خطبة مشكولة عن دار الضيافة
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
الخطبة الأولى:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَرَاقِبُوهُ وَأَطِيعُوهُ وَلَا تَعْصُوهُ؛ وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ كَرَامَةً لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَالنَّارَ عُقُوبَةً لِمَنْ عَصَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ لِلْعَالَمِينَ، صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ الْكُبْرَى، وَالشَّفَاعَةِ الْخَاصَّةِ لِمَنِ اتَّبَعُوهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]؛ ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ أَسْكَنَ اللَّهُ الْبَشَرِيَّةَ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَتْرُكْهَا هَمَلًا وَلَا سُدًى؛ بَلْ لِيُعَمِّرُوهَا رُوحًا وَحِسًّا، وَأَبْلَغَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَأْتِيهِمْ مِنْهُ هُدًى؛ فَإِنِ اتَّبَعُوهُ سَعِدُوا، وَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ شَقُوا؛ قَالَ رَبُّنَا: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 38-39].
وَبَعْدَهَا تَوَالَتْ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ رُسُلُهَا تُبَيِّنُ لَهَا هُدَى رَبِّهَا؛ (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النِّسَاءِ: 165]، وَلَمْ يَقِفِ الْأَمْرُ هُنَا؛ بَلْ زَوَّدَ اللَّهُ أُولَئِكَ الرُّسُلَ بِصَحَائِفَ وَكُتُبٍ فِيهَا مَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَكْرَهُ، وَبَيَّنَ فِيهَا طَرِيقَ الْجَنَّةِ مِنْ طَرِيقِ النَّارِ؛ (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)[الشُّورَى: 15].
وَعَلَى أَلْسِنَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَفِي مَضَامِينِ تِلْكَ الْكُتُبِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمًا؛ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى مَوْقِفِهِمْ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَيَسْأَلَ الدَّيَّانُ الرُّسُلَ وَأَقْوَامَهُمْ؛ (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الْأَعْرَافِ: 6]، وَلَنْ يَتْرُكَهُمْ حِينَهَا دُونَ وَفَاءٍ أَوْ جَزَاءٍ.
وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ -عِبَادَ اللَّهِ- يَتَحَقَّقُ وَعْدُ اللَّهِ وَيَثْبُتُ وَفَاؤُهُ؛ وَيُصْبِحُ الْعِبَادُ فَرِيقَيْنِ؛ مُتَّبِعِينَ وُجُوهُهُمْ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَمُعَرِضِينَ وُجُوهُهُمْ مُغْبَرَّةٌ؛ فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْهُدَى وَتَنَكَّبَ صِرَاطَهُ وَخَالَفَ تَعَالِيمَهُ لَاقَى ضَنْكًا وَضِيقًا، وَحَمَلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةً وَوِزْرًا وَمُنْقَلَبًا سَيِّئًا، وَمَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَفْقَ بَيَانِ كُتُبِهِ وَتَعَالِيمِ رُسُلِهِ لَاقَى جَزَاءً حَسَنًا وَمُنْقَلَبًا كَرِيمًا وَثَوَابًا عَظِيمًا، وَتِلْكُمْ هِيَ دَارُ الضِّيَافَةِ وَنُزُلُ الْكَرَامَةِ.
عِبَادَ اللَّهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّبِعُونَ مِنْ لَحْظَةِ الْبَعْثِ رَغْمَ الْأَهْوَالِ الْمُفْجِعَاتِ وَكَثْرَةِ الْمُتَغَيِّرَاتِ يَعِيشُونَ وَضْعًا مُخْتَلِفًا عَمَّا يَعِيشُهُ بَقِيَّةُ الْخَلَائِقِ فِي ذَلِكَ الصَّعِيدِ الْمَهِيبِ؛ حَيْثُ يُلْقِي اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَمْنَ فَيَنْزَاحُ عَنْهُمُ الْهَمُّ وَيَسْقُطُ الْغَمُّ؛ (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)[الْأَنْبِيَاءِ: 103]، وَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ يُدْرِكُ النَّاجُونَ بَعْدَهَا أَنَّهُ لَا حُزْنَ سَيَأْتِيهِمْ وَلَا شَقَاءَ سَيُدْرِكُهُمْ.
