الأنبياء و هو المقدم يوم القيامة و سيد ولد آدم إلا أن ذلك لا يغنيه ابداً أن يحسن خلقه مع الناس..
وفي آية أخرى يخاطب الله -عز وجل- رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف: 199- 200]. وفي ذلك حث للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الوقت ذاته أمر لأمته بالتحلي بالأخلاق الحسنة فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
وحتى قبل البعثة لم يجدوا عليه سَقطة ولا عيبًا يُذمّ به -مع كثرة أعدائه، وتوافر دواعيهم وحرصهم- ولما رأى جبريل أول مرة ونزل عليه بالوحي قال لخديجة -رضي الله عنها-: وقد جاءها يرجف ، ولم يكن يعهد ذلك من قبل يقول: "دثروني" "لقد خشَيتُ على نفسي" فقالت زوجه الأولى خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-: ""كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق". لذلك لما بعث تحير القرشيون ماذا يقولون فيه، لأنهم لا يجدون أي ثغرة يمكن أن يتسللوا من خلالها، فيطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الناس كلهم الذين يعرفونه يشهدون بصدقه، وعدالته، وكرمه، وجوده وحسن خلقه، عليه الصلاة والسلام، ولقد ضرب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة، حتى الأخلاق الفاضلة تمسكًا وتوجيهًا قبل البعثة، كان -صلى الله عليه وسلم- ذا خلق نبيل، وأدب رفيع، حتى ما عرف بمكة أروع ولا أحسن خلقًا منه بأبي هو وأمي، صلوات الله وسلامه عليه، فلقبه قومه في الجاهلية بالصادق الأمين لما رأوا من جلالة خلقه وسمو أدبه وكريم صفاته ونبيل عاداته، فهذا بعض خلقه الكريم قبل البعثة، فأتم الله عليه النعمة والخلق العظيم بعد البعثة.

وجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رِسَالَتَهُ أَنَّهَا جَاءَتْ لِتُتَمِّمَ مَعَالي الْأَخْلَاقِ, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ).
و لما سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها سألها عروة ابن الزبير ابن اختها عن اخلاق النبي صلى الله عليه و سلم فقالت له: (( الست تقرأ القرءان، قال: بلى ، قالت: كان خلقه القرءان)) بمعنى ان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ ء في القرءان قول الله جلا و علا ... و {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.. فيحسن إلى الكبير و الصغير يحسن إلى الغني و الفقير يحسن إلى المسلم و الكافر يحسن إلى القوي و الرقيق ...{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}....يقرأ في القرءان قول الله جلا و علا ... { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }. فيتكلم بأحسن الكلام .. كان خلقه القرآن يحرم ما حرم، ويحل ما أحل، ويأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، ويؤمن به، ويدعو إليه صلى الله عليه وسلم، فليس بغريب أن تحدث منه هذه الأعمال العظام التي هي أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو سرٌ من أسرار اختياره.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجية له، وخُلقًا تطبّعه، وترك طبعه الجِبلّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم، والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل" انتهى.
وَقَدْ طَبَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ الْعَمَلِيَّةِ، فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا ولا لعانًا ولا سبابًا، وكان أبغض الخلق إليه الكذب، وكان أحسن الناس وجهًا وأطيبهم خلقًا، وما نيل من حقه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله سبحانه، وكانت الأخلاق الحسنة تعرف من وجهه وانظر إلى قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو أحد كبار علماء اليهود في المدينة، ولكنه كان رجلاً منصفاً باحثاً عن الحق، فلما سمع بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: { ذهبت إليه فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب } -والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح، أي: أنه قرأ على محيا النبي صلى الله عليه وسلم آيات الصدق والبر والوفاء فسمعته يقول: يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام} والشاهد قوله: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

انظر الحادثة الأخرى المعبرة التي رواها النسائي وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين فتح مكة أهدر دم مجموعة من القرشيين الذين كانوا يعلنون العداء للإسلام وللرسول عليه الصلاة والسلام، ويسبونه صلى الله عليه وسلم ويغدرون به، وكان منهم عبد الله بن أبي السّرح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من وجد هؤلاء القوم أن يقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وكان عبد الله هذا أخاً لـعثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فجاء به عثمان خلف ظهره، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستأمنه، فوقف بين يديه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لهذا الرجل، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منه الأمان ثانية، وثالثة، فأمنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {ألا رجل فيكم قام حين رآني سكت فقتله فقالوا: يا رسول الله هلاّ أومأت إلينا -أي: لو أشرت مجرد إشارة ولو بعينك لا بتدره أي واحدٍ منا فأجهز عليه، فورد أن النبي صلى الله عليه قال: ما ينبغي لنبيٍ أن يكون له خائنةُ الأعين} يعني: حتى الإشارة بالعين يتجنبها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فظاهره وباطنه سواء، فلا يستعمل أساليب اللف والدوران، وطرق الساسة في الاحتيال والتأويل، وما وقع المسلمون -في هذا العصر ومنذ عصور- من كثرة التأويل في الاعتقاد، والأقوال، والأعمال، والمواقف، بل هو واضح كل الوضوح صلى الله عليه وسلم في مواقفه بحيث لا يجد أعداؤه عليه مطعنة.

