خطبة للمحرم : من عبر الهجرة

جابر السيد الحناوي
1431/01/09 - 2009/12/26 19:55PM
بســم الله الرحمــن الرحــيم


[glint]

خطـبة للمحــرم : من عــبر الهجــرة



[/glint]


الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" ( آل عمران : 102 )
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ( النساء : 1 )
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " ( الأحزاب : 70 )

أما بعــد :

يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ..."( [1] )
من هذه الأربعة : " ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ " وهى الأشهر الثلاثة التى تتم فيها رحلة الحج ذهابا وإيابا ، أما الشهر الرابع فهو شهر " َرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ" ( [2] )
شهر المحرم هو أحد الأشهر الثلاثة المحرمة ، السرد المتتابعة ... بداية العام الهجرى كما نعلم ، وقد شاع بين المسلمين فى الأزمنة الأخيرة الاحتفالُ بمناسبة الهجرة فى هذا الشهر ، احتفالات ما أنزل الله بها من سلطان ؛ ولأن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ، ولم يشرعه لأمته ، كما أن أصحابَه رضي الله عنهم فى القرون المفضلة الأولي لم يفعلوه ، فأقل ما يمكن أن يقال عنها أنها بدعة.
قال الإمام مالك بن أنس : من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمدا صلي الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأن الله سبحانه وتعالي يقول : " الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ " (من المائدة:3) فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا.
قال الإمام الشاطبى : البدعة طريقة فى الدين مخترعة ، تضاهى الشريعة ، يقصد منها المبالغة فى التعبد . ( [3] )
والأعياد والموالد والمواسم ــ باستثناء عيدى الفطر والأضحى ــ نوع من العبادات المحدثة فى دين الله ، فلا يجوز عملها ؛ لأنها من البدع ، بالإضافة إلي ما فيها من التشبه باليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة فيما أحدثوه لأنفسهم من الأعياد ، فمثلا مع بداية كل عام شمسي يحتفلون بما يسمى رأس السنة والكريسماس وما إلى ذلك ، وكثير من المسلمين بجهلهم وغبائهم وتقاعسهم ، يقلدونهم فى الاحتفال برأس السنة الهجرية أيضا أول المحرم ، وقد قال صلي الله عليه وسلم : " مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " ( [4] )
فالاحتفال بحادث الهجرة بالطريقة التى تتم بها فى أيامنا هذه ، وأيضا الاحتفال بما يسمى ــ بالمواسم الإسلامية كافة ــ والأعياد الأخري التي نقلوها لنا عن الغرب ، قد تلحق الإنسان العامل بها إلى صفوف اليهود والنصارى ــ والعياذ بالله ــ لقوله صلي الله عليه وسلم كما سمعنا : " مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " ( [5] )
فكيف إذن نستفيد من حادث الهجرة ، بدون أن نغضب الله سبحانه وتعالي علينا ؟؟ وبدون أن ندخل أنفسنا فى مشاكل مع خالقنا عز وجل ؟؟
لقد أنزل الله سبحانه وتعالي في حادث الهجرة قرآنا ، نتلوه آناء الليل وأطراف النهار ، ونتعبَّـده بقراءته فى الصلاة وفي غير الصلاة ، لكى نكون علي صلة دائمة مع الله عز وجل ، ولكى يعلمنا كيف نعتمد عليه وحده ، ونستمد منه المدد والعون وحده ، وأن نتمسك بالحق ، ونحن موقنون أن الله عز وجل لابد أن ينصرنا ، طالما أننا نتبع طريق الإسلام المبين ، ويضرب الله لنا المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمه الجميع ، على نصرة الله لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء ؛ فقد قال عز وجل في هذه الحادثة : [glint]" إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [/glint](التوبة 40)
