خطبة : ( مسؤولية الكلمة )

عبدالله البصري
1433/08/22 - 2012/07/12 18:25PM
مسؤولية الكلمة 23 / 8 / 1433


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَفِي عَصرٍ تَقَدَّمَت فِيهِ وَسَائِلُ الاتِّصَالاتِ ، وَتَوَفَّرَت بَرَامِجُ لِلتَّوَاصُلِ الاجتِمَاعِيِّ وَالمُحَادَثَاتِ ، وَسَهُلَتِ المُرَاسَلاتُ وَالمُكَاتَبَاتُ ، إِذْ ذَاكَ قَلَّ شَأنُ الكَلِمَةِ عِندَ الكَثِيرِينَ وَخَفَّ مِيزَانُهَا ، وَصَارُوا لا يُلقُونَ بَالاً لما يَكتُبُونَ ، بَل صَارَ شَأنُ الكَلِمَةِ لَدَى أَحَدِهِم كَضَغطَةِ زِرٍّ في جَوَّالِهِ أَو حَاسِبِهِ ، ثم هُوَ لا يَحسِبُ لما بَعدَ ذَلِكَ حِسَابًا .

وَإِذَا كَانَ لِلكَلِمَةِ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ مِنَ التَّأثِيرِ مَا لها ، في بَثِّ الفَرَحِ أَو نَشرِ الحُزنِ ، أَو جَمعِ الصَّفِّ أَو تَفرِيقِهِ ، أَو إِقَامَةِ البِنَاءِ أَو هَدمِهِ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَمرًا قَد غَفَلَ عَنهُ كَثِيرُونَ ، مَعَ أَنَّ لِلكَلِمَةِ فِيهِ أَثَرَهَا في قُربِ العَبدِ مِن رَبِّهِ أَو بُعدِهِ مِن خَالِقِهِ ، ذَلِكُم هُوَ مَا يُمكِنُ أَن يُسَمَّى بِالمِصدَاقِيَّةِ ، أَو مَسؤُولِيَّةِ الكَلِمَةِ وَتَبِعَتِهَا ، أَو بِلَفظٍ آخَرَ ، قَدرُ الكَلِمَةِ في وَاقِعِ قَائِلِهَا وَكَاتِبِهَا ، وَحَظُّهُ مِن تَطبِيقِهَا عَلَى نَفسِهِ .