وَقَدْ طَبَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ الْعَمَلِيَّةِ مع أصحابه فكان -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في باب الأخلاق، والقدوة العظمى في باب الآداب، يتخول أصحابه بالكلمات الطيبة، ويشملهم بالابتسامات المعبرة عما يكنه لهم في صدره من محبة ووفاء
قال عبد الله بن الحارث -رضي الله عنه-: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".وقال جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه-: "ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك". متفق عليه.

وَقَدْ طَبَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ الْعَمَلِيَّةِ مع خدمه وعبيده قال عنه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَائِي مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ: ذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!"، قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا ذَاهِبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟! أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا. رواه مسلم.
وفى رواية عشر سنين عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ؟" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ). فإذا وضعت في الحسبان هذه المدة في الخدمة، وأن الخادم غلام صغير ومظنة الخطأ منه أكثر من الكبير، أدركت ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من مكارم الأخلاق وحسن المعاشرة.
وروى البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت"،
وبلغت عناية النبي - صلى الله عليه وسلم – بالأخلاق الحسنة مع خدمه وعبيده أن وصي بها - وهو على فراش الموت –خشيةَ أن تُهدَر حقوقهم، قائلاً: «الصلاةَ وما ملكت أيمانكم».
وَقَدْ طَبَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ الْعَمَلِيَّةِ مع من يجهل بعض أحكام الدين
ومن ذلك تعامله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برفق مع الاعرابي الذى يبول في المسجد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابياً قام في طائفة المسجد النبوي - يعني: في جانب من جوانب المسجد النبوي- يتبول في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه! فقام الصحابة وقالوا: مه مه! ماذا تصنع أيها الأعرابي الجلف؟! لم تجد مكاناً لتتبول فيه إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب الخلق يقول: لا تزرموه) ووالله لو سكت لكان فعلاً كريماً، ولكان هذا الفعل خلقاً كريماً، لكنه يقول: (لاتزرموه) يعني: دعوه يكمل بوله! والآن ماذا لو تبول طفل من أطفالنا في المسجد؟! ماذا لو دخل سفيه إلى مسجدنا في جميع كبير كهذا الجمع وتبول، أو وقف أمام الشيخ وتبول؟! ماذا لو دخل سفيه الآن فسبني وأنا أتكلم؟! ولكن صاحب الخلق يقول: (لا تزرموه) يعني: لا تقطعوا عليه بوله، وأكمل الأعرابي تبوله تماماً بطمأنينة كاملة وكأنه في خلاء بيت: (ثم نادى عليه رسول الله وقال له: إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، وإنما جُعلت للصلاة ولذكر الله ولقراءة القرآن، يا فلان! ائتني بدلو من الماء، فأفاضوا عليه دلواً من الماء فطهر المكان) وهكذا أنهى الإشكال كله، فانفعل الأعرابي بهذا الحلم وهذا الخلق والرفق، فدخل في الصلاة -والحديث في صحيح البخاري في كتاب الأدب- فدخل الصلاة وقال بصوت مرتفع: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال له صاحب الخلق بخلق: لقد حجرت واسعاً!). يعني: لماذا تضيق ما وسع الله عز وجل وهو القائل سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]؟!