هذه هى الآية الأربعون من سورة التوبة ، التى ذكر فيها حادث هجرة المصطفي صلي الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، وذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوى الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه ؛ فأطلعه الله عز وجلعلى ما ائتمرت ، وأوحي إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه أكثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة ، سجل الله سبحانه وتعالي حادث الهجرة في كتابه الكريم لكى نأخذ منها العبرة ــ كلما طالعناها على الدوام ــ وليس مرة واحدة فى كل عام كما يفعل المسلمون فى هذه الأيام ؛ إذ أن فيها من العبر ما يثبِّت الإيمان ، ويزيد المؤمن بصيرة وثقة بأسرار الحق في هذا الوجود .
فالله عز وجل يقرر فيها أنه نصر رسوله صلي الله عليه وسلمفى ظروف تجمَّع فيها لعدوه كلُّ ما يعرف الناسُ يومها من أسباب الغلبة الظاهرة ، دون أن يجتمع له منها سـبب واحد .
فالعبرة هنا ليست بما يجمع الناسُ من أسباب ظاهرة ، بل العبرة فيما يخفي الله عز وجل وراء تلك الأسباب من أسرار الغيب .
لقد كانت معركةً بين حزب الشيطان ممثلا في قريش بكفرها وعنادها وصلفها ، وبين حزب الله ممثلا فى محمد صلي الله عليه وسلم ومن معه .
من البديهيات : أن أية معركة حربية لها ثلاثة عناصر :
العنصر الأول الجنود ، والعنصر الثاني السلاح والعتاد ، والعنصر الثالث هو ميدان المعركة .
وتعال معى أخي المسلم لنطبق ذلك علي المعركة التى أمامنا ، وهى معركةُ الهجرة ، ونرى لمن يكون النصر ؟ وماذا نستخلص من عبر الهجرة ؟
كانت قريش قد أحالت مكة كلَّها وما يحيط بها ميدانا لمعركة رهيبة تطلب دم النبي صلي الله عليه وسلم وليس معه من الأعوان سوى رجل واحد ، هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وطبعا ليس هناك أقلُّ فى العدد من واحد ، وذلك ليقومَ الدليلُ علي أن الباطل لا حجـة له ، مهما يكن عدده ، وأن الحـقَ هو القوة الغالبة ، مهما هان فى رأى العين شأنه ، وهذا ما نستخلصه من قوله عز وجل : " إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ..."
متى يا رب ؟ " إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..."
ما عدد قواته ، كم رجل ؟ " ثَانِيَ اثْنَيْنِ..."
اثنان فقط ، في مقابلة قريش كلِّها ، اثنان أمام جيش كامل ، من قبيلة بأكملها .
وهذا هو أول ما يطالعنا من عبر الهجرة ، وأول ما يَظْهَرُ لنا من أسرار تدبير الحق عز وجل لعباده المؤمنين ، فقد أعز عبده بغير جند ، ونصره بغير معركة ، وكثَّرهُ بغير عدد وهذا ما نطالعه من بين ثنايا قوله سبحانه وتعالي : " إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ ... "
أخي المسلم : وتمضى الآية الكريمة في بيان عجائب النصر ، فلا تكتفى بتقرير هوان الكثرة الباطلة ، أمام القلة المؤمنة ، بل تعرض لأمر آخر لا يقل عجبا عن سابقه ، فمن المعروف فى الحروب أن أحد الخصمين إذا سبق خصمه إلي احتلال أصلح المواقع ، واضطر عدوه إلى النزول فى أماكن غير صالحة ، كان ذلك من عوامل النصر لمن سبق ، هذا من بديهيات وقوانين الحروب .
ولكن حين يجتمع الباطل لمنازلة الحق ، فإن الله عز وجل ينسخ كل قوانين وميزات الاستراتيجة إذا كانت ضد أهل الحق .. ولم يكن فى معركة الهجرة أضيقَ من غار نزله أحد طرفي المعركة .. غار لا مجال فيه لحركة هروب أو دفاع ، وما كان عليهم إلا أن يمدوا أيديهم ، فيأخذونه وصاحبه أخذا سهلا ، وتنتهي المعركة لصالح قريش.
