خطبة : ( ليكن زماننا كله كرمضان )

عبدالله البصري
1445/10/02 - 2024/04/11 11:37AM
ليكن زماننا كله كرمضان     3/ 10 / 1445
 
 
 
الخطبة الأولى :
 

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كُنَّا في رَمَضَانَ ، صُمنَا نَهَارَهُ وَقُمنَا مَا تَيَسَّرَ مِن لَيلِهِ ، وَزَكَّينَا وَفَطَّرنَا الصَّائِمِينَ وَتَصَدَّقنَا ، وَقَنَتنَا وَدَعَونَا وَابتَهَلنَا ، ثم أَتَى العِيدُ فَاجتَمَعنَا وَتَوَاصَلْنَا ، وَتَزَاوَرنَا وَتَصَالَحنَا وَتَسَامَحنَا وَسُرِرنَا وَسَعِدنَا وَفَرِحنَا ، وَحَصَلَ لَنَا وَلِلمُسلِمِينَ خَيرٌ كَثِيرٌ وَأَجرٌ عَظِيمٌ ، نَرجُو أَن نَلقَاهُ وَافِيًا إِذَا بُعثِرَ مَا في القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا في الصُّدُورِ ، فَإِنَّ رَبَّنَا تَعَالى غَفُورٌ شَكُورٌ ، لا يُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً . وَهَكَذَا أَيُّهَا الإِخوَةُ فَإِنَّ المُسلِمَ لا يَزَالُ بِخَيرٍ مَا نَوَى الخَيرَ وَاستَعَدَّ لَهُ وَحَرِصَ عَلَيهِ ، وَضَرَبَ في كُلِّ مَجَالٍ مِنهُ بِسَهمٍ وَشَارَكَ فِيهِ ؛ لأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَهُوَ في مَرحَلَةِ العَمَلِ وَتَحصِيلِ الحَسَنَاتِ ، وَوَظِيفَتُهُ هِيَ العُبُودِيَّةُ لِرَبِّهِ في كُلِّ الأَوقَاتِ ، قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى جَنبٍ ، وَمُقِيمًا وَمُسَافِرًا وَبَادِيًا وَحَاضِرًا ، مَا بَينَ فَرضٍ يُؤَدِّيهِ ، أَو حَقٍّ يُعطِيهِ وَيُوَفِّيهِ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَشعُرُ أَنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلى التَّزَوُّدِ مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافُلِ وَالمُستَحَبَّاتِ وَأَعمَالِ البِرِّ ؛ لِيُكَوِّنَ ثَروَتَهُ الحَقِيقِيَّةَ ، الَّتي بِهَا بَعدَ رَحمَةِ اللهِ يَكُونُ فَوزُهُ في حَيَاتِهِ الأَبَدِيَّةِ . أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ المُسلِمَ العَاقِلَ الوَاعِيَ يَعلَمُ أَنَّهُ مِن حِينِ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّكلِيفِ إِلى أَن يَستَكمِلَ أَجلَهُ ، فَهُوَ في عَمَلٍ لا يَنتَهِي ، وَجِهَادِ لِلنَّفسِ لا يَتَوَقَّفُ ، وَأَنَّهُ لا يَنفَكُّ عَن عُبُودِيَّتِهِ لِرَبِّهِ في كُلِّ يَومٍ ، في صَلَوَاتٍ خَمسٍ وَاجِبَةٍ ، وَصَلاةِ جُمُعَةٍ مُتَعَيِّنَةٍ ، وَسُنَنٍ رَوَاتِبَ مُستَحَبَّةٍ ، وَقِيَامِ لَيلٍ وَصِيَامِ نَفلٍ ، وَقِرَاءَةِ قُرآنٍ وَذِكرٍ ، وَتَسبِيحٍ وَدُعَاءٍ ، وَبِرِّ وَالِدَينِ وَصِلَةِ رَحِمٍ ، وَإِكرَامِ ضَيفٍ وَإِحسَانٍ إِلى جَارٍ ، وَفِعلِ خَيرٍ وَبَذلِ مَعرُوفٍ ، وَتصَدُّقٍ عَلَى مِسكِينٍ وَتَفرِيجٍ عَن مَكرُوبٍ ، وَنَفعٍ لِمَن حَولَهُ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ أَو بَذلِ نَدًى ، أَو إِصلاحٍ وَكَفِّ أَذًى ، أَو أَمرٍ بِمَعرُوفٍ وَنَهيٍ عَن مُنكَرٍ ، أَو غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ في كِتَابٍ أَو سُنَّةٍ ، وَهُوَ حِينَ يَقُومُ بِأَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، فَإِنَّهُ يَستَحضِرُ أَنَّهُ يُؤَدِّي شُكرَ نِعمَةِ اللهِ عَلَيهِ ، وَيُقَدِّمُ لِنَفسِهِ وَيَبَرُّهَا وَيُحسِنُ إِلَيهَا ، في الصَّحِيحَينِ عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ : كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ يَعدِلُ بَينَ الاثنَينِ صَدَقَةٌ ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحمِلُ عَلَيهَا أَو يَرفَعُ عَلَيهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ خَطوَةٍ تَخطُوهَا إِلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَة " وَفِيهِمَا عَن أَبي مُوسَى الأَشعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ صَدَقَةٌ " قَالُوا : فَإِن لَم يَجِدْ ؟ قَالَ : " فَلْيَعمَلْ بِيَدَيهِ فَيَنفَعَ نَفسَهُ وَيَتَصَدَّقَ " قَالُوا : فَإِن لم يَستَطِعْ أَو لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : " فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلهُوفَ " قَالُوا : فَإِن لم يَفعَلْهُ ؟ قَالَ : " فَيَأمُرُ بِالخَيرِ " قَالُوا : فَإِن لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : " فَيُمسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ " بَل إِنَّ عَمَلَ المُؤمِنِ الَّذِي يُؤجَرُ عَلَيهِ يَشمَلُ مَا يَنفَعُهُ أَو يَنفَعُ مَن لَهُ عَلَيهِ حَقٌّ في دُنيَاهُ ، رَوَى الطَّبَرَانيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ عَن كَعبِ بنِ عُجرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : مَرَّ عَلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ ، فَرَأَى أَصحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن جِلَدِهِ وَنَشَاطِهِ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَو كَانَ هَذَا في سَبِيلِ اللهِ ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَإِن كَانَ خَرَجَ يَسعَى عَلَى أَبَوَينِ شَيخَينِ كَبِيرَينِ فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَإِن كَانَ خَرَجَ يَسعَى عَلَى نَفسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَإِن كَانَ خَرَجَ يَسعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ في سَبِيلِ الشَّيطَانِ " وَلَيسَ ذَلِكَ فَحَسبُ ، بَل إِنَّ المُؤمِنَ في خَيرٍ وَلَو كَانَ يُعَاني مِنَ مَرَضٍ أَوِ ابتِلاءٍ ، مَا دَامَ يَحتَسِبُ ذَلِكَ عِندَ اللهِ وَيَصبِرُ ابتِغَاءَ وَجهِهِ وَانتِظَارًا لِلفَرَجِ مِن عِندِهِ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ ، إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ ، وَلَيسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ ، إِنْ أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ " رَوَاهُ مُسلِم ٌ. أَلا فَمَا أَحرَانَا أَن نَكُونَ عِبَادَ اللهِ حَقًّا كَمَا أَمَرَنَا ، وَأَن نَأخُذَ دِينَنَا جُملَةً وَتَفصِيلاً في كُلِّ شَأنِنَا ، وَأَن نَستَقِيمَ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، غَيرَ مُتَقَيِّدِينَ بِوَقتٍ دُونَ وَقتٍ أَو بِحَالِ دُونَ حَالٍ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " فَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ " وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ . وَجَاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ مِن قَبلُ وَفي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَولاكُم فَنِعمَ المَولى وَنِعمَ النَّصِيرُ "