ومن ذلك تعامله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برفق مع معاوية ابن الحكم الذى تكلم و هو في الصلاة جاهلا قيرفق عليه الصلاة و السلام به وروى مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (دخلت الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله. يقول معاوية : فرماني القوم بأبصارهم، -يعني: نظروا إليه- فقلت: وا ثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! يقول: فضربوا بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني فسكت، فلما قضى النبي صلاته بأبي هو وأمي والله لم أر معلماً قبله ولا بعده أحسن منه، والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني إنما قال لي: إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن).
وَقَدْ طَبَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ الْعَمَلِيَّةِ مع أعداءه حتى دخل معظمهم في الإسلام
ومن ذلك إسلام ثمامة بن أثال وبيان جميل خلقه صلى الله عليه وسلم معه روى البخاري ومسلم رضوان الله ورحمته عليهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربط الصحابة ثمامة بن أثال في سارية -أي: في عمود من أعمدة المسجد النبوي- فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد ثمامة مربوطاً في سارية من سواري المسجد فعرفه -لأن ثمامة كان سيداً في قومه- فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ماذا عندك يا ثمامة ؟ قال: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقل ذا دم! -يعني: إن قتلتني قتلت رجلاً له مكانته في قبيلته، ولن تفرط قبيلتي في دمي وفي الأخذ بثأري -إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تنعم على شاكر- يعني: فإن أطلقتني سأعترف لك بهذا الجميل وسأشكره لك ما حييت- وإن كنت تريد مالاً فسل تعط من المال ما شئت، فتركه صاحب الخلق الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثاني دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فأقبل على ثمامة فقال له: ماذا عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت، فتركه صاحب الخلق الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثالث دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فأقبل على ثمامة فقال: ماذا عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت، فقال المصطفى: أطلقوا ثمامة .. أطلقوا ثمامة لا نريد فدية ولا مالاً، بل ولا نلزمه بالإسلام، ولا نكرهه على الإيمان أطلقوا ثمامة فانطلق ثمامة . بعد أن فكوا قيده وانطلق إلى أقرب نخل إلى جوار المسجد النبوي فاغتسل، ثم عاد مرة أخرى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله). أخي الحبيب! تدبر معي قول ثمامة : يا رسول الله! والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينُك أحبَّ الدين كله إلي، والله ما كان على الأرض بلدٌ أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إلي! ثم قال: يا رسول! الله لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة، وقد كانوا يعتمرون ويحجون إلى البيت وهم على الكفر والشرك. كان أحدهم يلبي فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فإذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلمات يقول: قط قط. يعني: قد اكتفيتم قفوا عند هذا القدر ولا تزيدوا، ثم يزيدون قائلين لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك! ولو تدبر أحدهم في الإضافة بتعقل لوجد أن هذا الإله المعبود من دون الله لا يملك لنفسه شيئاً. ولو تدبر أحدهم بتعقل لعلم أن هذه الآلهة لا تضر ولا تنفع، ورحم الله من رأى يوماً على صنمه بولاً فنظر حواليه فوجد ثعلباً يلعب بالقرب من معبوده، فعلم أن الذي فعل هذه الفعلة الشنعاء هو هذا الثعلب، فنظر إلى إلهه والنجاسة تنساح عليه، وتفكر وتدبر في الأمر وقال بعقل راجح راشد: رب يبول الثُعلبان أو الثَعلبان -واللغتان صحيحتان كما قال ابن منظور في لسان العرب-ربٌ يبول الثُعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب فلو كان رباً كان يمنع نفسه فلا خير في رب نأته المطالب برئت من الأصنام في الأرض كلها وآمنت بالله الذي هو غالب يقول ثمامة : (لقد أخذتني خيلك يا رسول الله! وأنا أريد العمرة فماذا ترى أن أصنع؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر).قال الحافظ ابن حجر : فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: بالجنة أو بخيري الدنيا والآخرة، أو بمحو سيئاته. يا له من فضل (وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فأقبل ثمامة إلى مكة ملبياً، فكان ثمامة هو أول من جهر بالتلبية في مكة، فأخذته قريش وقالوا: من هذا الذي اجترأ علينا -أي: جهر بالتلبية بين أظهرنا- من هذا الذي يردد الكلمات التي يعلمها محمد -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه؟! فأخذوه وضربوه ضرباً شديداً حتى قال قائلهم: دعوه إنه فلان فأنتم تحتاجون الميرة من اليمامة فجلس ثمامة وهو يقول: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله) هذا لفظ مسلم والحديث في الصحيحين. وفي رواية ابن إسحاق بسند صحيح: (لما جهر ثمامة بالتلبية وأقبل عليه المشركون فضربوه، وقال أبو سفيان : ألا تعرفون الرجل؟ إنه ثمامة سيد أهل اليمامة، دعوه فأنتم تحتاجون إلى الحنطة -أي: القمح- والميرة من اليمامة، فلما جلس ثمامة قال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله). أقول: من أول لحظة دخل فيها ثمامة الإسلام جعل ووضع كل طاقاته ووجاهته ومكانته وقدراته وإمكانياته في خدمة الدين، عرف الإسلام فوضع كل ما يملك من قدرات وطاقات في خدمة دينه الذي اعتنقه، وأنار الله قلبه به، وبالفعل أدى العمرة.