فَإِذَا تَطَايَرَتِ الصُّحُفُ وَوُزِّعَتِ الْكُتُبُ انْقَشَعَتِ الْأَحْزَانُ وَأَدْبَرَتِ الْأَكْدَارُ؛ فَتَعْلُو الْأَصْوَاتُ وَتَرْتَفِعُ الضَّحِكَاتُ وَتَحْلُو الْعِبَارَاتُ؛ وَهُوَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)[الْحَاقَّةِ: 19-20]، وَلَا غَرَابَةَ -عِبَادَ اللَّهِ- أَنْ تُزَفَّ إِلَيْهِمُ التَّهَانِي وَالْبُشْرَيَاتُ، وَيَتَبَوَّؤُونَ بَعْدَهَا أَعَالِيَ الْقُصُورِ وَأَرْفَعَ الدَّرَجَاتِ، كَرَامَةً وَوَفَاءً بِمَا أَحْسَنُوا فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَاتِ؛ (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الْحَاقَّةِ: 21-24].
وَعِنْدَ الْمِيزَانِ مَوْقِفٌ فَرَائِحِيٌّ آخَرُ؛ فَدَارُ الضِّيَافَةِ إِمَّا يَدْخُلُونَهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ، أَوْ يُوزَنُونَ وَأَعْمَالُهُمْ فَتَرْجَحُ كِفَّةُ حَسَنَاتِهِمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ؛ فَفِي الْأُولَى سَلِمَ حَرَجَ السُّؤَالِ وَتَلَعْثُمَ الْجَوَابِ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَجَاوَزَ الْعَقَبَةَ وَسَلِمَ الْعُقُوبَةَ؛ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الْأَعْرَافِ: 8].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ وَمِنْ أَرْضِ الْمَحْشَرِ يَأْتِي الْإِذْنُ بِتَوَجُّهِ ضُيُوفِ الرَّحْمَنِ لِدَارِ الضِّيَافَةِ، وَعَنْ فَرْحَتِهِمْ لَا تَسْأَلْ؛ فَلِأَنَّهُمْ وُفُودُ الرَّحْمَنِ وَهُمْ ضُيُوفٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يُنْقَلُونَ عَلَى رَكَائِبَ عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ، تُرَافِقُهُمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ فِي مَنْظَرٍ مُدْهِشٍ وَتَكْرِيمٍ بَهِيجٍ يَسُرُّ النَّاظِرَ وَيُبْهِجُ الْخَاطِرَ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)[مَرْيَمَ: 85]، وَهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْحَفَاوَةِ، وَفِي مُنْتَهَى الِاسْتِقْبَالِ وَالْبَشَاشَةِ.
وَبَعْدَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمُؤْمِنُونَ الصِّرَاطَ وَقَبْلَ دُخُولِهِمْ دَارَ الضِّيَافَةِ، يُوقَفُونَ عِنْدَ قَنْطَرَةٍ يُنْزَعُ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَا عَلِقَ فِيهَا مِنْ أَمْرَاضِهَا وَشَوَائِبِهَا، وَمِنْ نُفُوسِهِمْ مَا الْتَصَقَ بِهَا مِنْ أَدْرَانِهَا وَمُنَغِّصَاتِهَا؛ فَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِقُلُوبٍ نَقِيَّةٍ وَصُدُورٍ صَافِيَةٍ؛ (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الْحِجْرِ: 47].
وَفِي مَوْكِبٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَهِيجٍ تَزُفُّهُمْ إِلَى أَبْوَابِهَا، يَسْتَقْبِلُهُمْ عَلَى مَدَاخِلِهَا بَوَّابُوهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتِقْبَالًا يَلِيقُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَحَفَاوَةً تُنَاسِبُ الطَّائِعِينَ، يَلْقَوْنَهُمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ، مَحْفُوفَةً بِالْوُدِّ وَالِاحْتِرَامِ؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزُّمَرِ: 73].
فَإِذَا مَا دَخَلُوا دَارَ الضِّيَافَةِ وَآوَى كُلُّ ضَيْفٍ إِلَى نُزُلِهِ وَتَبَوَّأَ كُلٌّ مَكَانَهُ، جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ أُخْرَى تُلْقِي عَلَيْهِمُ السَّلَامَ تَحِيَّةَ السِّلْمِ وَالْأَمَانِ، فِي دَارٍ لَا إِثْمَ فِيهَا وَلَا لَغْوَ الْكَلَامِ، وَتُبَشِّرُهُمْ بِطِيبِ الْعَيْشِ وَطُولِ الْمَقَامِ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرَّعْدِ: 23-24]، الْحَيَاةُ بِهَا هَنِيئَةٌ لَا تَعْتَرِيهَا مَلَالَةٌ، وَلَا تَتَخَلَّلُهَا سَآمَةٌ.
