خطبة مسجد قباء بعنوان: (أتدرون من المفلس)، فضيلة الشيخ: (إبراهيم الجهني)
نص الخطبة
الخطبة الأولى:
الحمد لله أهل الحمد والثناء، يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، أحمده على النعماء، وأعوذ به من الشقاء والبلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والكبرياء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، سيد الأولين وخاتم الأنبياء صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله السادة البررة الأتقياء، وأصحابه الأخيار الأوفياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم فاهتدى، وسلّم تسليمًا كثيرًا ليس له منتهى.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله- وتأملوا فيما لأجله خلقتم، واحذر عبد الله أن يشغلك شغلٌ عن أربع ساعات: ساعةٍ ترفع فيها حاجتك إلى ربك، وساعةٍ تحاسب فيها نفسك، وساعةٍ تقضي فيها إلى إخوانك وثقاتك الذين يصدقونك عن عيوبك وينصحونك في أمرك، وساعةٍ تخلّي فيها بين نفسك وبين لذتها مما يحل ويجمل، فيكون حالك إما تزودٌ لمعاد، أو مرمةٌ لمعاش، أو لذةٌ في غير محرم، متبعًا قول الله تعالى في قيله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} [البقرة: 197].
أيها المسلمون: الإفلاس هو قمة الفاقة والفقر والعوز والعسر، فالمفلس أمره في وبال، وواقعه في سفال، وحاله في اعتلال. المفلس ظالمٌ أفّاك، متطاولٌ نهمٌ جشع. المفلس -عباد الله- وما أدراك ما المفلس؟ أتدرون من المفلس حقيقة والفقير حقًا؟ اسمعوا إلى قول خير البرية وأزكى البشرية صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، فعند مسلمٍ وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: "أتدرون من المفلس؟ أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع. فقال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار". نسأل الله العفو والعافية.
فليسمع المغتاب، وليتأمل مطلق لسانه بالسباب، وليراجع نفسه آكل المال بالباطل، ولينظر الظالم الأفّاك الذي يؤذي عباد الله ويتطاول على أعراض المسلمين ويتلذذ بأذية الناس ويظلم الضعفاء ويتأول في أموال الأغنياء؛ ليعلم هؤلاء ومن على شاكلتهم أن غدًا اقتصاصٌ فيه إفلاس، وإفلاسٌ لا عذر فيه بإعسار، ولا توقّف عنه باستظهار، ونهاية هذا الإفلاس أن يكبّ في النار.
فاحذروا حقوق العباد -رحمكم الله- وحاذروا أذيتهم، فإن حقوقهم مبنية على المشاحة والمقاصة، يوم القيامة بالحسنات والسيئات في يومٍ لا يعطي الرجل أمه حسنةً واحدة، فيقتص منه خصمه بالحسنات ويأخذه بالسيئات، فأي غبنٍ أعظم؟ وأي حسرةٍ أشد؟
فاحذروا الناس -عباد الله-، وابتعدوا عن حقوقهم، ونزهوا ألسنتكم عن أعراضهم، وغضوا عن محارمهم، ولا تحاوروا ظلمهم، فإن الموقف عسير، والحساب غير يسير، روي عن عائشة أن رسول الله قال: "الدواوين ثلاثة: فديوانٌ لا يغفر الله منه شيئًا، وديوانٌ لا يعبأ الله به شيئًا، وديوانٌ لا يترك الله منه شيئًا، فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا فالإشراك بالله، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا قط فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فمظالم العباد القصاص لا محالة" [أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد] بل إن الأمر أشد -عباد الله- وأعظم، فيوم القيامة يوم اصطفاء الحقوق ورد المظالم حتى بين البهائم، روى مسلمٌ وغيره قوله : "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجَلْحَاء من الشاة القَرْنَاء"، قال النووي: (وأما القصاص بين البهائم فليس قصاص تكليف إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاصٌ مقابلة) انتهى.