ومن ذلك حلمه صلى الله عليه وسلم مع زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ روى البيهقي في دلائل النبوة والطبراني عن عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ -وهو الحبر الكبير من أحبار يهود - قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ مَا مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ لِأَنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ مِنْ جَهْلِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِنَ الْحُجُرَاتِ وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَالْبَدَوِيِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بُصْرَى قَرْيَةُ بَنِي فُلَانٍ قَدْ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَكُنْتُ حَدَّثْتُهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ وَشِدَّةٌ وَمَحُوطٌ مِنَ الْغَيْثِ فَأَنَا أَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ طَمَعًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ طَمَعًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ تُعِينَهُمْ بِهِ فَعَلْتَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيًّ وسأله (( هل عندنا شىءٌ من المال ؟)) .فقال على بن أبى طالب : لا والله يا رسول الله لقد نفذ المال كله . قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تُبِيعَنِي تَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: «لَا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أُبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا وَلَا أُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ»، قُلْتُ: نَعَمْ، فَبَايَعَنِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا، يقول زيد بن سعنه : فأخذها النبي كلها وأعطاها لهذا الأعرابي وَقَالَ: « اذهب إلى قومك فأغثهم بهذا المال » .فانطلق الأعرابي بالمال كله ،قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَلَمَّا كَانَ قِبَلَ مَحِلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِنَازَةٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ دَنَا مِنْ جِدَارٍ لِيَجْلِسَ إِلَيْهِ فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ وهز الحبر اليهودي رسول الله  هزاً عنيفاً وهو يقول له: أَدِّ ما عليك من حق ومن دَيْنٍ يا محمد ! فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُكُمْ يابَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلا مُطلاً في أداء الحقوق وسداد الديون ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُمَاطَلَتِكُمْ عِلْمٌ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهٍ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْمَعُ، وتفعل برسول الله  ما أرى ؟!! فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا أنى أخشى فَوْتَهُ وغضبه لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ بِسَيْفِي هذا يقول زيد بن سعنه : وأنا أنظر إلى النبي  وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، لقد كنت أَنَا وَهُوَ أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا؛ يا عمر لقد كان من الواجب عليك أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ الطلب ، فبهت الحبر أمام هذه الأخلاق السامية ، وأمام هذه الروح الوضيئة العالية من الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي  .أتدرون ماذا قال الحبيب صاحب الأخلاق العظيمة ؟التفت الحبيب إلى عمر رضى الله عنه وقال :(( اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ، فَأَعْطِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ جزاء ما روعته !! » . قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ فَأَعْطَانِي حَقِّي وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُزِيدَكَها جزاء ما روعتك !! ،
فالتفت الحبر اليهودي إلى عمر وقال : ألا أَتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، فَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ، قَالَ عمر : حبر اليهود ؟! قال : نعم .فالتفت إليه عمر و قَالَ: فَمَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلْتَ وَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ؟

فقال زيد : والله يا ابن الخطاب ما من شيء من عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ ولكنني لم أختبر فيه خصلتين من خصال النبوة .فقال عمر : وما هما ؟قال حبر اليهود : الأولى : يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ ، والثانية : لَا تُزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا أمـا وقد عرفتها اليوم في رسول الله فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله  . قَدْ رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي - فَإِنِّي أَكْثَرُهُمْ مَالًا - صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: عُمَرُ أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَرَجَعَ عُمَرُ وَزَيْدٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ وَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً. تُوُفِّيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ رَحِمَ اللهُ زَيْدًا.