بَيْدَ أَنَّ أَعْظَمَ فَرْحَةٍ وَأَجْمَلَ بِشَارَةٍ لِضُيُوفِ الرَّحْمَنِ -جَعَلَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُمْ- هِيَ زِيَارَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِضُيُوفِهِ وَتَجَلِّيهِ بِوَجْهِهِ لِلنَّازِلِينَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ؛ فَعَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟! فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهِيَ الزِّيَادَةُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يُونُسَ: 26]؛ فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ: أَيُّ سَعَادَةٍ يَجِدُهَا أَصْحَابُ تِلْكَ النُّزُلِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمِ الرَّحْمَنَ؟! أَلَيْسَتْ رُؤْيَةً تُوَلِّدُ الْأَمَانَ وَتَجْلِبُ الِاطْمِئْنَانَ؟!
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَفِي دَارِ الضِّيَافَةِ لَا تَنْقَطِعُ الْبُشْرَيَاتُ وَلَا تَنْتَهِي الْمَسَرَّاتُ؛ فَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ مَوْقِفٌ عَلَى الْقَلْبِ جَمِيلٌ، وَأَمَانٌ عَلَى الْمَشَاعِرِ كَبِيرٌ، وَبُشْرَى عَلَى الْخَاطِرِ سَارَّةٌ؛ حَيْثُ يُنَادِي الْكَرِيمُ ضُيُوفَهُ: "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟! فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟! فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ بَعْدَهُ أَبَدًا"؛ فَيَا لَلَّهِ كَمْ هِيَ سَعَادَتُهُمْ وَفَرْحَتُهُمْ!
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ كَانَ الصَّالِحُونَ بِالْأَمْسِ الْقَرِيبِ يَقْرَأُونَ عَنْ دَارِ الضِّيَافَةِ مَا تَطِيرُ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ وَيَشْتَدُّ لَهُ شَوْقُهُمْ؛ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْعَزْمِ وَالْجِدِّ، وَيَسُوقُهُمْ عَلَى الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وَيَقُودُهُمْ إِلَى الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ فِي مَرْضَاةِ رَبِّ الْأَرْبَابِ؛ كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)[فُصِّلَتْ: 31]، وَقَوْلِهِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السَّجْدَةِ: 17]، وَمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سُنَّتِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ يَقُولُ اللَّهُ: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، وَالْيَوْمَ يَجِدُونَهُ وَاقِعًا مُشَاهَدًا، وَحَقِيقَةً مَلْمُوسَةً.
اللَّهُمَّ عِيشَةً هَنِيَّةً، وَمِيتَةً سَوِيَّةً، وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ وَلَا فَاضِحٍ.
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَلِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ...
الخطبة الثانية:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سَأَنْطَلِقُ بِكُمْ فِي لَمْحَةٍ عَجْلَى سَرِيعَةٍ، أُحَدِّثُكُمْ عَنْ دَارِ الضِّيَافَةِ، أَطُوفُ بِكُمْ بَيْنَ جَنَبَاتِهَا لِتَرَوْا مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِيهَا؛ كَأَنَّهَا رَأْيُ الْعَيْنِ مِمَّا ثَبَتَ فِي نُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ، عَنِ الْجَزَاءِ الْوِفَاقِ وَالْعَطَاءِ الدَّفَّاقِ، وَمَا يَحْتَوِيهِ مِنَ الْبَهَاءِ وَالْجَمَالِ وَالضِّيَافَةِ وَالْأَنَاقَةِ، وَالرَّاحَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، مِمَّا لَا يُحْصِيهِ وَصْفٌ، أَوْ يُصِيغُهُ لِسَانٌ، أَوْ يَكْشِفُ عَنْهُ بَيَانٌ.
عِبَادَ اللَّهِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّازِلِ فِي دَارِ الضِّيَافَةِ إِلَّا أَنَّ الرَّحْمَنَ الَّذِي بَنَى، وَالْجَارَ فِيهَا الْمُصْطَفَى، وَبِهَا كُلُّ رُسُلِ اللَّهِ وَمَنِ اجْتَبَى، وَالصَّحْبُ وَالْأَتْبَاعُ وَمَنِ اهْتَدَى، وَذَلِكَ غَايَةُ شَرَفِكَ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: بِنَاءٌ مُحْكَمٌ وَتَصْمِيمٌ مُتْقَنٌ؛ لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ، بِالْعَرْشِ سَقْفُهَا، وَبِالسَّلَامِ حَبَاهَا، وَبِالْأَمَانِ جَمَّلَهَا، وَرِضَاهُ زَيَّنُهَا، وَبِرُؤْيَتِهِ طَيَّبَهَا.
