خطبة منتقاة من كتب الزهد
الفريق العلمي
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا شَاءَ صَنَعَ، وَمَا شَاءَ رَفَعَ، وَمَا شَاءَ وَضَعَ، وَمَا شَاءَ أَعْطَى، وَمَنْ شَاءَ مَنَعَ.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27].
اللهم لك الحمد ملءَ السماوات وملء الأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجَد.
وأشهد أن لا إله إلا االله وحده، المعبود بحقٍ، لا شريك له، ولا مثيل له، هو خير وأبقى، له الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله، أرسله الله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7، 8]، إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ غُرُورٍ، وَزِينَةٌ تَتَقَلَّبُ، تُضْحِكُ بَاكِيًا، وَتُبْكِي ضَاحِكًا، وَتُخِيفُ آمِنًا، وَتُؤَمِّنُ خَائِفًا، تُفْقِرُ مُثْرِيهَا، وَتُثْرِي فَقِيرَهَا، مَيَّالَةٌ لَاعِبَةٌ بِأَهْلِهَا، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.
يَا عِبَادَ اللَّهِ اتَّخِذُوا كِتَابَ اللَّهِ إِمَامًا، وَارْضُوا بِهِ حُكْمًا، وَاجْعَلُوهُ لَكُمْ قَائِدًا، فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَلَنْ يَنْسَخَهُ كِتَابٌ بَعْدَهُ، وَاعْلَمُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَجْلُو كَيْدَ الشَّيْطَانِ، وأنه شِفاءٌ لما في الصدور، وأنه ينابيع العلم، فمنْ تَعلَّمَه وتَدبَّره فهو خيرُ الناسِ وأعلَمُهم، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
القرآن يُعرِّفك حقيقة حياتك الفانية، وما يجب عليك فيها من عبادة الله بالإخلاصِ والمداومة، ومعاملةِ الناس بالصدق والأمانة، ويُحذِّرُك من الاغترار بالدنيا الغدارة، ويحثك على الإقبال على الآخرة الباقية، مع عدم نسيان نصيبك من الدنيا بالحلال الذي لا شبهة فيه، والشكر على نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، والصبرِ على كل بلوى، وتذكرِ الموت والبِلى.
كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ؟ كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجَلِهِ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ؟!
أيها العبد، إِنَّكَ اسْتَدْبَرْتَ الدُّنْيَا مُنْذُ دَخَلْتَهَا، وَاسْتَقْبَلْتَ الْآخِرَةَ، فَأَنْتَ إِلَى دَارٍ تَقْرُبُ مِنْهَا أَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى دَارٍ تُبَاعِدُ عَنْهَا، بِئْسَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا إِلَّا لِمَنْ أَطَاعَ اللهَ فِيهَا، وخرج منها وَرَبُّه رَاضٍ عَنْه بما سعى فيها، فالدنيا مزرعةُ الآخرة، فازرعْ فيها الخير لتحصده في الجنة، وتكون ممن يقول الله لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
وَيْلٌ لِصَاحِبِ الدُّنْيَا كَيْفَ يَمُوتُ وَيَتْرُكُهَا، وَتَغُرُّهُ وَيَأْمَنُهَا، وَتَخْذُلُهُ وَيَثِقُ بِهَا؟ وَيْلٌ لِلْمُغْتَرِّينَ بِالدُّنْيَا كَيْفَ أَرَتْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، وَفَارَقَهُمْ مَا يُحِبُّونَ، وَجَاءَهُمْ مَا يُوعَدُونَ؟ وَيْلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ، وَالْخَطَايَا عَمَلُهُ، كَيْفَ يَفْتَضِحُ غَدًا بِذَنْبِهِ؟
عَجَبًا مِمَّنِ الدُّنْيَا مُوَلِّيَةٌ عَنْهُ وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ إِلَيْهِ، وَهُو يَشْتَغِلُ بِالْمُدْبِرَةِ، وَيُعْرِضُ عَنِ الْمُقْبِلَةِ! عَجَبًا مِمَّنْ يَحْزَنُ عَلَى نُقْصَانِ مَالِهِ، وَلَا يَحْزَنُ عَلَى فَنَاءِ عُمْرِهِ، أَمَا يَكْفِي أَهْلَ الدُّنْيَا مَا يُعَايِنُونَ مِنْ كَثْرَةِ الْفَجَائِعِ، وَتَتَابُعِ الْمَصَائِبِ فِي الْمَالِ وَالْإِخْوَانِ، وَالنَّقْصِ فِي الْقُوَى وَالْأَبْدَانِ؟!