ولكن هيهات لما يريد الشيطانُ وحزبُه ، فقوانين السماء تنسخ قوانين الأرض لتنبعث آية النصر ناطقة بأن الحق وحدَه هو القوةُ الغالبةُ في هذا الوجود ، وهو ما تقرره الآية الكريمة في شأن الغار بقولهعز وجل: " إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ ..." في أي مكان يارب ؟السياق يرسم لنا مشهد الرسول صلي الله عليه وسلم وصاحبه : " إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ..."والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق رضي الله عنه يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب.
فكلمة الغار هنا لم يذكرها الله عز وجل سدي ، إنما ليرفع منها علمَ هذه العبرة ، وليزيد العقولَ والقلوبَ إيمانا بسعة تدبيره جل وعلا شأنه.
أخى المسلم ...
ويمضى القرآن الكريم بعد ذلك ، ليقرر أن الرسول صلي الله عليه وسلم وقد فقد في هذه المعركة صلاحية المكان ، ومن قبله عامل الكثرة العددية ، فقد فقد عاملا آخر لا يستغني عنه في أى معركة ، هو عامل السلاح ، فى الوقت الذي تسلح فيه العدو بكل ما عرف وقتها من عدة وعتاد ، الآية تقرر ذلك ؛ لتعطى المؤمنين الدرس بأنهم إذا اضطروا إلي مثل ذلك الموقف الأعزل المحصور حتى لو منع عنهم السلاح ، حتى لو تخلي عنهم العالمُ كلُّه خوفا من أن يوصف الذى يساعدهم بالإرهاب كما يحدث الآن مثلا في فلسطين ، فإن مقادير الله عز وجل سوف تتولاهم بما لا يحلُمُون به من تدابير النصر ، وعندها يشعر المؤمن أنه من رعاية الحق في حصن منيع ، وهذا هو بعضُ ما يطالعنا من نور قوله سبحانه وتعالي : " إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... "
وسـر العبرة هو فى قوله عز وجل : " إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... " ذلك لأن الحقَ هو السر الذى قام به الوجود ، فمن اعتقد الحق وسار عليه ، فقد بني وجوده الحسي والمعنوى ، علي الأساس الذي لا تعترف قوانين الوجود بسواه ، و ذلك هو النصر كل النصر : " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " ( الحج 62)
لقد كانت كل حقائق النصر واضحة أمام أعين المصطفي صلي الله عليه وسلم وهو يقول لصاحبه : " لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... " فشعور العبد بمعية الله عز وجل تهون كلَ ما عدا الله من جند أو سلاح ، وتقر في إدراكه يقينَ النصر ؛ لذلك نرى الحبيب صلي الله عليه وسلم لما اجتمعت قريش حول غاره ، وقال له أبو بكر: لو أن أحدهم رفع قدمه رآنانجده صلي الله عليه وسلم وقد أنزل الله سكينته على قلبه ، يهدئ من روع أبي بكر ، ويطمئن من قلبه فيقول له بكل ثقة : " يا أبا بكر .. ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ( [6] ) " ... لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... "
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسولصلي الله عليه وسلممع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله عز وجل بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة والذل والصغار للذين كفروا " وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى " وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة " وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ" لا يذل أولياءه " حَكِيمٌ "يقدر النصر في حينه لمن يستحقه.

*** *** ***

ذلك درس إيمانى عميق من معاني النصر، يجب أن نعيه من عبر الهجرة ، نقدمه للذين اثاقلوا إلي الأرض ، ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة .
أقول لكم : أيها الناس ــ حكاما ومحكومين ــ استشعروا مسئوليتكم أمام الله عز وجل عن إخوانكم المسلمين الذين يبادون فى كل مكان ، لماذا لا تقفون موقفا إيجابيا من الغرب الذي يهيء الأسباب لضرب المسلمين في كل مكان ؟ لماذا لا تكون لكم مواقف إيجابية إيمانية ؟ لماذا لا تمدونهم بالمال والسلاح ؟ حتى ولو أدى ذلك إلى المواجهة المسلحة بينا وبين أعداء الله ، أما هذا السكوت وهذا الاستسلام فإنه لا يتفق وما يجب أن يتصف به أتباع الإسلام من العزة والكرامة ؛ فإنه لا يحجم ذو عقيدة في الله عن مد يد العون إلي إخوانه المسلمين المحاصرين ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن .
لذلك يقول الرسول صلي الله عليه وسلم : " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ " ( [7] ) فالنفاق - وهو دَخَلٌ في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة ، يقعد به عن الجهاد في سبيل الله خشية الناس ، وخشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد الله ، والرزق من عند الله ، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
ومن ثم نجد أن الخطاب القرآني يتوجه إليهم بالتهديد فى الآية السابقة مباشرة لذكر حادث الهجرة :
" إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( التوبة 39)
والخطاب وإن كان لقوم معينين في موقف معين . ولكنه عام في مدلوله لكل ذي عقيدة في الله ، والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده ، بل هو عذاب الدنيا أيضا ، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح ، وغلبة الأعداء عليهم ، والحرمان من الخيرات واستغلال أعدائهم لها ؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء . وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل ، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء . .
إن حادث الهجرة مثل على نصرة الله عز وجللرسوله ولكلمته ، والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله عز وجل إلى دليل !!
*** *** ***

خلاصة العبرة من الهجرة النبوية الشريفة ، يمكن تلخيصها في ست كلمات : " إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمد من الآية7) لا يحتاج منا الجيوش الجياشة ، ولا أحدث الأسلحة المتطورة وما إلي ذلك ، لا يكلفنا إلا : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... " (الأنفال من الآية60) وإن كان عندكم شك في ذلك ، فتعالوا نلقي نظرة أخيرة على آية الهجرة التي بدأنا بها خطبتنا ، فقد كرر الله عز وجل كلمة " إِذْ " ثلاث مرات :
· إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ ...
· إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ...
· إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ...
كررها سبحانه وتعالي ثلاث مرات ، لينسخ في الأولى عامل الكثرة العددية إذا كانت مبطلة .
وليبطل في الثانية ، لعبده المؤمن المضطر ، ما يسمي باستراتيجية المكان .
ولينبه في الثالثة إلي أن حقيقة النصر أن يوفَّق المرء إلي اعتقاد الحق والعملِ به ، وأن كل ما عرف الناس من ألوان السلاح ، ووسائل القتال ، إنما هي في نظر المؤمن ، أدوات معطلة مغلولة ، أمام ما يملأ قلبه من ثقة بربه عز وجل ؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالي بعد أن أوضح لنا هذا الدرس الإيماني كان أمره الواضح في الآية التالية مباشرة لها : " انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (التوبة 41)
نعم .. فلنلحظ هذا ، ولكن علينا أن نعلم أن الله لا يعطل القوانين ، ولا يبطل السنن لأهل الكسل والتشدق بمعاني الإيمان ، وإنما يفعل ذلك فقط لمن تمسك بالحق ، وأقام معالمه في نفسه ، وغلَّب سلطان الحق علي هواه ، وسخر له وقته وماله وعلمه وعقله وجوارحه ووجوده كلَّه.
هكذا يجب أن نستفيد من حادث الهجرة ، لا أن نحوله إلي عيد من أعياد الشيطان ، ونملأ شهره المحرم بالبدع والمنكرات.
نسأل الله عز وجل أن ينصرنا بالحق ، ويهب لنا العزيمة عليه ، والحياة له وبه ، والممات فى سبيله ، إنه سبحانه وتعالي وحده ولي ذلك كله والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين بمختلف الوسائل غير الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي )
[1] التوبة 36

[2] صحيح البخاري ج 14 / ص 223
[3] الإعتصام للشاطبى 1/28
[4] سنن أبي داود ج 11 / ص 48
[5] المرجع السابق

[6] صحيح البخاري 14 / 225
[7] صحيح مسلم ج 10 / ص 19
المشاهدات 2736 | التعليقات 0