خطبة : ( منع ذي الشرف من التبذير والسرف )

عبدالله البصري
1436/07/05 - 2015/04/24 03:07AM
منع ذي الشرف من التبذير والسرف 5 / 7 / 1436
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ"
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ بِلادَنَا اليَومَ ، تَمُرُّ بِمَرحَلَةِ اختِبَارٍ صَعبٍ ، وَتَعِيشُ حِقبَةَ ابتِلاءٍ شَدِيدٍ ، قَد تَكُونُ هِيَ الأَصعَبَ وَالأَشَدَّ فِيمَا مَرَّ مِن تَأرِيخِهَا ، إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَى النَّاسِ الخَيرَ فَتحًا عَظِيمًا ، وَكَثُرَتِ النِّعَمُ وَتَوَالَت وَتَنَوَّعَت ، حَتَّى لا يَستَطِيعُونَ لها عَدًّا ، ثم هُم في المُقَابِلِ وَقَد غَرِقُوا في هَذِهِ النِّعَمِ وَالخَيرَاتِ ، قَدِ ابتُلُوا بِقُوَى شَرٍّ تَكَالَبَت عَلَيهِم مِن كُلِّ مَكَانٍ ، وَاجتَمَعَت عَلَى حَربِهِم بِكُلِّ وَسِيلَةٍ ، اِستَوَى في ذَلِكَ مَن هُم في الخَارِجِ مِن يَهُودٍ وَنَصَارَى ، وَمَن يَعِيشُونَ بَينَنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلسِنَتِنَا ، مِن عِلمَانِيِّينَ وَرَافِضَةٍ ، وَأَصحَابِ شُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ .
وَفي الحِينِ الَّذِي يَتَّفِقُ الجَمِيعُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الشَّرَّ الَّذِي قَد يَحُلُّ بِالأُمَّةِ أَفرَادًا وَمُجتَمَعَاتٍ ، هُوَ فِتنَةٌ لَهُم وَابتِلاءٌ وَاختِبَارٌ ، فَإِنَّ قَلِيلِينَ مِمَّن رُزِقُوا الفِقهَ وَالفَهمَ وَالتَّوفِيقَ ، يَعلَمُونَ أَنَّ فِتنَةَ الخَيرِ لا تَقِلُّ عَن فِتنَةِ الشَّرِّ ، إِن لم تَكُنْ في بَعضِ الأَوقَاتِ أَشَدَّ مِنهَا فَتكًا بِالأُمَمِ ، إِذِ إِنَّ المُبتَلَى بِالشَّرِّ غَالِبًا مَا يَتُوبُ إِلى رَبِّهِ وَيَعُودُ إِلى رُشدِهِ ، وَيَتَضَرَّعُ إِلى مَولاهُ وَيَستَكِينُ بَينَ يَدَيهِ ، لأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُصِيبُهُ مِمَّا لا يُحِبُّهُ ، إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ تَقصِيرِهِ وَذَنبِهِ ، كَمَا قَالَ ـ تَعَالى ـ : " أَوَلَمَّا أَصَابَتكُم مُصِيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِثلَيهَا قُلتُم أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم " وَكَمَا قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم "
وَأَمَّا المُبتَلَى بِالخَيرِ وَتَرَادُفِ النِّعَمِ ، فَتَرَاهُ عَادَةً مَا يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ عَلامَةُ رِضًا مِنَ اللهِ عَنهُ وَقَبُولٍ لِعَمَلِهِ ، وَمَحَبَّةٍ لِمَا هُوَ عَلَيهِ ، فَتَرَاهُ لِذَلِكَ يَنغَمِسُ في النَّعِيمِ وَيَذهَلُ عَمَّا حَولَهُ ، بَلْ لا يَلبَثُ أَن يَتَكَبَّرَ وَيَطغَى أَنْ رَآهُ استَغنَى ، ثم لا يَستَكِينُ وَلا يَتَضَرَّعُ وَلا يَتُوبُ وَلا يَؤُوبُ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَن رَبِّهِ في تَبَاعُدٍ وَهُرُوبٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَا أَنعَمنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ " وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيهِ ثم إِذَا خَوَّلَهُ نِعمَةً مِنهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدعُو إِلَيهِ مِن قَبلُ وَجَعَلَ للهِ أَندَادًا لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثم إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلمٍ بَلْ هِيَ فِتنَةٌ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ "
إِنَّ مِن سُنَّةِ اللهِ في خَلقِهِ ، أَن يُبتَلَوا بِالشِّدَّةِ وَالبَأسَاءِ ، لَعَلَّ قُلُوبَهُم تَلِينُ وَتَرِقُّ فَيَتُوبُوا وَيَرجِعُوا إِلى رَبِّهِم ، فَإِذَا هُم لم يَفعَلُوا ، بُلُوا بِأَلوَانٍ مِنَ الرَّخَاءِ وَالسَّرَّاءِ ، وَفُتِحَت عَلَيهِم أَبوَابُ النَّعمَاءِ ، حتى يَكثُرُوا بَعدَ قِلَّةٍ ، وَيَستَغنُوا بَعدَ عَيلَةٍ ، وَحَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيهِم أَنَّ تِلكَ القِلَّةَ وَذَلِكَ الفَقرَ ، قَد أَصبَحَا تَأَريِخًا يُروَى وَمَاضِيًا يُطوَى ، أَو بَلوَى خُصَّ بها الآبَاءُ وَالأَجدَادُ ، وَأَمَّا هُم فَإِنَّهُم في مَأمَنٍ مِن ذَلِكَ ، ثم لا يَشعُرُونَ وَهُم في غَفلَتِهِم وَقِلَّةِ مُبَالاتِهِم ، إِلاَّ وَعَذَابُ اللهِ يَنزِلُ عَلَيهِم بَغتَةً وَهُم سَادِرُونَ ، وَسَخَطُهُ يَحُلُّ بهم فَجأَةً وَهُم غَافِلُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا أَرسَلنَا في قَريَةٍ مِن نَبيٍّ إِلاَّ أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ . ثُمَّ بَدَّلنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدَّ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذنَاهُم بَغتَةً وَهُم لا يَشعُرُونَ "
فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، هَل نَحنُ في مَعزِلٍ عَن سُنَنِ اللهِ في خَلقِهِ ؟!
هَل عِندَنَا مِنهُ مَوثِقٌ بِأَلاَّ يُعَذِّبَنَا إِذَا نَحنُ تَغَافَلنَا عَن أَوَامِرِهِ فَتَرَكنَاهَا ، وَتَنَاسَينَا نَوَاهِيَهُ فَارتَكبنَاهَا ، وَتَسَاهَلنَا بِحَقِّ نِعَمِهِ فَكَفَرنَاهَا ؟!
" أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ "
لَقَدِ ابتُلِيَ أَجدَادُنَا وَآبَاؤُنَا بِالشِّدَّةِ وَالفَقرِ وَقِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ ، فَصَبَرُوا عَلَى المِحنَةِ وَاحتَمَلُوا المَشَقَّةَ ، وَكَانُوا إِلى رَبِّهِم أَقرَبَ وَفِيمَا عِندَهُ أَرغَبَ ، وَعَاشُوا مُتَوجِّهِينَ إِلَيهِ مُتَوَكِّلِينَ عَلَيهِ ، ثم لم نَشعُرْ حَتَّى حَلَّ الرَّخَاءُ مَحَلَّ الشِّدَّةِ ، وَاليُسرُ مَكَانَ العُسرِ ، وَالنِّعمَةُ بِدَلاً مِنَ الشَّظَفِ ، وَالكَثرَةُ مَكَانَ القِلَّةِ ، وَالأَمنُ بَدَلاً مِنَ الخَوفِ ، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنَّا يَظُنُّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَحضَ كَرَامَةٍ وَمَتَاعٍ وَرَخَاءٍ وَنَعمَاءَ ، وَلم يَخطُرْ بِبَالِهِ يَومًا أَنَّهُ لا يَخلُو في الحَقِيقَةِ مِنِ اختِبَارٍ وَابتِلاءٍ . نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ اللهَ يَبتَلِي بِالخَيرِ كَمَا يَبتَلِي بِالشَّرِّ ، وَيَبتَلِي بِالغِنى كَمَا يَبتَلِي بِالفَقرِ ، وَيَبتَلِي بِالقُوَّةِ كَمَا يَبتَلِي بِالضَّعفِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ "
أَلا فَمَا أَحرَانَا أَن نَتَّقِيَ اللهَ وَنَحفَظَ نِعَمَهُ ، وَنَخشَى بَطشَهُ وَنَحذَرَ نِقَمَهُ ! إَنَّهُ لا يُمنَعُ المُسلِمُ مِنَ التَّجَمُّلِ وَالتَّمَتُّعِ بما رَزَقَهُ اللهُ ، وَلا مِنَ الإِنفَاقِ مِنهُ في جُودٍ وَسَخَاءٍ وَكَرَمٍ ، وَلَكِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَحدُودٌ بِحُدُودٍ لا يَجُوزُ لِمَن كَانَ يَخشَى اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ أَن يَتَجَاوَزَهَا وَيَتَعَدَّاهَا ، وَإِلاَّ كَانَ مِنَ المُفسِدِينَ المُتَكَبِّرِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ وَكُلُوا وَاشرَبُوا وَلا تُسرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفِينَ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " كُلُوا وَاشرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالبَسُوا مَا لم يُخَالِطُ إِسرَافٌ وَلا مَخِيلَةٌ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالنَّسَائيُّ وَابنُ مَاجَه ، وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عَن فِرعَونَ ، أَطغَى أَهلِ زَمَانِهِ وَأَشَدِّهِم تَكَبُّرًا : " وَإِنَّ فِرعَونَ لَعَالٍ في الأَرضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسرِفِينَ "
وَالإِسرَافُ وَالإِفسَادُ قَرِينَانِ ، وَقَد قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَالِحٌ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ لِقَومِهِ : " فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ . وَلا تُطِيعُوا أَمرَ المُسرِفِينَ . الَّذِينَ يُفسِدُونَ في الأَرضِ وَلا يُصلِحُونَ "
وَالمُسرِفُونَ المُبَذِّرُونَ ، وَإِن هُمُ اغتَرُّوا بِمَدحِ النَّاسِ لَهُم وَثَنَاءِ الجُهَّالِ عَلَيهِم ، فَهُم عِندَ اللهِ مَذمُومُونَ مُهَانُونَ " وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ "
وَإِنَّمَا يَستَحِقُّ المَدحَ وَالثَّنَاءَ مَن مَدَحَهُمُ اللهُ وَأَثنَى عَلَيهِم ، وَهُم أَهلُ التَّوَسُّطِ وَالاعتِدَالِ , الَّذِينَ يَنظُرُونَ فِيمَا يُرِيدُهُ اللهُ فَيَأتُونَهُ ، وَفِيمَا لا يُرضِيهِ فَيَترُكُونَهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لم يُسرِفُوا وَلم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلا تَجعَل يَدَكَ مَغلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقعُدَ مَلُومًا مَحسُورًا " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَآتِ ذَا القُربى حَقَّهُ وَالمِسكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبذِيرًا . إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا "
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ . وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُونَ . فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِنْ كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ ، وَاعلَمُوا ـ رَحِمَني اللهُ وَإِيَّاكُم ـ أَنَّ مُلكَنَا لِلمَالِ في هَذِهِ الحَيَاةِ ، لَيسَ مُلكًا مُطلَقًا ، فَنَتَصَرَّفَ فِيهِ كَيفَ نَشَاءُ وَحَسبَمَا تُملِيهِ عَلَينَا رَغَبَاتُنَا وَشَهَوَاتُنَا ، أَو نَبذُلَهُ تَمَشِّيًا مَعَ العَادَاتِ القَبَلِيَّةِ ، أَو رُضُوخًا لِلأَعرَافِ وَالضُّغُوطِ الأُسرِيَّةِ ، أَو افتِخَارًا وَطَلَبًا لِلسُّمعَةِ وَمَدحِ الآخَرِينَ ، أَو لِنُرِيَهُم أَنَّنَا أَكثَرُ مِنهُم إِنفَاقًا وَأَجزَلُ عَطَاءً ، أَو أَطوَلُ أَيدِيًا وَأَعظَمُ سَخَاءً ، إِنَّ مِثلَ هَذَا التَّفكِيرِ السَّطحِيِّ الضَّيِّقِ ، إِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ مِن آثَارِ الجَهلِ وَالجَاهِلِيَّةِ ، مَا زَالَت تَحمِلُهُ نُفُوسٌ لم تَذُقْ طَعمَ الإِيمَانِ وَالحَنِيفِيَّةِ ، وَلم تُدرِكْ لَذَّةَ العَطَاءِ الحَقِيقِيِّ ، نُفُوسٌ حُرِمَتِ الاستِسلامَ للهِ وَالانقِيَادَ لَهُ بِالطَّاعَةِ في كُلِّ شَأنٍ صَغُرَ أَو كَبُرَ ، وَأَبَت إِلاَّ أَن تَستَسلِمَ لِلأَوهَامِ ، وَتَضَعَ رِقَابَهَا وَأَيدِيَهَا