خطبة : ( من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها )
عبدالله البصري
إِنَّهَا الحَقِيقَةُ الَّتي يَنسَاهَا كَثِيرُونَ أَو يَتَنَاسَونَهَا ، بَل قَد تَغِيبُ عَن قُلُوبِ المُؤمِنِينَ وَيَغفَلُ عَنهَا بَعضُ الصَّالِحِينَ وَالمُحسِنِينَ ، إِذْ يِنسِبُونَ إِلى أَنفُسِهِمُ الفَضلَ وَيَفتَخِرُونَ بما حَقَّقُوهُ مِن نَجَاحٍ ، في حِينِ أَنَّ المِنَّةَ للهِ ـ تَعَالى ـ جَمِيعًا وَالفَضلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ ، حَيثُ هَدَى مَن شَاءَ مِن عِبَادِهِ لِلإِيمَانِ ، وَوَفَّقَ أَهلَ الإِحسَانِ لِلإِحسَانِ ، وَأَعَانَ أَهلَ الطَّاعَةِ عَلَى طَاعَتِهِم ، وَرَزَقَ أَهلَ المُجَاهَدَةِ الصَّبرَ وَسَدَّدَهُم ، وَلَو وَكَلَهُم إِلى أَنفُسِهِم وَتَخَلَّى عَنهُم ، لَمَا حَرَّكُوا سَاكِنًا وَلا سَكَّنُوا مُتَحَرِّكًا .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ المِنَّةُ للهِ وَحدَهُ وَالفَضلُ لَهُ دُونَ سِوَاهُ ، وَمَا يَكُنْ لِلمَرءِ في حَيَاتِهِ مِن صَلاحٍ وَنَجَاحٍ أَو سَدَادٍ وَرَشَادٍ فَهُوَ بِتَوفِيقِ اللهِ ، وَمَا يَكُنْ غَيرَ ذَلِكَ مِن إِخفَاقٍ وَتَعَثُّرٍ أَو فَشَلٍ وَسُقُوطٍ ، فَهُوَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَن جَاهَدَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَأَعطَى وَاتَّقَى ، فَإِنَّمَا يُقَدِّمُ لِنَفسِهِ مَا يَجِدُهُ في جَنَّةِ المَأوَى ، وَمَن تَوَانى أَو أَسَاءَ أَو بَخِلَ وَاستَغنَى ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ حِملٌ يُثقِلُ بِهِ كَاهِلَهُ ، وَوِزرٌ يَقصِمُ بِهِ ظَهرَهُ ، وَنَارٌ تَتَلَظَّى عَلَيهِ يَومَ يَلقَى رَبَّهُ ، إِلاَّ أَن يَتُوبَ عَلَيهِ ـ تَعَالى ـ وَيَتَغَمَّدَهُ بِوَاسِعِ فَضلِهِ .
وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَكَيفَ يُتَصَوَّرُ أَن يُجَاهِدَ مُؤمِنٌ نَفسَهُ حَتَّى يَقَطَعَ أَشوَاطًا في طَاعَةِ رَبِّهِ ، ثم يَستَسلِمَ لِلشَّيطَانِ وَيَتَوَقَّفَ في وَسَطِ الطَّرِيقِ أَو قُربَ نِهَايَتِهِ ، مُستَبطِئًا ثَمَنَ مُجَاهَدَتِهِ ، أَو مُستَقِلاًّ مُكَافَأَةَ البَشَرِ لَهُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ ، أَتُرَاهُ بِذَلِكَ يَمُنُّ عَلَى رَبِّهِ وَيَستَكثِرُ عَلَيهِ مَا أَسلَفَهُ ؟!
أَوَمَا عَلِمَ أَنَّ اللهَ لا يَنَالُهُ مِن جِهَادِ النَّاسِ شَيءٌ وَلَيسَ في حَاجَةٍ إِلى جُهدِ بَشَرٍ ضَعِيفٍ " إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ "
فَالفَضلُ لَهُ ـ تَعَالى ـ أَوَّلاً وَآخِرًا ، وَالمِنَّةُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ مَن جَاهَدَ في جِهَادِهِ وَوَفَّقَهُ ، وَهُوَ الَّذِي استَخلَفَهُ مِن قَبلُ في الأَرضِ وَرَزَقَهُ ، وَهُوَ الَّذِي بَعدَ ذَلِكَ يَقبَلُ عَمَلَهُ وَيَأجُرُهُ عَلَيهِ في الآخِرَةِ وَيُضَاعِفُ ثَوَابَهُ " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَنَجزِيَنَّهُم أَحسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعمَلُونَ "
وَلَقَد تَوَافَرَتِ الآيَاتُ في كِتَابِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مُقَرِّرَةً هَذَا المَعنى في النُّفُوسِ ، حَتَّى لا يَأتيَ عَامِلٌ فَيَمُنَّ بِعَمَلِهِ لأَنَّ النَّاسَ لم يُثَمِّنُوا جُهدَهُ ، أَو يَتَرَاجَعَ لأَنَّهُم قَصَّرُوا في حَقِّهِ ، أَو يُخَذِّلَ عَنِ الخَيرِ لأَنَّ أَهلَهُ وَالقَائِمِينَ عَلَيهِ لم يَأخُذُوا بِرَأيِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ . وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " نَعَم ، مَن يُقَدِّمْ خَيرًا يَجِدْهُ هُوَ بِنَفسِهِ ، وَمَن يَعمَلْ شَرًّا يَكُنْ عَلَيهِ حِملُهُ وَكِفلُهُ ، يَجِدُ كُلَّ ذَلِكَ في كِتَابٍ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا " يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ مُحضَرًا وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا "
فَمَا أَضَلَّ مَن جَعَلَ هَمَّهُ النَّاسَ فَطَلَبَ مَدَحَهُم وَخَافَ مِن ذَمِّهِم !
وَمَا أَشقَى مَن قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى رَدَّةِ فِعلِهِم نَحوَهُ فَتَصَرَّفَ بِنَاءً عَلَيهَا !
وَحِينَ يَرَى بَعضُ النَّاسِ لِنَفسِهِ فَضلاً لِعَمَلٍ صَالِحٍ فَعَلَهُ ، أَو يَغتَرُّ بِإِحسَانٍ قَدَّمَهُ وَبَذلَهُ ، يَأتي الرَّدُّ العَادِلُ مِنَ اللهِ ـ سُبحَانَهُ ـ حَيثُ قَالَ : " مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا ثُمَّ إِلى رَبِّكُم تُرجَعُونَ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِنْ أَسَأتُم فَلَهَا "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " مَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا " وَالمَعنى أَنَّ هِدَايَتَكُم لأَنفُسِكُم ، وَنَفعَ إِحسَانِكُم عَائِدٌ عَلَيكُم ، وَبَرَكَةَ طَاعَاتِكُم حَالَّةٌ عَلَيكُم قَبلَ غَيرِكُم ، حَيثُ يَفتَحُ اللهُ لَكُم بها أَبوَابَ الخَيرَاتِ ، وَيُضَاعِفُ لَكُم بها الأُجُورَ وَالحَسَنَاتِ ، ثُمَّ يُدخِلُكُم بِسَبَبِهَا الجَنَّاتِ وَيَرفَعُ لَكُمُ الدَّرَجَاتِ ، حِينَ يَقُولُ المُؤمِنُونَ هُنَاكَ مُعتَرِفِينَ بِفَضلِ رَبِّهِم : " الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَد جَاءَت رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بما كُنتُم تَعمَلُونَ "
إِنَّهَا قَاعِدَةٌ تَجعَلُ الإِنسَانَ مَسؤُولاً عَن عَمَلِهِ ، وَتَزِيدُ العَاقِلَ حِرصًا عَلَى إِتقَانِهِ ، لأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ الجَزَاءَ ثَمَرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِذَلِكَ العَمَلِ ، وَأَنَّهُ وَحدَهُ المُتَحَمِّلُ نَتَائِجَ أَيِّ تَفرِيطٍ وَتَقصِيرٍ ، فَإِنْ شَاءَ أَحسَنَ فَحَمِدَ العَاقِبَةَ ، وَإِنْ شَاءَ أَسَاءَ فَتَوَجَّهَ اللَّومُ إِلَيهِ .
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَنْ يَشكُرْ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنيٌّ حَمِيدٌ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا بَغيُكُم عَلَى أَنفُسِكُم "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفسِهِ "
وقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن يَبخَلْ فَإِنَّمَا يَبخَلُ عَن نَفسِهِ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " ثَلاثٌ مُهلِكَاتٌ : هَوًى مُتَّبَعٌ ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ ، وَإِعجَابُ المَرءِ بِنَفسِهِ " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
المشاهدات 4725 | التعليقات 4
ما شاء الله ما شاء الله .. بارك الله لك وفيك ، وزادك من فضله ..
العمل الإسلامي والدعوي محتاج إلى مثل هذه المعاني الأصيلة ...
فهناك فرق شاسع بين من يعمل ونيته الله والدار الآخرة وبين من همه ما يقوله الناس عنه أو ما يستفيده لشخصه من سمعة أو قيادة أو ريادة أو ظهور إعلامي .... إلخ .
ومشكلة تمنيت لو احتوتها الخطبة شيخنا الكريم وهي تقديم بعض العاملين مصلحة شخصية قد لا تكون متحققة على مصالح عامة متحققة أو يغلب على الظن تحققها .
تجد بعض الشباب ما إن يحصل بينه وبين أحد العاملين في مؤسسة ما خلاف صغير حتى يضحي بما هنالك من نجاحات ويلقي بها خلف ظهره ويفتح ثغرة كانت مسدودة به فيختل العمل ويحتاج إخوانه إلى أن يبحثوا عن شخص آخر مناسب فيتأثر العمل بذلك سلبيا ...
وأما مسألة المن فنعوذ بالله من المن وهو لا يحصل بشكل مباشر ولكنه يتخذ أشكالا وألوانا مختلفة وللشيطان فيه مداخل دقيقة فنعوذ بالله من نزغات الشيطان ...
شكر الله مروركم وثناءكم ، وأجاب دعاءكم ، ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل ، وجنبنا الخطل والزلل .
والحقيقة أن موضوع المن بالصدقة والعطاء ، وتقلب العامل تبعًا لنفسيته ورغباته الشخصية ، مما يشكو منه مجتمع الدعوة والعمل الخيري بشكل عام ، وخاصة في هذه الأزمنة التي اتجهت فيها النفوس إلى حب التصدر ، وتمادت مع الرغبة الجامحة في إبراز الذات ، واستسلم كثيرون لنوازع الشهرة والبروز ، والتي يغري بريقها ولمعانها كثيرين وهم لا يشعرون ، فيتمادون فيما لا يحسنون ، ويمنع عدم حصولها أشخاصًا آخرين من الاستمرار في العمل مع ما يحملونه من صفات قيادية ومهارات تجعلهم قادرين على التأثير في غيرهم التأثير الحسن لو صبروا وطلبوا ما عند الله .
فإلى الله المشتكى وعليه التكلان .
أبو البراء
الدال على الخير كفاعله جزاك الله خير الجزاء *
تعديل التعليق