ومن ذلك ما ذكره أبو الشيخ في كتاب الأمثال " { أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عليه الصلاة والسلام -وكان جزل العطية يعطي الوادي من الإبل أو من الغنم، ويعطي البدرة من الذهب أو من الفضة، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم- فأعطى هذا الأعرابي، ثم قال له: هل رضيت؟ هل أحسنا إليك؟ قال: لا، ما أحسنت، ولا أجملت. وكان في حضرة أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم -ومن المعلوم- مكانته عندهم عليه الصلاة والسلام وشدة تقديرهم له فغضبوا، وهموا بالأعرابي فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوه، ثم انفرد به فأعطاه، فقال: هل رضيت؟ قال: لا، ثم أعطاه الثانية، فقال: هل رضيت؟ قال: لا! ثم أعطاه الثالثة، قال: رضيت؟ قال: نعم! فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال: إن في نفوس أصحابي شيئاً فلو أخبرتهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال لهم: إن هذا الأعرابي أعطيناه فزعم أنه رضي، أفكذلك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام مؤدباً معلماً لأصحابه: إنما مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته فجعل الناس يتبعونها، فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي -لأنه كلما تبعها الناس أسرعت وأمعنت في الهرب، والرجل أخبر بناقته- فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي، فجعل يجمع لها من قمام الأرض حتى ردها إليه هوناً هوناً، حتى لانت واستقامت، وإنكم لو قتلتم هذا الرجل حين قال ما قال لدخل النار}".فهذه نماذج موجزة قصيرة في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس، وفي حسن خلقه معهم. وبإمكان أي فرد منا أن يرجع إلى الكتب المصنفة في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، ككتاب شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للإمام الترمذي، وكتاب الشمائل المحمدية لـابن كثير، وكتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي الشيخ، والجزء الأول من كتاب زاد المعاد، وغيره من كتب السيرة النبوية ليجد أمثلة كثيرةً جداً بهذا الباب، وليس هذا بغريب، فقد وصفه الله تبارك وتعالى بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
عذرا رسول الله إن قصرت في وصفى فإن جمالكم لن يـــوصفا
جاءت قديما ذره من نوركم قد جمل الرحمن منها يوسف
والله لو جد العباقر كلـــــــهم في وصف أفضـــال له لن تعرفا
والله لو ماء البحار بجــــــمعها كان المداد لوصف أحمد ما كفى
والله لو قلم الزمان من البداية إلى النهاية ظـــل يكتب ما اكتفى
والله لو قبر الرسول تفـــجرت أنـــــــــواره للبـــدر ولى واختفى
يكفيه لقياً في السمـاوات العلى وبحضـــرة الرب الكريم تشرفا
يكفية أن البدر يخســـــف نوره لكن نور نبينا لن يخسفا
أيها الأحبة! إنه الخلق، فوالله ثم والله لو ظللت أتحدث طوال الليل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم -على رغم جهلي وقلة بضاعتي- ما مللتم. أيها الإخوة! ما أحوج الأمة الآن أن تحول خلق النبي صلى الله عليه وسلم في حياتها إلى منهج حياة.. إلى واقع يتألق سمواً وعظمة وروعة وجلالاً، ما أيسر أن تحتفل الأمة وتحتفي بالمولد تارة وبالهجرة تارة، وبليلة النصف من شعبان تارة.. إلى آخره من هذه الاحتفالات والأعياد التي كثرت في أمتنا، أسأل الله أن يكثر أعيادها على السنة. ما أحوج الأمة التي تجيد الكلام والخطابات والاحتفالات والقصائد والأشعار إلى أن تحول خلق النبي المختار إلى واقع عملي ومنهج حياة. أيها الأحبة! لو ظللنا الدهر كله نتغنى بخلق النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لم نمتثل أمره ولم نجتنب نهيه ولم نقف عند حده، ولم نذب وندافع عن سنته ولم نحمل هم دعوته، فوالله لن نغير من الواقع شيئاً، فما أحوج الأمة في هذا الشهر الذي تحتفل فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحول خلقه إلى واقع عملي ومنهج حياة.