في أَغلالِ العَادَاتِ القَبَلِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ ، وَقُيُودِ العُنصُرِيَّةِ الشَّيطَانِيَّةِ ، لِتَنقَادَ مَعَ المُتَبَاهِينَ بِكَثرَةِ مَا يَنحَرُونَهُ مِنَ الإِبِلِ أَو عَدَدِ مَا يَذبَحُونَهُ مِنَ الغَنَمِ ، في أَشَرٍ وَبَطَرٍ ، وَاختِيَالٍ وَبَذَخٍ ، وَتَبدِيدٍ لِلنِّعَمِ وَاستِجلابٍ لِلنِّقَمِ ، وَأَمَّا المُسلِمُ الَذِي أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ ، وَعَلِمَ بِدَايَةَ خَلقِهِ وَنِهَايَةَ أَمرِهِ ، فَهُوَ شَامِخُ الأَنفِ بِإِسلامِهِ ، رَافِعُ الرَّأسِ بِإِيمَانِهِ ، لا يُهِمُّهُ إِذَا رَضِيَ اللهُ عَنهُ ، أَن يَرضَى النَّاسُ أَو يَسخَطُوا ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاعلَمُوا أَنَّ في المَالِ حُقُوقًا مُقَدَّرَةً بِمَقَادِيرَ مَوزُونَةٍ ، وَمُرَادًا بها مَوَاقِعُ مُحَدَّدَةٌ ، فَمَن جَهِلَ مَقَادِيرَ تِلكَ الحُقُوقِ فَزَادَهَا عَن حَدِّهَا صَارَ مُسرِفًا ، وَمَن جَهِلَ بِمَوَاقِعِ تِلكَ الحُقُوقِ وَصَارَ يَخبِطُ فِيهَا خَبطَ عَشوَاءَ عُدَّ مُبَذِّرًا ، وَاللهُ لا يُحِبُّ المُسرِفِينَ ، وَالمُبَذِّرُونَ إِخوَانُ الشَّيَاطِينَ ، وَالمَالُ مَهمَا كَثُرَ أَو زَادَ ، فَهُوَ أَقَلُّ مِن أَن يُوضَعَ في كُلِّ مَوضِعٍ مِن حَقٍّ وَغَيرِ حَقٍّ ، بَلْ إِنَّ مِن حِكمَةِ اللهِ وَسُنَّتِهِ الجَارِيَةِ في خَلقِهِ ، أَنَّهُ مَا أَسرَفَ مُنفِقٌ في جَانِبٍ وَوَضَعَ المَالَ في غَيرِ حَقٍّ ، إِلاَّ أَضَاعَ مِنَ الحُقُوقِ الوَاجِبَةِ وَالمُستَحَبَّةِ شَيئًا كَثِيرًا ، وَقَد رُوِيَ عَن مُعَاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ سَرَفٍ فَبِإِزَائِهِ حَقٌّ مُضَيَّعٌ . نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ الأُمَّةَ المُسلِمَةَ أُمَّةٌ وَسَطٌ ، خِيَارٌ عُدُولٌ ، غَيرُ مُفَرِّطِينَ وَلا مُفرِطِينَ ، وَمَن حَادَ عَن طَرِيقَتِهِم وَتَنَكَّبَ سُنَّتَهُم ، وَأَبى إِلاَّ التَّطَرُّفَ يَمِينًا أَو شِمالاً ، فَلا بُدَّ أَن يَقَعَ فِيمَا لا يُرضَى وَلا يُحمَدُ ، وَأَن يَندَمَ حِينَ يَقدُمُ عَلَى رَبِّهِ فَيَسأَلُهُ عَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ ؟؟ وَأَنتُم تُشَاهِدُونَ في الوَاقِعِ ، أَنَّهُ مَا أَسرَفَ قَومٌ في الوَلائِمِ وَالدَّعَوَاتِ وَالحَفَلاتِ ، وَتَنَافَسُوا في الرُّسُومِ القَبَلِيَّةِ البَائِدَةِ ، وَتَسَابَقُوا في فُضُولِ العَادَاتِ السَّيِّئَةِ ، وَتَكَاثَرُوا فِيمَا يُقَدِّمُونَهُ وَتَفَاخَرُوا ، إِلاَّ كَانُوا مِن أَقَلِّ النَّاسِ أَدَاءً لما افتَرَضَهُ اللهُ ، وَأَبطَئِهِم عَنِ الإِنفَاقِ في سَبِيلِهِ ، وَأَشَدِّهِم حِرمَانًا مِن بَرَكَةِ المَالِ ، وَأَكثَرِهِم إِعرَاضًا وَبُخلاً إِذَا جَاءَتِ المَوَاقِفُ الَّتي يُنفَقُ فِيهَا في وُجُوهِ الخَيرِ وَسُبُلِ البِرِّ ، مِن بِنَاءِ المَسَاجِدِ أَو دَعمِ بَرَامِجِ الدَّعوَةِ ، أَو تَفرِيجِ كُرُبَاتِ المَكرُوبِينَ وَالتَّنفِيسِ عَنِ المُعسِرِينَ ، وَهَذَا مِصدَاقُ قَولِ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ : " إِنَّ اللهَ لا يَهدِي مَن هُوَ مُسرِفٌ كَذَّابٌ "
المرفقات

منع ذي الشرف من التبذير والسرف.doc

منع ذي الشرف من التبذير والسرف.doc

منع ذي الشرف من التبذير والسرف.pdf

منع ذي الشرف من التبذير والسرف.pdf

المشاهدات 2400 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


وفقك الله وجعل ذلك في ميزان حسناتك