خطبة مستفادة عن الدعاء الأولاد طريق صلاحهم
بن بوصي
الدعاء للأبناء طريق صلاحهم
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا رجل من سلفنا الصالح اسمه (سُلَيْمُ بنُ أَيُّوْب الرَّازِي) أحد رواة الحديث، وفقيه شافعي، هذا الرجل من مدينة الرَّيِّ، وهى مدينة من مدن بلاد فارس، هذا الرجل يحدثنا عن موقف جرى معه في طفولته فيقول: كان عمري عشر سنوات، فَحَضَرَ بَعْض الشُّيُوْخِ وَهُوَ يُلقِّنُ - يعنى: يحفظ الصغار القرآن – فذهبت وسجلت في هذه الحلقة، فقال لي: تقدم فَاقرَأْ، فَجهدْتُ أَنْ أَقرَأَ الفَاتِحَةَ، فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لانْغِلاَقِ لِسَانِي - لأنه لم يكن يحسن العربية-، فَقَالَ الشيخ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ: قَالَ: قُلْ لَهَا تَدعُو لَكَ أَنْ يَرزُقَكَ اللهُ قِرَاءةَ القُرْآنِ وَالعِلْمَ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَرَجَعتُ، فَسَأَلتُ أمي الدُّعَاءَ، فَدَعتْ لِي، ثُمَّ إِنِّيْ كَبِرتُ، وَدَخَلتُ بَغْدَادَ، قَرَأتُ بِهَا العَرَبِيَّةَ وَالفِقْهَ، ثُمَّ عُدتُ إِلَى الرَّيِّ، فَبَيْنَما أَنَا فِي الجَامعِ أُقَابِلُ "مُخْتَصَر المُزَنِيِّ"، وهو من كتب الشافعية، (يعنى يشترك مع غيره في مناظرة حول شرح كتاب مختصر المزني ويتحدثون باللغة العربية)، وَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ حَضَرَ وَسلَّمَ عَلَيْنَا وَهُوَ لاَ يَعْرِفُنِي، فسَمِعَ: مُقَابَلَتَنَا، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَاذَا نَقُوْلُ، ثُمَّ قَالَ: مَتَى يُتَعَلَّمُ مِثْلُ هَذَا؟ يقول سُلَيْمُ: فَأَردتُ أَنْ أَقُوْلَ لشيخي: إِنْ كَانَتْ لَكَ وَالِدَةٌ، فَقُلْ لَهَا تَدعُو لَكَ، فَاسْتَحيَيتُ[1].
والله إنه لموقف عظيم، هل تدري أخي المسلم لماذا روى لنا سليم هذا الموقف؟
سُلَيْمُ عندما روى لنا هذا الموقف أراد أن يقول لكل مسلم من خلاله: إذا أردت التوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة، فعليك بدعاء أمك، إذا أردت أن تحفظ القرآن، وتكون عالِمًا، وتوفق في دراستك فعليك بدعاء أمك، إذا أردت الحصول على وظيفة، والزواج بزوجة صالحة فعليك بدعاء أمك، إذا أردت أن يحفظك الله من شر الظالمين، ومن مصائب الدنيا فعليك بدعاء أمك.
كأن سُلَيْم أراد أن يقول من خلال روايته لهذا الموقف: والله ما تعلمت العربية، وما حفظت القرآن، وما صرت عالِمًا، وفقهيًا، ولا محدِّثًا، إلا ببركة دعاء أمي، فدعوة الأم مستجابة، فأين المسلم من دعوة أمه؟
إن الكثير من الآباء والأمهات اليوم يبذلون كل شي من أجل صلاح أبنائهم واستقامتهم، فتراهم يهتمون بتوفير الطعام والشراب والملبس والمسكن، فهم يركنون إلى الأسباب المادية، ونسوا أن من أعظم أسباب صلاح أبنائهم كثرة الدعاء لهم والتضرع إلى الله تعالى ليصلحهم.
ولذلك عندما تحدث القرآن الكريم عن صفات عباد الرحمن، ماذا قال عنهم؟ من ضمن صفاتهم أنهم كانوا يدعون لأبنائهم بالصلاح والخير والاستقامة على طاعة الله، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
قال ابن كثير (رحمه الله) في تفسير لهذه الآية: "يَعْنِي: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (t): يَعْنُونَ مَنْ يَعْمَلُ بِالطَّاعَةِ، فتقرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ صَبَاحَةً وَلَا جَمَالًا وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ"
بل إن دعاء الآباء للأبناء هو منهج الأنبياء (عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه)،فنراهم أكثر الخلق اهتمامًا ببيوتهم، وأحرصهم على صلاح ذرياتهم، أتدري لماذا؟ لأنهم أدركوا دور الدعاء في صلاح الأبناء واستقامتهم، وعلاج عيوبهم، حتى إنهم دعوا الله تعالى من أجلهم قبل أن يولدوا.!
فهذا سيدنا إبراهيم (u) يرفع أكفَّ الضراعة طالبًا من الله تعالى أن يرزُقَه أبناء صالحين مصلحين، فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [، بل إن الخليل (u) لم ينقطع عن الدعـاء لذريته، بل ظل يتعهدهم بالدعوات الصالحات طوال حياتهم، ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ ، ويستمر في الدعاء: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40].
بل هذا سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) يوجِّه المسلمين إلى الدعاء لأبنائهم قبل أن يولـدوا، فيحث من أراد إتيـان أهله قضاءً لشهوته، وطلبا للـولد أن يحـرص على وقايته من الشيطان، فعن ابن عبـاسٍ (t)، عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، قَالَ: (( لَوْ أنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أتَى أهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ الشيطان .
وهذا الفضيل بن عياض سيد من سادات هذه الأمة وعالم من علمائها الأكابر، كان له ولد اسمه (علي)؛ حيث اجتهد الفضيل في تربيته اجتهادًا كبيرًا، وكان يأمل أن يكون صالحًا ورعًا تقيًّا، ولكن الأمر صعب عليه، فدعا الله تعالى قائلًا: (اللهم إنك تعلم أني اجتهدت في تأديب ولدي علي فلم أستطع، اللهم فأدبه لي)، فكان التوفيق من الله سبحانه إذ أصبح علي بن الفضيل بن عياض إمامًا كأبيه في العلم والزهد، حتى قال بعض العلماء ليُفَضَّل علي بن الفضيل على أبيه على جلالة قدر أبيه (رحمهما الله)، واسمع إلى ابن المبارك (رحمه الله) وهو يقول: "خَيرُ الناس الفُضَيْل بن عياض، وخيرٌ منه ابنه علي"، وقال سفيان بن عيينة (رحمه الله): "ما رأيتُ أحدًا أخـوف من الفُضَيْل وابنه"[4].
فدعوة الوالدين لها دور كبير في صلاح الأبناء وتوفيقهم واستقامتهم على الطاعة، إذًا علينا أن نقرع أبواب السماء دائمًا بالدعاء لأبنائنا والتضرعِ بلا ملل أو كلل، فإن من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له، ولنعلم أن الدعاء للأبناء يصلح أحوالهم، ويجبر كسرهم، ويعالج أخطاءهم، ويحميهم من شرور الدنيا والآخرة، فهيا بنا نرفع أيدينا إلى الله تعالى ونسأله أن يهديهم سواء السبيل، وأن يجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فبَقِيَ أن أنبِّه الآباء والأمهات فأقول: احذروا من الدعاء على أولادكم.
هذا رجل جاء إلى العالم الجليل عبدالله بن المبارك (رحمه الله) يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: أدعوت عليه؟ قال: نعم، قال اذهب فقد أفسدته [5].
كم من الآباء اليوم من يشتكون من مشاكل أبنائهم من انحراف وسوء خلق، وضعف دين، وعدم توفيق في العمل والدراسة إلى غير ذلك من الأمور، وإذا سألناه: هل تدعو لهم أم تدعو عليهم؟ قال: أدعو عليهم.
ولذلك حذَّر النبي (صلى الله عليه وسلم) من الدعاء على الأبناء: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ))[6] ، وقوله (صلى الله عليه وسلم): (( ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)) [7].
وتصور معي: بنت صغيرة كسرت كأسًا فتقول لها أمها. كسر الله قلبك!!ماذا لو وافقت ساعة استجابة، هل الكأس تعدل قلب البنت؟!!
أو أب يقول لولده الذي كسر شيئًا من حاجات البيت: الله يأخذ عمرك، وهل هذه الحاجة تساوي أخذة ابنه؟!
فكيف يريد مثل هذا الأب، أو تلك الأم السعادة والهناء والتوفيق والصلاح للأبناء وهم يدعون عليهم، ألا فليتق الله أولئك الآباء والأمهات الذين لا تفتر ألسنتهم من الدعاء على أبنائهم، وليعلموا أنهم سبب من أسباب ضياع أبنائهم، وسبب لفسادهم، وسبب لانتكاستهم، بل ربما كانوا سببًا في سوء خاتمتهم والعياذ بالله.
لماذا لا نستبدل هذه الدعوات على الأولاد بدعوات إيجابية؛ نحو: الله يهديك، الله يصلحك، الله يوفقك، فهذه الكلمات تجعل ولدك يوفق في الدنيا والآخرة..
فدعاء الوالدين له أبلغ الأثر في صناعة الأبناء الصالحين وهدايتهم، فربَّ دعوة صادقة من أب أو أم ردَّت شاردًا، أو أصلحت فاسدًا، أو هدت ضالًّا، أو قرَّبت بعيدًا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح ذرياتنا، وأن يجعلهم قرةَ عينٍ لنا في الدنيا والآخرة، وأن يردَّهم إلى دينه ردًّا جميلًا.