ثالثاً: الآداب والأخلاق عنوان صلاح الأمم
أيها المسلمون: الآداب والأخلاق عنوان صلاح الأمم والمجتمعات، ومعيار فلاح الشعوب والأفراد، ولها الصلة العظمى بعقيدة الأمة ومبادئها، بل إنها التجسيد العملي لقيم الأمة ومُثُلِها، وعنوان تمسكها بالعقيدة، ودليل التزامها بالمنهج السليم، والصراط المستقيم، ومن شمولية هذا الدين وعظمته: أنه دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، والصفات النبيلة، جاءت تعاليمه وقيمه بالأمر بالمحافظة على الأخلاق الحسنة في كل أحوال المسلمين صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، أفرادًا ومجتمعات وأسرًا وجماعات، فبالخُلق الحسن: يحصل الوئام والتآلف في المجتمع يقول الله -تعالى-: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].وبالخلق الحسن: تعمر الديار وتبارك الأعمار؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حُسْنُ الخلق وحُسْنُ الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار». وحسن الخلق هو الذي لفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذا تقدم إليك من يخطب ابنتك فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) وفي رواية: (خلقهُ ودينه) فهذا هو الشيء الذي ينظر منه إلى الخاطب
وبالخُلق الحسن: يتمكن المرء من إصلاح ذات البين، فحَسن الخلق مَرْضي عند جميع الأطراف؛ يستطيع بتوفيق الله أن يجمع بين القلوب المتنافرة والآراء المتباينة، كما رضيت قريش النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَكَماً بينها حين اختلفوا في وضع الحجر الأسود في موضعه، وكادت الحرب أن تقع بينهم، فحقن الله بنبيه دماءهم وجمع فرقتهم وشتاتهم.
بالخلق الحسن: تحفظ الأمة وجودها، وتدافع عن حرمتها وكرامتها، وتتبوأ مكانتها اللائقة بها بين الأمم.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وما هُدَّ عرش، وما أزيل من سلطان، وما فرق من مجتمع، وما تجرئ على أمر ذي بال؛ إلا بضياع تلكم الأخلاق الإسلامية من نفوس أهلها، وانغماسهم في الشر والفساد وقديماً قيل:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقال قبل ذلكم خير قائل وأصدق قائل عز شأنه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء:16]
إِنَّنَا بِحَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَى أَنْ نُصْلِحَ تَعَامُلَنَا مَعَ الآخَرِينَ, وَنَزِنَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِنَا, فَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلَكَ النَّاسُ بِهِ عَامِلْهُمْ بِهِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
رابعا: أسباب ووسائل اكتساب الأخلاق الحسنة
اعلموا أن مكارم الأخلاق تنال بأمور ولا شك ولا ريب أن المؤمن التقى يريد أن يكون حسن الأخلاق ولا يري أبدا أن يكون بذيئا فكيف تتأتى الأخلاق الكريمة ؟؟وكيف نحصل عليها ؟؟
أول ذلك أن نسأل الله ذلك لأن الله هو الذى خلق الخلق أطوارا ، خلقهم أطوارا هذا كريم الأخلاق وهذا سيء الأخلاق خلق الله الخلق أقساما وأصنافا وكما أنه قد قسم الأرزاق فقد قسم الأخلاق ، وكمآ أننا نسأل الله الرزق فنسأله أيضا حسن الخلق ، فأول وأهم الأسباب التي ينال بها حسن الخلق سؤال الله -عز وجل- والتوجه إليه والتضرع إليه –سبحانه- بالدعاء الصادق في أن يحسن الله خلق المرء؛ فهو -سبحانه- وحده مالك القلوب والنفوس، ولهذا كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- " اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خلقِي فَأَحْسِنْ خلُقِي".وكان من دعاء رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم أيضا"اللَّهُمَّ اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَقِنِي سَيِّءَ الأَعْمَالِ وَسَيِّءَ الأَخْلاقِ، فَإِنَّهُ لا يَقِي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ". فاجعل لنفسك وردا من هذا الدعاء يوميا اسال الله ان يهديك لأحسن الاخلاق واحسن الاقوال واحسن الاعمال فانه لا يهدى لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنك سيئها لا يصرف عنك سيئها إلا هو .
وكان من دعاء رسولكم عليه الصلاة والسلام " اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها "
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من سوء الخلق فكان يقول : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ ( أبو داود والنسائي) وايضا
المرفقات

خطبة من مكارم الأخلاق في الرسالة المحمديةللشيخ سعد الشهاوى ‏.doc

خطبة من مكارم الأخلاق في الرسالة المحمديةللشيخ سعد الشهاوى ‏.doc

المشاهدات 4783 | التعليقات 0