إِنَّ سُهُولَةَ الكِتَابَةِ في هَذِهِ الأَجهِزَةِ الحَدِيثَةِ وَتِلكَ الشَّبَكَاتِ ، وَكَونَهَا قد لا تَحتَاجُ إِلاَّ إِلى القَصِّ أَوِ النَّسخِ ، ثم اللَّصقِ وَالإِرسَالِ لأَشخَاصٍ آخَرِينَ ، إِنَّ ذَلِكَ جَعَلَ مِنَ الكَلِمَةِ لَدَى الكَثِيرِينَ مُجَرَّدَ حَرَكَاتٍ يُؤَدِّيهَا أَحَدُهُم في ثَوَانٍ مَعدُودَةٍ ، دُونَ شُعُورٍ أَو إِحسَاسٍ بِثِقَلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ وَوَزنِهَا .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد أَمَرَ اللهُ ـ تَعَالى ـ المُؤمِنِينَ بِأَن يَتَّقُوهُ وَيَقُولُوا قَولاً سَدِيدًا ، وَوَعَدَهُم بِأَن يُصلِحَ لهم بِذَلِكَ أَعمَالَهُم وَيَغفِرَ لَهُم ذُنُوبَهُم . وَالقَولُ السَّدِيدُ الَّذِي هَذِهِ نَتِيجَتُهُ ، إِنَّمَا هُوَ القَولُ المُستَقِيمُ الَّذِي لا اعوِجَاجَ فِيهِ وَلا انحِرَافَ ، وَفي مَوضِعٍ آخَرَ يَضرِبُ اللهُ لِلكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ مَثَلاً بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتي أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا في السَّمَاءِ ، تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذنِ رَبِّهَا ، وَأَمَّا الكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ فَإِنَّمَا هِيَ شَجَرَةٌ خَبِيثَةٌ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ ، وَلَو نَظَرَ مُتَأَمِّلٌ فِيمَا يَكتُبُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَيَنشُرُونَهُ مِن رَسَائِلَ قَد تَبدُو في الظَّاهِرِ عَلَى جَانِبٍ مِنَ الجَمَالِ وَالكَمَالِ وَقُوَّةِ التَّأثِيرِ ، ثم وَازَنَ بَينَ مَا يُكتَبُ وَبَينَ الأَفعَالِ وَالتَّصَرُّفَاتِ في الوَاقِعِ ، لَوَجَدَ أَنَّ وَصفَ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ لا يَنطَبِقُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا يُكتَبُ وَلِلأَسَفِ الشَّدِيدِ ، حَتى وَإِن زَانَ لَفظُهَا وَتَمَاسَكَت كَلِمَاتُهَا وَتَنَاسَقَت عِبَارَاتُهَا ، وَحَسُنَ سَبكُهَا وَجَمُلَ رَونَقُهَا ، لماذا ؟
لأَنَّ الكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ مُتَأَصِّلَةٌ في قَلبِ صَاحِبِهَا ثَابِتَةٌ فِيهِ كَثُبُوتِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ في قَلبِ الأَرضِ ، وَهِيَ في الوَقتِ نَفسِهِ مُثمِرَةٌ ، أَي ظَاهِرَةُ الأَثَرِ عَلَى جَوَارِحِهِ وَفي تَعَامُلِهِ مَعَ مَن حَولَهُ ، وَأَمَّا الكَلِمَةُ الَّتي لا مِصدَاقِيَّةَ لها في قَلبِ صَاحِبِهَا ، فَهِيَ الكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ الَّتي هِيَ كَالشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ قَد تَخَضَرُّ وَتَتَعَالى ، وَتَتَشَابَكُ أَغصَانُهَا وَتَبدُو لِلنَّاظِرِ نَضِرَةً ذَاتَ رَوَاءٍ وَبَهَاءٍ ، وَيُخَيَّلُ إِلى بَعضِ النَّاسِ أَنَّهَا أَضخَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ وَأَقوَى ، وَلَكِنَّ جُذُورَهَا في التُّربَةِ قَرِيبَةٌ ، وَمَا هِيَ إِلاَّ أَقَلُّ رِيحٍ تَهُبُّ عَلَيهَا فَتَجتَثُّهَا مِن فَوقِ الأَرضِ فَلا تَرَى لها قَرَارًا وَلا بَقَاءً ، وَهَذَا مَثَلُ كَثِيرٍ مِمَّا يُكتَبُ وَيُرسَلُ مِن كَلِمَاتٍ وَعِبَارَاتٍ وَنَصَائِحَ ، لا تَرَى لها في قُلُوبِ أَصحَابِهَا اعتِقَادًا صَادِقًا لِمَضمُونِهَا ، وَلا تُحِسُّ أَنَّهَا مُستَقِرَّةٌ في نُفُوسِهِم وَلا مُنشَرِحَةٌ بها صُدُورُهُم ، فَهُم لا يُطَبِّقُونَهَا عَلَى أَنفُسِهِم أَوَّلاً ، وَلا يَرَى النَّاسُ أَثَرَهَا في تَعَامُلِهِم مَعَهُم وَلا في شُؤُونِ حَيَاتِهِم ثَانِيًا ، وَلَكِنَّهُم يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ ، وَيَتَظَاهَرُونَ بما لا يُبطِنُونَ ، وَيَتَشَبَّعُونَ بما لم يُعطَوا .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَأَمَّلُوا هَذَا الحَدِيثَ العَظِيمَ لِتَعلَمُوا كَيفَ يَتَعَامَلُ الإِسلامُ مَعَ الكَلِمَةِ وَصَاحِبِهَا ، في إِشَارَةٍ إِلى أَنَّهُ مَسؤُولٌ عَنهَا ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِن إِتبَاعِهَا بما يُثبِتُهَا وَيَجعَلُهَا وَاقِعًا حَيًّا ، فَعَن سُفيَانَ بنِ عبدِاللهِ الثَّقَفِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قُلْ لي في الإِسلامِ قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ . قَالَ : " قُلْ : آمَنتُ بِاللهِ ثم استَقِمْ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
فَانظُرُوا ـ يَا رَعَاكُمُ اللهُ ـ قَولَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لِمَنِ استَوصَاهُ بِوَصِيَّةٍ جَامِعَةٍ ، لَقَد أَمَرَهُ أَن يَقُولَ كَلِمَةً بِلِسَانِهِ ، ثم يُتبِعَهَا بِالسَّيرِ في وَاقِعِهِ عَلَى مَا تَستَلزِمُهُ تِلكَ الكَلِمَةُ ، مِنِ استِقَامَةٍ وَعَدَمِ اعوِجَاجٍ أَوِ انحِرَافٍ ، فَهَل نَحنُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ ؟
هَل نَحنُ مِمَّن يَحسِبُ لِكُلِّ كَلِمَةٍ قَبلَ النُّطقِ بها أَو كِتَابَتِهَا حِسَابًا ؟
الوَاقِعُ يَشهَدُ أَنَّنَا لَسنَا كَذَلِكَ ، فَكَم مِمَّن يُرسِلُ لَكَ مَوعِظَةً عَن فَضلِ عَمَلٍ صَالحٍ مَا ، وَاللهُ يَعلَمُ مِن حَالِهِ أَنَّهُ مِنَ المُتَكَاسِلِينَ عَنهُ ! وَكَم مِمَّن تَشُدُّكَ حُرُوفُهُ في الحَثِّ عَلَى حُسنِ الخُلُقِ وَطِيبِ التَّعَامُلِ ، فَإِذَا عَامَلتَهُ أَو سَبَرتَ تَصَرُّفَهُ حَتى مَعَ أَهلِهِ وَأَقرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ ، وَجَدتَهُ مِن أَسوَأِ الخَلقِ خُلُقًا وَأَسرَعِهِم غَضَبًا وَأَقرَبِهِم نَزَقًا وَأَخَفِّهِم عَقلاً !
وَكَم مِمَّن يَشغَلُكَ بِإِرسَالِ المَقَاطِعِ الَّتي تَتَحَدَّثُ عَن أَحوَالِ المُسلِمِينَ وَمَا يُصِيبُهُم مِن جُوعٍ أَو خَوفٍ أَو قَتلٍ وَتَشرِيدٍ ، وَتَرَاهُ إِذَا دُعِيَ إِلى أَقَلِّ مَا يَنصُرُهُم بِهِ ، لم تَجِدْ لَهُ فِعلاً وَلم تَسمَعْ لَهُ رِكزًا ، بَل لَعَلَّهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ نَفسِهِ ، لم يُحَرِّكْ لِسَانَهُ في يَومٍ بِدُعَاءٍ خَالِصٍ لإِخوَانِهِ المُستَضعَفِينَ بِأَن يَسُدَّ اللهُ جُوعَهُم وَيُبَدِّلَ خَوفَهُم أَمنًا وَيَنصُرَهُم عَلَى القَومِ المُجرِمِينَ ، أَفَلا يَخَافُ أَحَدُنَا ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ وَهَذَا شَأنُهُ مِن أَن يَكُونَ في زُمرَةِ الكَذَّابِينَ ؟!
أَلا يَخَافُ أَن يَكُونَ تَمَادِيهِ في ذَلِكَ فُجُورًا يُهلِكُهُ ؟! إِنَّهَا نَتَائِجُ عَظِيمَةٌ أَو أُخرَى وَخِيمَةٌ ، يُحَدِّدُهَا صِدقُ العَبدِ أَو كَذِبُهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " عَلَيكُم بِالصِّدقِ ، فَإِنَّ الصِّدقَ يَهدِي إِلى البِرِّ ، وَإِنَّ البِرَّ يَهدِي إِلى الجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرُّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حَتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقًا . وَإِيَّاكُم وَالكَذِبَ ، فَإِنَّ الكَذِبَ يَهدِي إِلى الفُجُورِ ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

عِبَادَ اللهِ ، كَفَانَا اتِّجَاهًا إِلى المِثَالِيَّاتِ البَرَّاقَةِ الزَّائِفَةِ ، وَحَذَارِ حَذَارِ مِن أَن نَقُولَ مَا لا نَفعَلُ ، أَو نُرِيَ الآخَرِينَ غَيرَ مَا يَخفَى مِنَّا ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِمَقتِ اللهِ لَنَا ، وَكَيفَ يَنتَظِرُ الخَيرَ مَن مَقَتَهُ اللهُ وَأَبعَدَهُ ؟!
أَلا فَمَا أَجمَلَهُ بِالمُسلِمِ أَن يَزِنَ فِعلَهُ عَلَى قَولِهِ ، وَأَن يَضبِطَ قَولَهُ بِفِعلِهِ ، وَأَن يَردِمَ الهُوَّةَ بَينَ هَذَينِ ، وَيَجعَلَهُمَا في وَاقِعِهِ مُتَطَابِقَينِ ، لِتَكمُلَ ذَاتُهُ وَتَشرُفَ نَفسُهُ ، وَيُقتَدَى بِهِ في الخَيرِ ولا يَكُونَ لِغَيرِهِ فِتنَةً !
إِنَّنَا ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ نَحتَاجُ إِلى أُنَاسٍ يَفعَلُونَ قَبلَ أَن يَقُولُوا ، وَإِذَا قَالُوا التَزَمُوا وَاستَقَامُوا ، وَقَد قِيلَ : مَقَامُ رَجُلٍ في أَلفٍ ، خَيرٌ مِن مَقَالِ أَلفٍ في رَجُلٍ ، نَعَم ، مَقَامُ رَجُلٍ مُطَبِّقٍ لما يَقُولُ ، مُحَاسِبٍ لِنَفسِهِ فِيمَا يَكتُبُ ، تَنطِقُ بِالخَيرِ أَفعَالُهُ قَبلَ أَقوَالِهِ ، هُوَ خَيرٌ مِن أَن يَجتَمِعَ أَلفُ رَجُلٍ قَوَّالُونَ غَيرَ فَعَّالِينَ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَأَتبِعُوا سَدِيدَ القَولِ بِرَشِيدِ العَمَلِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .

عِبَادَ اللهِ ، هَل يَجِبُ عَلَى المَرءِ عَلَى هَذَا أَن يَتَوَقَّفَ عَنِ الكِتَابَةِ تَوَقُّفًا كُلِّيًّا ، وَيُمسِكَ لِسَانَهُ وَقَلَمَهُ فَلا يَتَفَوَّهَ بِكَلِمَةٍ وَلا يَخُطَّ حَرفًا ، فَنَقُولُ : أَمَّا عَنِ الشَّرِّ فَنَعَم ، وَقَد قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ : " وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَسكُتْ "
لَكِنَّنَا لَيسَ عَن هَذَا نَتَكَلَّمُ ، فَهُوَ مِمَّا لا يَختَلِفُ فِيهِ مُسلِمَانِ وَلا يَتَمَارَى فِيهِ مُؤمِنَانِ ، وَلَكِنَّنَا نَرمِي إِلى أَمرٍ أَعظَمَ مِن هَذَا وَأَكمَلَ ، ذَلِكُم هُوَ البُعدُ كُلَّ البُعدِ عَنِ انتِحَالِ المَرءِ في كِتَابَتِهِ شَخصِيَّةَ النَّاصِحِ وَتَظَاهُرِهِ في أَقوَالِهِ بِلِبَاسِ النَّاجِحِ ، وَهُوَ في وَاقِعِ أَمرِهِ جَاهِلٌ مُبِينٌ ، مُخفِقٌ في أُسُسِ دِينِهِ مُفَرِّطٌ في أَركَانِهِ ، وَلَقَد أَحسَنَ مَن مَدَحَ الخَلِيفَةَ الزَّاهِدَ عُمَرَ بنَ عَبدِالعَزِيزِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ حَيثُ قَالَ في وَصفِهِ :
وَأَرَاكَ تَفعَلُ مَا تَقُولُ وَبَعضُهُم
مَذِقُ الحَدِيثِ يَقُولُ مَا لا يَفعَلُ
وَكَم مِمَّن هُوَ في زَمَانِنَا مَذِقُ الحَدِيثِ ، يَكتُبُ مَا لا يَفعَلُ ، وَيُرسِلُ مَا لا يُطَبِّقُ ، وَيَتَشَبَّعُ بما لَيسَ فِيهِ ، فَمَا أَشبَهَهُ بِمَن قَالَ اللهُ فِيهِم : " أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعقِلُونَ " !
إِنَّهَا خِفَّةٌ في العَقلِ أَن يَتَمَادَى المَرءُ في لِبسِ ثِيَابِ النَّاصِحِينَ ، وَيَنسَى أَنَّهَا لم تَستُرْ لَهُ عَورَةً ، وَيَتَغَافَلُ عَن أَعيُنِ الرُّقَبَاءِ الَّتي لا تَزَالُ تَلحَظُهُ في كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكُونٍ ، وَتَرمُقُهُ في كُلِّ دُخُولٍ له وَخُرُوجٍ ، وَتَعرِضُ فِعلَهُ عَلَى قَولِهِ ، فَمَا طَابَقَهُ أَخَذُوا بِهِ ، وَمَا فَارَقَهُ رَمَوا بِهِ في وَجهِهِ .