والغرض منه -عباد الله- إعلام العباد أن الحقوق لا تضيع؛ لذا فاستعدوا -رحمكم الله- بمحاكمةٍ عادلة، ومقاصةٍ عسيرة، ليس القضاء فيها بالبينات والأوراق، وإنما القضاء فيها باليقين ممن لا تخفى عليه خافية ممن لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، شهودها منك وعليك، {يَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَيۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} [النور: 24]، وخلاصة الأمر أن يقال: احذر أيها الظالم، واهنأ أيها المظلوم، فإن فات حقك في الدنيا؛ لأن صاحبك ألحن منك بالحجة وأقوى منك بالبرهان، فلن يضيع حقك يوم القيامة، قال سبحانه: {ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} [غافر: 17].
ألا فاتقوا الله، واحذروا التطاول على حقوق الله، واحذروا التطاول على حقوق الله، وخصوا بالحذر عظائمها وخص الحذر عظائمها، كعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، واحذروا شهادة الزور؛ فإنها كبيرةٌ وجريمة تعيق الحق وتصرف الحكم، واحذروا مال اليتيم؛ فإنه اقتصاصٌ ونارٌ يأكله الغادر، قال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارًاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وحاذروا الغيبة، وجانبوا النميمة، ومرّوا باللغو كرامًا، ولا تخوضوا مع الخائضين، وتأملوا الموقف يوم الدين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُونَ} [الزمر: 30-31].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بالخلاص من حقوق العباد، والتخلص من مظالمهم قبل يوم الفصل والجزاء، ففي الحديث الصحيح: "إذا خلص المسلمون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصّون مظالم الدنيا". وعند البخاري قوله : "من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم".
إذًا فابتعدوا عن أعراض إخوانكم، وأموالهم ودمائهم، واشتغلوا في نجاة أنفسكم، وحاسبوها وأدبوها قبل يوم الدين. وعليكم بالصدق والنصيحة فإنهما ينجيان من الكرب، وإياكم والكذب والغش فإنهما يؤديان إلى العطب. والزموا الصلاة والسلام على محمد ابن عبدالله، فمن لزمها كفي همه، وغفر ذنبه، واتبع أمر الله؛ فقد قال في محكم الكتاب كما جاء في سورة الأحزاب: {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم الى يوم الدين.
اللهم أعز الاسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم انصر من نصر هذا الدين، واخذل من خذل أوليائك المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم انزل عليهم عافيةً من عافيتك، وشفاءً من شفائك يا رب العالمين. اللهم وارحم موتانا، واجعل قبورهم روضةً من رياض الجنة، ولا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم يا رب العالمين. اللهم إنّا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، والدرجات العالية من الجنة يا رب العالمين. يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أمنّا في دورنا وأوطاننا، وأدم الأمن والاستقرار في بلادنا وبلاد المسلمين، اللهم آمنا في دورنا وأوطاننا، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم وفق عبدك خادم الحرمين الشريفين لما تحبه وترضاه، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعنه على أمور دينه ودنياه، واشدد عضده بولي عهده يا رب العالمين. يا ذا الجلال والإكرام. برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم احفظ رجال أمننا في كل مكان، وخصّ منهم من هم في الثغور يا رب العالمين، اللهم سدد رميهم، اللهم سدد رميهم، اللهم سدد رميهم، وعليك بعدوك وعدوهم فإنهم لا يعجزونك. اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت القوي ونحن الضعفاء، أنت العزيز ونحن الأذلاء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانتين، اللهم اغثنا، اللهم اغثنا، اللهم اغثنا، اللهم غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا سحًا غدقًا عامًّا نافعًا غير ضار، اللهم اغث البلاد والعباد واجعله بلاغًا للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق برحمتك يا أرحم الراحمين.
{سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ * وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} [الصافات: 180-182].
جزاك الله خيرا
وجزاكم
المساجد الثلاثة
الخطبة بملف Word و PDF
المرفقات
https://khutabaa.com/forums/رد/364983/attachment/%d8%a3%d8%aa%d8%af%d8%b1%d9%88%d9%86-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%84%d8%b3
https://khutabaa.com/forums/رد/364983/attachment/%d8%a3%d8%aa%d8%af%d8%b1%d9%88%d9%86-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%84%d8%b3
https://khutabaa.com/forums/رد/364983/attachment/%d8%a3%d8%aa%d8%af%d8%b1%d9%88%d9%86-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%84%d8%b3-2
https://khutabaa.com/forums/رد/364983/attachment/%d8%a3%d8%aa%d8%af%d8%b1%d9%88%d9%86-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%84%d8%b3-2
تعديل التعليق