 

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَتُوبُوا إِلَيهِ وَاستَغفِرُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَئِن كَانَ شَهرُ رَمَضَانَ قَد انتَهَى ، فَإِنَّ الَّذِي يَقبَلُ العَمَلَ في كُلِّ وَقتٍ بَاقٍ لا يَزُولُ وَلا يَحُولُ ، وَالمُؤمِنُ مُتَعَبَّدُ لِرَبِّهِ طُولَ عُمُرِهِ ، غَيرَ أَنَّه وَإِن كَانَ قَد يُضَاعِفُ الجُهدَ في مَوَاسِمَ بِعَينِهَا كَرَمَضَانَ وَعَشرِ ذِي الحِجَّةِ وَيَومِ الجُمُعَةِ تَزَوَّدًا لِلآخِرَةِ وَاكتِسَابًا لِمَزِيدِ الحَسَنَاتِ وَمُضَاعَفِ الأُجُورِ في تِلكَ المَوَاسِمِ ، وَلأَنَّهُ يَجِدُ في تِلكَ الأَوقَاتِ المُعِينَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالمُنَافِسَ في الخَيرِ ، إِلاَّ أَنَّ لَدَيهِ أَعمَالاً دَائِمَةً لا يُفَرِّطُ فِيهَا ، وَعِبَادَاتٍ مُستَمِرَّةً لا يَتَخَلَّى عَنهَا ، قَد يَضعُفُ عَن سُنَّةٍ لَكِنَّهُ لا يَترُكُ فَرِيضَةً ، وَقَد يَكسَلُ عَن نَافِلَةٍ وَلَكِنَّهُ لا يُفَرِّطُ في وَاجِبٍ ، مَعَ أَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ قَلبُهُ حَيَاةً وَزَادَت نَفسُهُ إِلى الجَنَّةِ تَشَوُّقًا ، زَادَ في تَقَرُّبِهِ إِلى رَبِّهِ بِمَا يُحِبُّهُ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ ، وَصَارَ زَمَانُهُ كُلُّهُ كَأَنَّهُ رَمَضَانُ ، أَلا فَلْنَنتَبِهْ أَيُّهَا المُوَفَّقُونَ ، وَلْنَأخُذْ أَنفُسَنَا بِالجِدِّ في كُلِّ وَقتٍ ، فَإِنَّ رَبَّ الشُّهُورِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ لِعَمَلِنَا في كُلِّ لَحظَةٍ رَقِيبٌ مُشَاهِدٌ ، وَلْنَتَذَكَّرْ قَولَ النَّاصِحِ المُشفِقِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَن يُدخِلَ أَحَدَكُم عَمَلُهُ الجَنَّةَ ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدومُهَا وَإِن قَلَّ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَأَخِيرًا أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لِنَحرِصْ كُلَّ الحِرصِ عَلَى حِفظِ حَسَنَاتٍ جَمَعنَاهَا ، وَلْنَحذَرْ كُلَّ الحَذَرِ مِن تَضيِيعِهَا وَقَد تَعِبنَا في كَسبِهَا وَتَحصِيلِهَا ، عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ ؟ " قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : " إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَوم القِيَامَة بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتي وَقَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يَقضِيَ مَا عَلَيهِ ، أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثُمَّ طُرح في النَّار " رَوَاهُ مُسلم .

المرفقات

1712824670_ليكن زماننا كله كرمضان.docx

1712824670_ليكن زماننا كله كرمضان.pdf

المشاهدات 1390 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا