خطبة مختصرة: الاستقامة بعد موسم الحج

فيصل التميمي
1435/12/16 - 2014/10/10 05:15AM
تم إعداد الخطبة واختصارها من بعض الخطب المنشورة في هذا الملتقى المبارك
جزى الله القائمين عليه والمشاركين فيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء
**********
الاستقامة بعد موسم الحج 16/12/1435
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أَمَّا بَعْدُ: اتقوا الله حق تقاته، واشكروه على آلائه ونعمائه، اشكروه على تمام موسم الطاعة، اشكروه كثيرا على تمام موسم الحج بكل أمن وأمان وتيسير من الكريم المنان، فقد حج الحجاج ونعموا بتمام ركن من أركان الإسلام، وها هم يعودون لأهلهم وديارهم، ولا يزال البعض يتمتع بالأجواء الروحانية الإيمانية بين المقدسات في مكة والمدينة، نسأل الله أن يحفظهم وأن يردهم لبلادهم سالمين غانمين مقبولين.
أَيُّهَا النَّاسُ: تَمْضِي الْأَيَّامُ بِحُلْوِهَا وَمُرِّهَا، وَسَرَّائِهَا وَضَرَّائِهَا، وَتَمْضِي أَعْمَارُ النَّاسِ مَعَ مُضِيِّهَا، يَسْتَوِي فِي انْقِضَاءِ الْأَعْمَارِ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، وَبَرٌّ وَفَاجِرٌ، وَطَائِعٌ وَعَاصٍ، وَلَيْسَ الْخُلْدُ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدٍ مَهْمَا كَانَ، وَالْعَمَلُ وَعَدَمُهُ لَا يَمُدَّانِ الْأَجَلَ، وَلَا يُؤَخِّرَانِ المَوْتَ، إِلَّا مَا وَرَدَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ يَنْسَأُ الْأَثَرَ كَصِلَةِ الرَّحِمِ. فَالسَّنَةُ مَاضِيَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِأَشْهُرِهَا وَأَيَّامِهَا وَسَاعَاتِهَا، فَمُسْتَوْدِعٌ فِيهَا عَمَلًا صَالِحًا وَمُسْتَوْدِعٌ فِيهَا عَمَلًا سَيِّئًا.
قَدِمَ رَمَضَانُ فَصَامَ مَنْ صَامَ، وَقَامَ مَنْ قَامَ، وَأَفْطَرَ مَنْ أَفْطَرَ، وَعَصَى مَنْ عَصَى، وَمَضَى الشَّهْرُ فَدُوِّنَتْ أَعْمَالُ كُلِّ النَّاسِ.
ثُمَّ جَاءَتْ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ فَعَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُونَ، وَسَاحَ فِيهَا السَّائِحُونَ، وَلَهَا فِيهَا اللَّاهُونَ، وَمَضَتْ بِمَا عَمِلَ الْعِبَادُ فِيهَا، وَبَعْدَ أَيَّامٍ تَنْقَضِي السَّنَةُ بِمَا اسْتَوْدَعَ الْعِبَادُ فِيهَا مِنْ صَالِحِ الْعَمَلِ وَسَيِّئِهِ، وَهَكَذَا تَمْضِي الْأَيَّامُ بِالْوَاحِدِ حَتَّى يَأْتِيَ أَجَلُهُ، وَيُوَسَّدَ قَبْرَهُ، فَلَا يَجِدُ إِلَّا عَمَلَهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ سَعَةَ قَبْرِهِ، وَأَمْنَ آخِرَتِهِ، وَفَوْزَهُ بِجَنَّةِ رَبِّهِ مُرْتَهَنٌ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ.
وَلَيْسَ جَزَاءُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ فَقَطْ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُجَازِي مَنْ يَعْمَلُ صَالِحًا جَزَاءً دُنْيَوِيًّا عَاجِلًا كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ...» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبٌ لِسَعَادَةِ الْقَلْبِ وَفَرَحِهِ، وَذَهَابِ هَمِّهِ وَغَمِّهِ؛ وَالْمُؤْمِنُ يَجِدُ لَذَّةً وَسَعَادَةً عَقِبَ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَعْمَلُهُ، وَهَذِهِ السَّعَادَةُ الَّتِي لَا تُشْتَرَى بِمَالٍ، وَلَا تُنَالُ بِجَاهٍ، وَإنما هِيَ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَاجِلِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97] فَمَنْ الَّذِي لَا يُرِيدُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ الْهَانِئَةَ؟! وهي تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ من كل جِهَةٍ مهما كَانَتْ.
معاشر المسلمين: وَمَن عَلِمَ أَنَّ الإِيمَانَ اعتِقَادٌ وَقَولٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنقُصُ بِالمَعصِيَةِ ، وَأَنَّ الإِحسَانَ أَن يُرَاقِبَ رَبَّهُ في كُلِّ وَقتٍ وَفي أَيِّ مَكَانٍ ، مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ ـ تَعَالى ـ يَرَاهُ وَيَطَّلِعُ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ مِنهُ وَكَبِيرٍ ، لم يَكُنْ لِلعِبَادَةِ عِندَهُ وَقتٌ دُونَ آخَرَ ، بَل لا تَرَاهُ إِلاَّ حَرِيصًا عَلَى جَعلِ كُلِّ وَقتِهِ للهِ، مُخلِصًا في نِيَّتِهِ ، مُحسِنًا في قَولِهِ ، مُسَدِّدًا في عَمَلِهِ ، مُبتَغِيًا مَا عِندَ رَبِّهِ . ولا يَخفَى عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ ، أَنَّهُ لم يُخلَقْ وَيُوجَدْ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ لِيَأكُلَ وَيَشرَبَ وَيَلبَسَ وَيَنكَحَ فَحَسبُ ، أَو لِيَبنِيَ وَيَزرَعَ وَيَصنَعَ وَيَجمَعَ ، بل كُلُّ أُولَئِكَ إِنَّمَا هِيَ أَسبَابٌ وَوَسَائِلُ جُعِلَت لَهُ وَمُكِّنَ مِنهَا ؛ لِيَتَقَوَّى بها عَلَى العِبَادَةِ ، فَإِنْ هُوَ قَدَرَهَا بِقَدرِهَا وَاستَعمَلَهَا في رِضَا اللهِ ، كَانَت في ذَاتِهَا عِبَادَاتٍ يُؤجَرُ عَلَيهَا ، وَإِنْ هُوَ اشتَغَلَ بها عَمَّا خُلِقَ لَهُ ، كَانَت وَبَالاً عَلَيهِ يَومَ يَلقَى رَبَّهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونَ . مَا أُرِيدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ "
أَلا فَمَا أَحرَانَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أَن نَتَّقِيَ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَنَتَصَوَّرَ مَا يَجِبُ أَن نَكُونَ عَلَيهِ في سَائِرِ أَوقَاتِنَا تَصَوُّرًا صَحِيحًا ، وَأَلاَّ نَخلِطَ بَينَ مَا يُشرَعُ لِلمُؤمِنِ في مَوَاسِمِ الخَيرِ مِنَ الازدِيَادِ مِنَ الطَّاعَاتِ المَندُوبَةِ وَالسُّنَنِ المُستَحَبَّةِ ، وَبَينَ مَا يَجِبُ أَن يُحَافِظَ عَلَيهِ طُولَ عُمُرِهِ وَلا يَقصُرَ عَنهُ وَلا يُفَرِّطَ فِيهِ ، أعوذ بالهِ من الشيطان الرجيم "فَاستَقِمْ كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطغَوا إِنَّهُ بما تَعمَلُونَ بَصِيرٌ" " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكرَى لِلذَّاكِرِينَ . وَاصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ "
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تسعدكم فِي دُنْيَاكُمْ، وَتَكُونُ ذُخْرًا لَكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء: 124].
معاشر المسلمين.. عَبْدَالله يامن قدم من الحج اشكر الله تعالى أن يسر لك أداء هذا النسك العظيم، فكم مسلم في مشارق الأرض ومغاربها لم تتهيأ له الفرصة لزيارة تلك الرحاب الطاهرة وأداء مناسكها العظيمة، وقد يسر الله لك زيارتها وأعانك على أداء نسكها وعدت إلى أهلك سالماً وللأجر غانما بإذن الله، فأرِ الله منك خيراً في الثبات على دينه والاستقامة على طاعته وحافظ عَلَى أداء الْفَرَائِضِ فِي أَوْقَاتِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَجَاهِدْ نَفْسَكَ على التَزَوَّدْ مِنْ نَوَافِلِ الصَّلَاةِ مِنْ السنن الرَوَاتِبَ وَقِيَامٍّ الليل وَصَلاةِ الضُّحَى ، وَحَافِظْ عَلَى أَوْرَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَوِرْدِ الْقُرَآنِ الْيَوْمِيِّ ، فَهي زَادُكَ لِلآخِرَةِ، وَفِيهِا صَلَاحُ قَلْبِكَ وثبات جنانك وَطِيبُ نَفْسِكَ وزكائها، وَإذا ما رأيت منك كسلاً فاسْتَعِنْ بِاللهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَاضْرَعْ إِلَيْهِ أَنْ يُعِينَكَ وَأَنْ يُقَوِّيكَ عَلَى ما فيه مرضاته، ومن الدعاء الثابت عنه صلى الله عليه وسلم عقب كل صلاة : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
عَبْدَ الله: ها أنت قد عُدت من حجك -بإذن الله- كيوم ولدتك أمك. عدت وقد صفتْ صفحت أعمالك من كل شائبة فعادت بيضاء نقية، فلا تسودها بالذنوب، وكن عابداً شاكرا لربك كما كان نبيك صلى الله عليه وسلم وقد قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً".
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى بمنه وكرمه أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ العابدين الشاكرين، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا للاستقامة على طاعته وعبادته على الوجه الذي يرضيه عنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال قولا كريماً... ((ان الله وملائكته يصلون على النبي يا يها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ))
المشاهدات 2808 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


أحسن ما صنعت شيخ فيصل شكر الله لك جهدك وحسن اختيارك وبارك الله في كتاباتك وعلمك وبارك الله بجهود كل المشايخ الفضلاء.