حَيَاتُكَ بِالْهَمِّ مَقْرُونَةٌ ... فَمَا تَقْطَعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِهَمِّ
لَذَاذَاتُ دُنْيَاكَ مَسْمُومَةٌ ... فَمَا تَأْكُلُ الشَّهْدَ إِلَّا بِسُمِّ
إِذَا تَمَّ أَمْرٌ بَدَا نَقْصُهُ ... تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيلَ تَمّ
يَا ابْنَ آدَمَ فَرِحْتَ بِبُلُوغِ أَمَلِكَ، وَإِنَّمَا بَلَغْتَهُ بِنُقْصَانِ أَجَلِكَ، ثُمَّ سَوَّفْتَ بِعَمَلِكَ، كَأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِغَيْرِكَ!
مَا أَعْطَى اللَّهُ الدُّنْيَا لِمَنْ أَعْطَاهَا إِلَّا اخْتِبَارًا، وَلَا زَوَاهَا عَمَّنْ زَوَاهَا إِلَّا اخْتِبَارًا، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 15 - 24].
يَا ابْنَ آدَمَ، تَذَكَّرْ مَوتَكَ، وَتَهَيَّأْ َلِنَشْرِ حِسَابِكَ، فَيَسْأَلُكَ اللَّهُ عَنِ النَّقِيرِ وَالْفَتِيلِ وَالْقِطْمِيرِ، وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْبَرُ، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وَمَا تُغْنِي حَيَاةٌ بَعْدَهَا الْمَوْتُ؟! {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورِ} [لقمان: 33].
أكثر الناس في غفلة عن طاعة ربهم، لاهين بدنياهم، تاركين العمل للآخرة وهي خير من الدنيا وأبقى، ترى الغافل يعملُ كَدًّا كَدًّا لِمَا يَفْنَى، وَهو غافلٌ عَمَّا يَدُومُ وَيَبْقَى، إن أغناه الله طغى ولم يشكر، وإن أفقره الله وابتلاه ضجر ولم يصبر، وسيندم الغافل حين يأتيه الموت فجأة، فيعلم أنه قد فرط في طاعة ربه، وأنه كان في غرور وغفلة، فيتمنى الرجوع إلى الدنيا للتوبة، فيا حسرة على من عاش في الدنيا غافلا عن عبادة الله العظيم، معرضا عن ذكره وشكره، كيف سيكون حسابه؟ وماذا سيكون جوابه؟
{ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66]، {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
مَا الدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا إِلَّا كَرَجُلٍ نَامَ نَوْمَةً فَرَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يُحِبُّ، ثُمَّ انْتَبَهَ!
أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ ... إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ
النَّاسُ نِيَامٌ، فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا وَنَدِمُوا، وَإِذَا نَدِمُوا لَمْ تَنْفَعْهُمْ نَدَامَتُهُمْ.
نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا ... فَلَا دِينُنَا يَبْقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ
الْمَوْتُ مِنَ الْإِنْسَانِ قَرِيبٌ، وَفِي كُلِّ يَومٍ يَنْتَقِصُ مِنْهُ نَصِيبٌ، وَلِلْبِلَى فِي جِسْمِهِ دَبِيبٌ، فَبَادِرْ بِالْعَمَلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الأَجَلُ، فَالدُّنْيَا مَمَرٌّ، وَالْآخِرةُ هِيَ الْمُسْتَقَرُّ.
بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 1 - 8].
وَيْلٌ لِمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا أَمَلَهُ، وَالْخَطَايَا عَمَلَهُ، عَالِمٌ بِأَمْرِ دُنْيَاهُ، جَاهِلٌ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ.
{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 6 - 12].
أَلَا إِنَّ الْأُمُورَ غَدًا ... تَصِيرُ إِلَى حَقَائِقِهَا
أيها الناس، تَفَكَّرُوا وَاعْمَلُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمُوا، وَلَا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا الخدَّاعَة، فَإِنَّ صَحِيحَهَا يَسْقَمُ، وَجَدِيدَهَا يَبْلَى، وَنَعِيمَهَا يَفْنَى، وَشَبَابَهَا يَهْرَمُ، وهي أمد، والآخرة هي الأبد.