دَارُ الضِّيَافَةِ: طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا طَيِّبُونَ أَبْرَارٌ، وَمُقَرَّبُونَ أَطْهَارٌ، وَسَابِقُونَ أَخْيَارٌ، لَمْ يَكُنْ هَمُّهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ سِوَى مَرْضَاةِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، نُفُوسُهُمْ صَافِيَةٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ زَكِيَّةٌ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: سَاكِنُوهَا شَبَابٌ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ، عَلَى صُوَرِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، طُولُهُمْ سِتُّونَ، وَالْعُمْرُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: نَعِيمٌ مُقِيمٌ وَخُلُودٌ دَائِمٌ، مَنْ دَخَلَهَا لَا يَفْنَى وَلَا يَمُوتُ، وَلَا يَنْصَبُ وَلَا يَتْعَبُ، ثِيَابُهُمْ لَا تَبْلَى، وَشَبَابُهُمْ لَا يَفْنَى، وَقُوَّتُهُمْ لَا تَضْعُفُ، لَا يَشِيخُونَ وَلَا يَهْرَمُونَ، لَا يَمْرَضُونَ وَلَا يَنَامُونَ، لَا يَجُوعُونَ وَلَا يَظْمَؤُونَ، لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَتْفِلُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ، لَا يَعْتَرِيهِمُ الْغَضَبُ وَلَا يُدَانِيهِمُ الْحُزْنُ وَلَا النَّصَبُ، لَيْسَ عَنْهَا يَرْحَلُونَ، وَلَا هُمْ فِيهَا يُبَادُونَ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: لَا يَجِدُونَ فِيهَا سَمُومًا وَلَا زَمْهَرِيرًا، وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، بَلْ ظِلًّا ظَلِيلًا، فِي الْعَشِيَّةِ، تُسْدَلُ حُجُبُهَا وَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا، وَفِي الْبُكُورِ تُرْفَعُ وَتُفْتَحُ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَنُورٌ يَتَلَأْلَأُ، خَيْمَةٌ مَنِيفَةٌ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، أَبْوَابُهَا ثَمَانِيَةٌ، وَدَرَجَاتُهَا عَالِيَةٌ، وَمَرَاتِبُهَا رَفِيعَةٌ، مُتَفَاوِتَةُ النُّزُلِ وَطَيِّبَةُ الْمَسَاكِنِ، فِرْدَوْسٌ أَعْلَاهَا، وَالْوَسِيلَةُ أَرْقَاهَا، وَطُوبَى أَطْوَلُهَا.
دَارُ الضِّيَافَةِ: سُرُرٌ مَوْضُونَةٌ، وَأَرَائِكُ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، وَرَفَارِفُ خُضْرٌ، وَعَبْقَرِيٌّ حِسَانُ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: نِسَاؤُهَا أَبْكَارٌ كَوَاعِبُ، مِثْلَ لَآلِئَ مَكْنُونَةٍ، وَدُرَرٍ مَصُونَةٌ، كَأَنَّهُنَّ يَاقُوتَةٌ وَمَرْجَانٌ، مَا مَسَّهُنَّ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، حُورٌ غَانِيَاتٌ، الْعَيْنُ وَالطَّرْفُ كَاحِلَاتٌ، بِالْمِسْكِ مُطَيَّبَاتٌ، حِسَانٌ جَمِيلَاتٌ، فِي الْخِيَامِ مَقْصُورَاتٌ، جَمَالُهُنَّ يُبْهِرُ، وَحُسْنُهُنَّ يَسْحَرُ، لِبَاسُهَا لَا يُغَطِّي مُخَّ سَاقِهَا، وَلَا يَحْجُبُ بَيَاضَ جِسْمِهَا، لَوْ بَصَقَتْ فِي بَحْرٍ جَعَلَتْ أُجَاجَهُ عَذْبًا فُرَاتًا، مُتْعَةٌ لَا تَنْقَطِعُ، وَرَغْبَةٌ لَا تَخُورُ، أُنْسٌ وَوَطَرٌ، وَبَيَاضٌ كَالْقَمْرِ، لَا حَيْضَ وَلَا نِفَاسَ، بَلْ عِنَاقٌ وَوِصَالٌ وَتَقْبِيلٌ وَمِسَاسٌ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: الطَّيْرُ عَلَى أَغْصَانِهَا تُغَنِّي، وَالْحُورُ مِنْ جَمَالِهَا وَحُسْنِهَا تُبْهِرُ وَتُغْرِي، وَالْوِلْدَانُ الْخَدَمُ بِأَكْوَابِهَا عَلَى النَّازِلِينَ تَطُوفُ وَتَلْوِي.