لَقَد حَكَى اللهُ ـ تَعَالى ـ عَن شُعَيبٍ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ قَولَهُ لِقَومِهِ : " وَمَا أُرِيدُ أَن أُخَالِفَكُم إِلى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَمَا تَوفِيقِي إِلَّا بِاللهِ " وَإِنَّ في ذَلِكَ لأَبلَغَ إِشَارَةٍ إِلى أَنَّ طَرِيقَ المُصلِحِينَ هِيَ مُوَافَقَةُ الفِعلِ لِلقَولِ ، وَأَنَّ مَن خَالَفَ فِعلُهُ قَولَهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ دَاعِيَةُ فَسَادٍ لا إِمَامَ رَشَادٍ .
إِنَّ مِنَ الحِكمَةِ أَن يَبدَأَ المَرءُ بِنَفسِهِ فَيُصلِحَهَا وَيُهَذِّبَهَا وَيُقَوِّمَ عِوَجَهَا ، وَحِينَهَا فَسَيَكُونُ أَبلَغَ وَاعِظٍ وَإِن هُوَ لم يَتَكَلَّمْ ، وَسَيَنقُلُ الخَيرَ وَإِن لم يَكتُبْ ، وَمَا أَحسَنَ قَولَ القَائِلِ :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعلِمُ غَيرَهُ
هَلاَّ لِنَفسِكَ كَانَ ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السَّقَامِ وَذِي الضَّنَى
كَيمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانهَهَا عَن غَيِّهَا
فَإِذَا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكِيمُ

لَيتَ شِعرِي مَاذَا يُرِيدُ مَن يَتَزَيَّنُ بما لم يَفعَلْ ، أَوَلَم يَقرَأْ قَولَ اللهِ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ يَفرَحُونَ بما أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بما لم يَفعَلُوا فَلا تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ " أَوَلَم يَتَأَمَّلْ مَا قَالَهُ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا رَوَاهُ مُسلِمٌ : " المُتَشَبِّعُ بما لم يُعطَ كَلابِسِ ثَوبَي زُورٍ " ؟!

وَأَخِيرًا ، لِيَجعَلْ كُلُّ امرِئٍ بَينَ عَينَيهِ قَولَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يُؤتَى بِالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ ، فَيُلقَى في النَّارِ ، فَتَندَلِقُ أَقتَابُ بَطنِهِ ، فَيَدُورُ بها كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَى ، فَيَجتَمِعُ إِلَيهِ أَهلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ : يَا فُلانُ ، مَا لَكَ ؟ أَلَم تَكُنْ تَأمُرُ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَى عَنِ المُنكَرِ ؟! فَيَقُولُ : بَلَى ، قَد كُنتُ آمُرُ بِالمَعرُوفِ وَلا آتِيهِ ، وَأَنهَى عَنِ المُنكَرِ وَآتِيهِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
المشاهدات 4642 | التعليقات 4

وفي هذه المشاركة ملف الخطبة (وورد)

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/مسؤولية%20الكلمة.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/مسؤولية%20الكلمة.doc


خطبة قوية يا شيخ عبدالله و كأني انظر الى قسمات الغضب في وجهك



جزاك الله خيرا
خطبة عظيمة وقوية
لكن شيخنا الفاضل كثير من السلف يقول لو لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من لم يقع منه ذنب لما أُمر بمعروف ولا نُهي عن منكر
ولا يخفى على شريف علمكم أن ما تتمنونه في خطبتكم أمر عظيم ولكن كما قال المصطفي صلوات الله وسلامه عليه كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.وقوله لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون ويستغفرون الله فيغفر لهم.الحديث وغيرها
ولست هنا أهون من أمر الكلمة وخطورتها ولكن التخويف بمثل هذا يجعلنا لا نأمر ولا ننهى لأننا ولابد تقع منا ذنوب ومعاصٍ
وللحديث مآخذ وتشعبات كثيرة
لكن معرفته من كتابات شيخنا ويقيني بسعة صدره جعلني أعقب بهذا


هذه الخطبة ـ إخوتي الكرام ـ كتبتها وأنا مسافر ، وأغلبها كتب بالجوال ... وقد عانيت حتى وجدت مقهىً لأنشرها ، ومن ثم فلم أتفرغ للتعليق على ما ذكره الأخوان الكريمان إلا الآن .
ولعلي أختصر الخطبة في نقاط لينظر إليها وحدة متكاملة :
@ الكلمة عظيمة وثقيلة .
@ المصداقية مطلوبة وواجبة .
@ سهولة النشر في هذا العصر أثرت في النفوس تأثيرًا سيئًا مفاده أن ألق كلمتك ولا عليك .
@ القول السديد سبب للصلاح وغفران الذنوب .
@ الكلمة الطيبة متجذرة في قلب صاحبها ولها أثر يظهر على جوارحه .
@ ليس جمال الكلمة في الظاهر دليلاً على أنها طيبة ما لم تكن استقامة من العبد عليها .
@ تحري العبد ألا يكتب إلا الصدق منجاة له .
@ تهاون العبد بقول أي كلمة هو كذب ، و" كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع "
@ الأمة بحاجة إلى من يفعل لا إلى من يقول ولا يفعل .
@ لا يجب أن يمسك المرء لسانه أو قلمه إلا عن الشر المحض .
@ من الكمال بعد ذلك أن يحرص على فعل ما يقول .
@ أعين الناس لا ترحم من يكتب ويكثر الكلام والوعظ .
@ طريق الأنبياء في الإصلاح هي موافقة الفعل للقول .
وأما إن كان كلامي مفهمًا أنه لا يحق للمرء أن يقول إلا ما يفعله بحذافيره فلعله من قصور كلامي عن إيصال الفكرة ، وأستغفر الله ، ولا شك أن هذا من المستحيل واقعًا ، وكلنا خطاؤون ، وكما قال ذاك الناظم :
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب ** فمن يعظ العاصين بعد محمد
ولكن ينبغي أن يفهم أن هذا في أقوام يعظون الناس ، ولكنهم لا يجاهرون بمعاصيهم ولا يصرون عليها ، وأنا قصدت أقوامًا لا يستحيون أن يعظوا في أمور هم أعرف الناس أنهم بأنفسهم لا يطبقونها ، بل ومصرون على عدم تطبيقها مُدَدًا متطاولة ، وإذا نوصحوا لم يستجيبوا .
فمثلاً عندما تأتيني رسالة في المحافظة على الصلاة من شخص أعرف جيدًا أنه يمر به الشهر والشهران بل والثلاثة ولم يشهد صلاة فجر واحدة مع الجماعة ، هذا عدا كونه لا يدرك تكبيرة الإحرام غالبًا ، أفلا يحق لي أن أغضب وأكتب مثل هذه الخطبة لعلها تنبهه على عظيم ما يقول نسبة إلى ما يفعل ؟!
وعندما تأتيني رسالة في حسن الخلق وطيب التعامل والإحسان إلى الآخرين من شخص أعرفه جيدًا له أكثر من عشر سنوات وهو مغاضب لخاله الذي هو أخو أمه وأبو زوجته ، لا يُسلِّمُ عليه ولا يزوره ، ألا يحق لي أن أكتب مثل هذه الخطبة لعلها تحيي قلبه ؟!
وعندما يرسل إلي شخص بنقاط في حسن العمل وضبطه والحرص عليه ، وأنا أعرفه جيدًا كثير التغيب عن عمله ، والمراجعون يشكون منه في كل مجلس ، أفلا يحق لي أن أنبهه إلى أنه يسيء إلى نفسه مرتين : مرة بعدم حرصه على عمله ، ومرة بتظاهره بإجادة عمله .
وعلى هذا فقيسوا ـ إخوتي ـ
ثم أنا وأمثالي من الخطباء أو كُتَّاب الخطب من أولى الناس بأن نحيي قلوبنا بمثل هذا الكلام ، لعلنا نكون حقًّا ممن يحرصون على الفعل مع القول ، بل وقبل القول .
وأخيرًا ، نسأل الله أن يعفو عنا وعن إخواننا جميعًا ، ويرزقنا إتباع القول بالعمل ، والحرص على التطبيق ، وسرعة التوبة مما وقعنا ونقع فيه من مخالفة لما نقول ، والله المستعان .