أيها المسلم، اتق الله، ولا تتعد حدود الله، ولا تخالف سنة رسول الله، فمن عصا الله ورسوله فإنه من الضالين، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، لا تتهاون بمعصية الله، ولا تنظر إلى صِغَر المعصِية، وانظرْ إلى عظمة من عصيت!
ومما يدعو المسلم إلى الخوف الشديد من الله العظيم هذه القصة التي ذكرها الله في كتابه، وهي قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، حرم الله على أهلها اليهود الصيد يوم السبت، وابتلاهم بمجيء الحيتان إلى الشاطئ بكثرة يوم السبت دون بقية الأيام، فلم يصبروا، وتعدوا ما نهاهم الله عنه من الصيد يوم السبت، فاحتالوا على النهي بأن وضعوا شباك الصيد يوم الجمعة، فلما جاءت الحيتان يوم السبت علِقت في الشباك وتم صيدُها، ثم سحبوا الشباك المليئة بالأسماك يوم الأحد، فغضب الله عليهم، ولعنهم، وجعلهم قردة خاسئين؛ لأنهم ارتكبوا ما نهاهم الله عنه بتلك الحيلة، فكيف بمن يرتكب ما نهاه الله عنه بكل جرأة أو يحتال على أخذ حقوق الناس بالمكر والحيلة؟! كيف بمن يعصي الله وهو يعلم أنها حرام عليه ولا يبالي، وربما برر لنفسه استحلالها بالأماني؟!
تأملوا في هذه القصة التي فيها عبرة، فإنه لم ينفعهم إيمانهم بالله حين عصوه، وقد نصحهم الناصحون فاغتروا برأيهم، وطمعوا في زيادة المال، ولم يقنعوا بالحلال، وظنوا أن مخالفة نهي الله بصيد الحيتان يوم السبت أمرًا صغيرًا لا يضرهم، ولم يظنوا أن تلك المخالفة كانت سببا لغضب الله عليهم، مع أن تلك الحيتان لم تكن مِلْكًا لأحد، ولا شك أن أخذ حقوق الناس أعظم من صيد الحيتان، وأن بعض المعاصي التي نقع فيها أعظم إثما من مجرد تلك المخالفة بالصيد يوم السبت في شريعة بني إسرائيل، ولكن الله يؤخر العقاب ليوم الحساب، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.
أيها المسلم، تُبْ إلى اللهِ الذي يَفْرحُ بِتوبةِ عَبدِه حِينَ يَتُوبُ إِليه، وقَدِّمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ، وَدَعْ عَنْكَ كَثْرَةَ الْأَشْغَالِ، بَادِرْ بَادِرْ قَبْلَ نُزُولِ مَا تُحَاذِرُ.
يا مَن بِدُنياهُ اشتَغَل ... وَغَرَّهُ طُولُ الأَمَل
المَوتُ يَأتي بَغتَةً ... والقبرُ صندوقُ العَمَل
فالتوبةَ التوبةَ، فلا سعادة للإنسان إلا بالتوبة، ولا حياة طيبة للعبد إلا بالعبادة، ولا طمأنينة للقلب إلا بذكر الله وتلاوة كتابه.
أيها العاقِل، لا تغترَّ بِكل غَافِل، أَصْلِحْ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ يُغْفَرْ لَكَ مَا مَضَى مِنْ سَيِّء عَمَلِك، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلَّها، دِقَّها وجِلَّها، أولها وآخرها، علانيتها وسرها، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ بِآلَائِهِ، الْمَعْبُودِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، أَفْضَلَ الْحَمْدِ وَأَعْلَاهُ، وَغَايَةَ الْحَمْدِ وَمُنْتَهَاهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، وَخِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ، أَفْضَلَ مَا صَلَّى عَلَيْهِ مُصَلٍّ مِنْ أُمَّتِهِ، أَمَّا بَعْدُ:
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نَوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15]، وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 19]، وَقَالَ: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، وَقَالَ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 14]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 38].
أيها المسلمون، كُونُوا مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذَرٍ، وَمِنْ دُنْيَاكُمْ عَلَى خَطَرٍ، وَلِقُدُومِ الْآخِرَةِ عَلَى وَجَلٍ، تَذَكَّرُوا الموْتَ حتَّى لا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا الفَانِيَة، واعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ الَّتِي تَنْفَعُكُمْ فِي الآخِرةِ البَاقِيَة، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 14 - 17].
عَجَبًا لِمَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا وتَغَيُّرِهَا بأَهْلِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا؟! وَعَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ لَا يَسْتَعِدُّ لَه؟! وَعَجَبًا لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَعْمَلُ الْخَطَايَا ولا يَتُوبُ؟!
أيها الناس، الدُّنْيَا دَارُ أَشْغَالٍ، وَالْآخِرَةُ دَارُ أَهْوَالٍ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ بَيْنَ الْأَشْغَالِ وَالْأَهْوَالِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَارُ، إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى نَارٍ.
أيها المسلمون، إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارِكُمْ، دَارٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْفَنَاءَ، وَكَتَبَ عَلَى أَهْلِهَا مِنْهَا الظَّعْنَ، فَكَمْ عَامِرٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرَبُ، وَكَمْ مُقِيمٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَظْعَنُ، فَأَحْسِنُوا مِنْهَا الرِّحْلَةَ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلَالٍ قَلَصَ فَذَهَبَ، بَيْنَمَا ابْنُ آدَمَ فِي الدُّنْيَا قَرِيرَ الْعَيْنِ إِذْ دَعَاهُ اللَّهُ بِقَدَرِهِ، وَرَمَاهُ بِيَوْمِ حَتْفِهِ، فَسَلَبَهُ آثَارَهُ وَدُنْيَاهُ، وَصَيَّرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ مَغْنَاهُ، إِنَّ الدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ، إِنَّهَا تَسُرُّ الغافلَ قَلِيلًا، وَتُحْزِنُهُ حُزْنًا طَوِيلًا، {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82].
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالْأَيَّامِ نَقْطَعُهَا ... وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ
أيها الناسُ، لَا تَجْمَعُوا مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَلَا تَبْنُوا مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَلَا تَنَافَسُوا فِي شَيْءٍ غَدًا عَنْهُ تَزُولُونَ، وَارْغَبُوا فِي الآخِرةِ الَّتِي فِيهِا تَخْلُدُونَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
قال بعض العُلماءُ الحُكَماء: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّرْكِ لِلدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تُحِبُّونَ تَرْكَهَا، الْمُبْلِيَةِ أَجْسَامَكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ تَجْدِيدَهَا، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَمَثَلِ مُسافِرينَ سَلَكُوا طَرِيقًا، فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَكَمْ عَسَى أَنْ يَبْقَى مَنْ لَهُ يَوْمٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ يَطْلُبُهُ حَتَّى يُفَارِقَهَا؟ فَلَا تَجْزَعُوا لِبُؤْسِهَا وَضَرَّائِهَا، فَإِنَّهُ إِلَى انْقِطَاعٍ، وَلَا تَفْرَحُوا بِنَعِيمِهَا، فَإِنَّهُ إِلَى زَوَالٍ، عَجِبْتُ لِطَالِبِ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٍ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ!».
أيها المسلمون، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ مَجِيءِ الشُّبُهَاتِ، وَالْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ نُزُولِ الشَّهَوَاتِ، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 37 - 46].
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بِتَقْوَى اللَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَوَفَاءِ الْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، وَرَحْمَةِ الْيَتِيمِ، والصَّدَقَةِ عَلَى المَسْكِين، وَحِفْظِ الْجِوَارِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ السَّلَامِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ، واتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَحُبِّ الْآخِرَةِ، وقَمْعِ النَّفْسِ، ومُخَالَفَةِ الهَوَى، ومُرَاغَمَةِ الشَّيطَانِ، وَقِصَرِ الْأَمَلِ، وَحُسْنِ الْعَمَلِ، وَالْجَزَعِ مِنَ الْحِسَابِ، وَأَنْ نُحْدِثْ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، واغفر لنا أجمعين، اللَّهُمَّ زِدِ الصَّالِحين مِنَّا صَلاحًا وتَوفِيقًا، وزِدِ المُحْسِنِينَ إِحْسَانًا وإِخْلَاصًا، واهدِ المسِيئِينَ مِنَّا إِلَى التَّوْبَةِ النَّصوحِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِ صَلَاحٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، اللهم عليك باليهود والنصارى المعتدين الظالمين، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في فلسطين، واجعل لهم فرجا ومخرجا، وانصرهم نصرا مؤزرا، اللهم ارحم موتاهم، وتقبل شهداءهم، واشف جرحاهم، وعاف مبتلاهم، وأنزِل عليهم السَّكينةَ والرحمة، اللهم هيء الأسباب لتحرير المسجد الأقصى، فإنك على كل شيء قدير، وأنت القوي العزيز.
اللهم صل وسلم على نبينا محمدٍ سيدِ المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.