دَارُ الضِّيَافَةِ: أَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، وَعُيُونٌ نَاضِخَةٌ، وَظِلَالٌ وَارِفَةٌ، قُطُوفٌ دَانِيَةٌ، وَثِمَارٌ يَانِعَةٌ، طَيْرٌ يُشْوَى، وَثِمَارٌ تُدْلَى، نَهْرٌ يَجْرِي، وَكَأْسٌ يَرْوِي، لَا يَسْكَرُ صَاحِبُهُ وَلَا يَهْذِي، إِنَّمَا سَعَادَةٌ فِي الْجِسْمِ تَسْرِي.
دَارُ الضِّيَافَةِ: سِدْرٌ مَخْضُودٌ، وَطَلْحٌ مَنْضُودٌ، وَمَاءٌ مَسْكُوبٌ، وَظِلٌّ مَمْدُودٌ، فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ، وَثِمَارٌ مُنَوَّعَةٌ مَوْفُورَةٌ، أَشْكَالٌ وَأَلْوَانٌ، مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، نَخْلٌ وَرَمَانٌ، صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: دَاخِلَهَا يَتَزَاوَرُونَ، وَفِيهَا يَتَجَدَّدُونَ، عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، وَعَلَى ضِفَافِهَا يَتَقَابَلُونَ، وَعَنْ ذِكْرَيَاتِ دُنْيَاهُمْ يَتَحَدَّثُونَ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: حَبَاهَا اللَّهُ مَفَازًا، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا، وَشَرَابًا طَهُورًا، وَكَأْسًا دِهَاقًا، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، وَسَلْسَبِيلٍ وَتَسْنِيمٍ، عُرْفُهُ زَنْجَبِيلٌ، وَمِزَاجُهُ كَافُورٌ.
أَيُّهَا الْمُشْتَاقُونَ: دَارُ الضِّيَافَةِ أَهْلُهَا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّيْرِ مَا يَشْتَهُونَ، وَمِنَ الْفَاكِهَةِ مَا يَرْغَبُونَ، لَيْسَ فِيهَا يَطْبُخُونَ، وَلَا عَلَى النَّارِ يُنْضِجُونَ، بَلْ يَأْتِيهِمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ وَيَصِلُهُمْ مَا يَرْغَبُونَ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: مِنْ سُنْدُسٍ وَحَرِيرٍ لِبَاسُهُمْ، وَإِسْتَبْرَقٍ وَذَهَبٍ ثِيَابُهُمْ، خُضْرٌ أَلْوَانُهَا، نَاعِمَةٌ مَلَامِسُهَا، وُجُوهُهُمْ بَيْضَاءُ مُبْيَضَّةٌ، وَأَسْوِرَتُهُمْ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَفِضَّةٍ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلْوَةُ، الْأَلَنْجُوجُ عُودُ الطِّيبِ.
دَارُ الضِّيَافَةِ: تَنَزَّهَتْ عَنِ اللَّغْوِ، وَتَرَفَّعَتْ عَنِ الْإِثْمِ، وَسَلِمَتْ مِنَ الْأَذَى وَمَا يُعَكِّرُ الصَّفْوَ، لَا غِلَّ فِيهَا وَلَا حَسَدَ، وَلَا كَرَاهِيَةَ وَلَا نَكَدَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ -أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ- لِضُيُوفِ الرَّحْمَنِ فِي دَارِ الضِّيَافَةِ مَا يَشْتَهُونَ، وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، نَعِيمٌ لَا يَنْفَدُ، وَسَعَادَةٌ لَا تُحَدُّ، وَجَزَاءٌ لَا يُعَدُّ، عَطَاءٌ وَهِبَاتٌ، فَضْلٌ وَكَرَامَاتٌ؛ فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَمِنْ فَضْلِهِ مُكْرَمُونَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
اللَّهُمَّ نَعِيمًا لَا يَنْفَذُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَمُرَافَقَةَ عَبْدِكَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَعْلَى جِنَانِ الْخُلْدِ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللَّهَ أَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَانْصُرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أَلَا وَصَلُّوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ، كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ فَقَالَ قَوْلًا كَرِيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
المرفقات
1729665659_خطبة مشكولة عن دار الضيافة.docx
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق